الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم يسر وأعن الحمد لله الواحد العدل، وصلى الله على محمد نبيه خاتم الرسل ، وعلى آله الطيبين ذوي الطهارة والفضل.
هذه ألفاظ تلقطتها من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس، وأكثرها مما لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر، إلى التخليد في الدفاتر، وأظنها ما سبقت إلى كتب مثله، ولا تخليد بطون الصحف بشيء من جنسه وشكله، والعادة جارية في مثله، أن يحفظ إذا سمع ليذاكر به إذا جرى ما يشبهه ويقتضيه، وعرض ما يوجبه ويستدعيه.
ولعل قارئها والناظر فيها أن يستضعفها إذا وجدها خارجة عن السنن (1)
المعروفة في الأخبار، والطريق المألوف في الحكايات والآثار، الراتبة (2) في الكتب، المتداولة بين أهل الأدب، ولا سيما ما لم يعلم السبب الذي رغبني في كتبها، وهو أني اجتمعت قديما مع مشايخ فضلا، علماء أدباء (3) ، قد عرفوا أحاديث الملل، وأخبار الممالك والدول، وحفظوا مناقب الأمم ومعايبهم، وفضائلهم ومثالبهم، وشاهدوا كل فن غريب، ولون (4) طريف
صفحة ١
عجيب، من أخبار الملوك والخلفاء، والكتاب والوزراء، والسادة والأمراء، والرؤساء والفضلاء، والمحصلين والعقلاء، والأجواد والبخلاء، وذوي الكبر والخيلاء (1) ، والأشراف والظرفاء (2) ، والمخرفين والجلساء (3) ، والمحادثين والندماء، والأذكياء والفهماء، والأسخياء والكرماء، والسفهاء والحلماء، والفلاسفة والحكماء (4) ، والمتكلمين والعلماء (5) ، والمحدثين والفقهاء (6) ، وأهل الآراء والأهواء (7) ، والمتأدبين والأدباء، والمترسلين والفصحاء، والرجاز والخطباء، والعروضيين والشعراء، والنسابين والرواة، والحفاظ والدراة (8) ، واللغويين والنحاة، والشهود والقضاة (9) ، والأمناء والولاة (10) ، والمتصرفين والكفاة، والفرسان والأمجاد، والشجعان والأنجاد، والجند والقواد،
صفحة ٢
وأصحاب القنص والاصطياد، والجواسيس والمتخبرين (1) ، والسعاة والغمازين (2) ، والوراقين (3) والمعلمين، والحساب والمحررين (4) ، والعمال وأصحاب الدواوين (5) ، والتناء (6) والمزارعين، وأرباب الخراج والأرضين، والأكرة (7)
والفلاحين، والمتكلمين على الطرق (8) ، [وأصحاب الحادور والحلق] (9) ، والواعظين والقصاص (10) ، وذوي التنمس والإخلاص (11) ، وأهل الصوامع والخلوات، والسياح في الجبال والفلوات، والنساك والصالحين، والأبدال والمتفردين، (12)
صفحة ٣
والمريدين والمخبتين (1) ، والعباد والمتبتلين (2) ، والزهاد والمتوحشين (3) ، والصوفية (4) والمتواجدين (5) ، والأئمة والمؤذنين، والقراء والملحنين، [2 ب] والرجحاء والمبرزين، وأهل النقص والمقصرين، [والأغنياء والمملقين] (6) والأغبياء والمتخلفين، والفطناء والمتقدمين، والشطار والمتقين (7) ، وأصحاب العصبية والسكاكين (8) ، وقطاع الطريق والمتلصصين، والجيران والمتغربين، وأهل الخسارة والعيارين (9) ، ولعاب النرد والشطرنجيين (10) ، والملاح والمتطايبين (11) ،
صفحة ٤
[والمسامرين والمضاحكين] (1) وأصحاب النادرة والمضحكين، والمورثين والمبذرين (2) ، والطفيلية والمتطرحين (3) ، والأكلة والمواكلين، والشراب [2 ط]والمعاقرين، والمغنيات والمغنين، والرقاصين والمخنثين (4) ، وأصحاب الستائر (5) والمقينين (6) ، والمتقاينين (7) والمستمعين (8) ، وأهل الهزل والمتخالعين، والمجان والمجانين (9) ، والبله والمغفلين، والمفكرين والموسوسين (10) ، وأهل المذهب والسوداويين (11) ، والمشعبذين والمحتالين (12) ،
