والخوف من ملل يلحق السامعين لعلومهم وحكمهم، نفيا للمساكنة، واجترارا للمثافنة (1) ، وصلة للمجالسة، وفتحا للمؤانسة، وسبرا (2) لأحاديث الدنيا ماضيها وباقيها، وتواصفا لسير أهلها وما جرى فيها، وتمثيلا بين ما شاهدوه منها، وسمعوه عنها، [وعابوه من فعلها] (3) وعانوه من تقلبها، وقاسوه من تصرفها، وأخبروا به من عجائبها، ويوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبتغيه المفاوضة، فأحفظ عنهم ذلك في الحال وأتمثل به وأستفيده في أحوال.
فلما تطاولت السنون، ومات[أكثر أولئك] (4) المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم إلا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، ووجدت أخلاق ملوكنا[3 ب] ورؤسائنا لا تأتي من الفضل، بمثل ما تحتوي عليه تلك الأخبار من النبل، فيستغنى بما يشاهد من نظيره، عن حفظ ما سلف وتحبيره، بل هي مضادة لما تدل عليه تلك الحكايات من أخلاق المتقدمين وضرائبهم ، وطبائعهم ومذاهبهم، حتى إن من بقي من هؤلاء الشيوخ إذا ذكر ما يحفظه من هذا الجنس بحضرة أرباب الدولة، ورؤساء الوقت، خاصة ما كان منه متعلقا بالكرم ، ودالا على حسن الشيم، ومتضمنا ذكر وفور النعم، وكبر الهمم، وسعة الأنفس، وغضارة الزمان (5) ، ومكارم الأخلاق، كذبوا به ودفعوه، وحصلوه في أقسام الباطل واستبعدوه، ضعفا عن إتيان مثله، واستعظاما منهم لصغير ما وصلوا إليه، بالإضافة إلى كبير
صفحة ٨