صفحة ٥
والملحدة والمتنبئين (1) ، والأطباء والمنجمين (2) ، والكحالين والفصادين (3) ، والأساة والمجبرين (4) ، ومعالجي الجرائح والقمائحيين (5) ، وأصحاب الزجر (6) ، والزراقين (7) ، وأهل القرعة (8) والمقالين (9) ، والطواف بالسهام (10) والمفسرين (11) ، والشحاذين والمجتدين (12) ، والمجدودين والمحدودين (13) ، والسعاة
صفحة ٦
والمسافرين (1) والمشاة والمتغربين، والسباح والغواصين، [والبانانية والملاحين] (2) ، وسلاك البحار والمفازات (3) ، وأهل المهن والصناعات، والمياسير والفقراء، والتجار والأغنياء، والفواضل من النساء، وحرائرهن والإماء، وخواص الأحجار والحيوانات، وغريب الأدوية والعلاجات، والرقى (4) والنيرنجيات (5) ، والأحاديث المفردات، وشاذ الاتفاقات، وطريف المنامات، وشريف الحكايات، وغير ذلك من ضروب أحاديث أهل الخير والشر، والنفع والضر، وسكان المدر والوبر (6) ، والبدو والحضر، شرقا وغربا، وبعدا وقربا، وكان القوم الذين استكثرت منهم، وأخذت ذلك عنهم، يحكونه في أثناء (7)
مذاكراتهم، وفي عرض مجاراتهم، وبعد انقضاء ملحهم (8) وآدابهم،
صفحة ٧
والخوف من ملل يلحق السامعين لعلومهم وحكمهم، نفيا للمساكنة، واجترارا للمثافنة (1) ، وصلة للمجالسة، وفتحا للمؤانسة، وسبرا (2) لأحاديث الدنيا ماضيها وباقيها، وتواصفا لسير أهلها وما جرى فيها، وتمثيلا بين ما شاهدوه منها، وسمعوه عنها، [وعابوه من فعلها] (3) وعانوه من تقلبها، وقاسوه من تصرفها، وأخبروا به من عجائبها، ويوردون كل فن من تلك الفنون على حسب ما تقتضيه المحادثة، وتبتغيه المفاوضة، فأحفظ عنهم ذلك في الحال وأتمثل به وأستفيده في أحوال.
فلما تطاولت السنون، ومات[أكثر أولئك] (4) المشيخة الذين كانوا مادة هذا الفن، ولم يبق من نظرائهم إلا اليسير الذي إن مات ولم يحفظ عنه ما يحكيه، مات بموته ما يرويه، ووجدت أخلاق ملوكنا[3 ب] ورؤسائنا لا تأتي من الفضل، بمثل ما تحتوي عليه تلك الأخبار من النبل، فيستغنى بما يشاهد من نظيره، عن حفظ ما سلف وتحبيره، بل هي مضادة لما تدل عليه تلك الحكايات من أخلاق المتقدمين وضرائبهم ، وطبائعهم ومذاهبهم، حتى إن من بقي من هؤلاء الشيوخ إذا ذكر ما يحفظه من هذا الجنس بحضرة أرباب الدولة، ورؤساء الوقت، خاصة ما كان منه متعلقا بالكرم ، ودالا على حسن الشيم، ومتضمنا ذكر وفور النعم، وكبر الهمم، وسعة الأنفس، وغضارة الزمان (5) ، ومكارم الأخلاق، كذبوا به ودفعوه، وحصلوه في أقسام الباطل واستبعدوه، ضعفا عن إتيان مثله، واستعظاما منهم لصغير ما وصلوا إليه، بالإضافة إلى كبير
صفحة ٨
ما احتوى أولئك عليه، وقصورا عن[3 ط]أن تنتج خواطرهم أمثال تلك الفضائل والخصال، وأن تتسع صدورهم لفعل ما يقارب تلك المكارم والأفعال هذا مع أن في زمانهم هذا من العلماء المحتسبين (1) في التعليم، [والحكماء] (2)
والأدباء المنتصبين للتأديب والتفهيم، وأهل الفضل والبراعة، في كل علم وأدب، وجد وهزل وصناعة، من يتقدم بجودة الخاطر، وحسن الباطن والظاهر، وشدة الحذق فيما يتعاطاه، والتبريز فيما يعانيه ويتولاه، كثيرا ممن تقدمه في الزمان، وسبقه بالمولد في ذلك الأوان، ويقتصر منهم على الإكرام دون الأموال، وقضاء الحاجات دون المغارم والأثقال، فما يرفعون به رأسا، ولا ينظرون إليه الا اختلاسا، لفساد هذا العصر، وتباعد حكمه من ذلك الدهر، وإن موجبات الطبائع فيه متغيرة متنقلة، والسنن دارسة متبدلة، والرغبة في التعلم معدومة، والهمم باطلة مفقودة، والاشتغال من العامة بالمعاش قاطع، ومن الرؤساء بلذاتهم البهيمية مانع (3) ، فنحن حاصلون فيما روي من الخبر إن الزمان لا يزداد إلا صعوبة، ولا الناس إلا شدة، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، وما أحسن ما أنشدني أبو الطيب المتنبي لنفسه من قصيدة، في وصف صورتنا:
أتى الزمان بنوه في شبيبته # فسرهم وأتيناه على الهرم (4)
صفحة ٩
واتفق أيضا، أنني حضرت المجالس بمدينة السلام، في سنة ستين وثلاثمائة، بعد غيبتي عنها[4 ب]سنين، فوجدتها مختلة ممن كانت به عامرة ، وبمذاكرة آهلة ناظرة، ولقيت بقايا من نظراء أولئك الأشياخ، وجرت المذاكرة، فوجدت ما كان في حفظي من تلك الحكايات قديما قد قل، وما يجري من الأفواه في معناها قد اختل، حتى صار من يحكي كثيرا مما سمعناه يخلطه بما يحيله ويفسده، ورأيت كل حكاية مما أنسيته لو كان باقيا في حفظي لصلح لفن من المذاكرة، ونوع من نشوار المحاضرة (1) فأثبت ما بقي على ما كنت أحفظه قديما، واعتقدت إثبات كل ما أسمعه من هذا الجنس، وتلميعه بما يحث على قراءته من شعر لمتأخر من المحدثين، أو مجيد من الكتاب والمتأدبين، أو كلام منثور لرجل من أهل العصر، أو رسالة أو كتاب بديع المعنى أو حسن النظم والنثر (2) ، ممن لم يكن في الأيدي شعره ولا نثره، ولا تكرر نسخ ديوانه، ولا ترددت معاني إحسانه، وما فيه من مثل طري، أو حكمة جديدة، أو نادرة حديثة، أو فائدة قريبة المولد، ليعلم أن الزمان قد بقى من القرائح والألباب، في ضروب العلوم
صفحة ١٠
والآداب، أكثر مما كان قديما أو مثله، ولكن تقبل أرباب تلك الدول [4 ط]للأدب أظهره ونشره (1) ، وزهد هؤلاء الآن في هذا الأدب غمره وستره، ولهذه الحال ما انطمست المحاسن في هذه الدول، وردت أخبار هؤلاء الملوك، وخلت التواريخ من عجائب ما يجري في هذا الوقت، لأن ذوي الفضل لا يفنون أعمارهم بتشييد مفاخر غيرهم، وإنفاق نتائج خواطرهم، مع بعدهم عن الفائدة، وخلوهم من العائدة، وأكثر الملوك وذوي الأحوال، والرؤساء وأرباب الأموال، لا يجودون عليهم فيجيد هؤلاء لهم نسج الأشعار والخطب، وحوك الرسائل والكتب التي تبقى فيها المآثر، ما أقام الدهر الغابر، فقد بخل هؤلاء، وغفل هؤلاء، ورضي كل واحد من الفريقين بالتقصير فيما يجده، والنقص فيما يعتمده، وإلا فقد خرج في أعمارنا وما قاربها من السنين، من مكنون أسرار العلم، وظهر من دقيق الخواطر والفهم، ما لعله كان معتاصا (2) على الماضين، وممتنعا على كثير من المتقدمين، وجرت في هذه المدة من الحوادث الكبار، والوقائع العظام[والانقلابات العجيبة] (3) ، والاتفاقات الغريبة، والحيل الدقيقة، والأمور المحكمة الوثيقة، التي لا يوجد مثلها سالفا. في أضعاف هذه السنين مضاعفا، ما لو قيد بتأليف الكتب، وحفظ بتصنيف الأشعار فيه والخطب، أو خلد على شرحه في تواريخ السنين والحقب، لأوفى على ما سلف، وتقدم في علو الرتب.
وقد أثبت من هذا أيضا طرفا طفيفا، ونبذا موجزا[5 ب]خفيفا، لئلا تخرج هذه الأخبار عن سبيلها، ولا تخلو مع ذلك من فنون لا توجد
صفحة ١١
إلا فيها، وليستفيد منها العاقل اللبيب، والفطن الأريب، إذا طرقت سمعه، وخالطت فهمه، من آداب النفس، ولطافة الذهن والحس، ما يغنيه عن مباشرة الأحوال، وتلقي مثله من أفواه الرجال، ويحثه على العلم (1) بالمعاش والمعاد، والمعرفة بعواقب الصلاح والفساد، وما تفضي إليه أواخر الأمور، ويساس به كافة الجمهور، ويجنبه من المكاره حتى لا يتوغل في أمثالها، ولا يتورط بنظائرها وأشكالها، ولا يحتاج معها إلى إنفاد (2) عمره في التجارب، وانتظار ما تكشفه له السنون من العواقب.
فأوردت ما كتبته مما كان في حفظي سالفا، مختلطا بما سمعته آنفا، من غير أن أجعله أبوابا مبوبة، ولا أصنفه أنواعا مرتبة، لأن فيها أخبارا تصلح أن يذاكر بكل واحد منها في عدة معاني (3) وأكثرها ما لو شغلت نفسي فيه، بالنظم والتأليف، والتصنيف والترتيب، لبرد واستثقل، وكان إذا وقف قارئه على خبر من أول كل باب فيه، علم أن مثله باقيه، فقل لقراءة جميعه ارتياحه ونشاطه، وضاق فيه توسعه وانبساطه، ولكان ذلك أيضا يفسد ما في أثنائه من الفصول والأشعار، والرسائل والأمثال، والفصول التي إن رتبت على الأبواب وجب أن توصل بما تقدم من أشباهها، وتردد في الكتب من أمثالها، فينتقض ما شرطناه، ويبطل[5 ط]ما ذكرناه، من أن هذه الأخبار جنس لم يسبق إلى كتبه (4) ، وأنا إنما تلقطتها من الأفواه دون الأوراق ، ويخرج بذلك عن القصد والمراد، والغرض
صفحة ١٢
المطلوب في الاستقامة والسداد، إذ ليست الفائدة فيها التنويع، ولا المغزى التأليف، بل لعل كثيرا مما فيها لا نظير له ولا شكل، وهو وحده جنس وأصل، واختلاطها أطيب في الآذان وأدخل، وأخف على القلوب والأذهان وأوصل.
وعلى أني وإن كنت أتجنب بجهدي أن أثبت فيها شيئا قد كتب قبلي، أو تنبه على الفائدة في إثباته سواي، إلا الشعر فإنه غير داخل في هذا الأمر، فإني في الأول ربما كتبت شيئا أعلم أنه موجود في الدفاتر عقيب شيء يوجبه ويدعو إليه، ولأجل فائدة تحببه وتحض عليه (1) ، واعتمادا لترصيع هذه الأخبار، بما يحببها إلى أكثر طلاب الآثار، وقد جعلت كل واحد من أجزائها ، وهو مائة ورقة، واحدة (2) قائما بنفسه، مستغنيا عن الباقي من جنسه، لا يخل بفائدة لقارئه دون غيره[6 ب]، ولا يضطره إلى سواه مع حضوره، وإن كان في غيره ضروب أخر من الفوائد لا تعلم إلا منه، وصدرت كل جزء برسالة تدل على جنس الأخبار الموردة في جميع الأجزاء، والغرض منها، والسبب الباعث على جمعها، مختصرة لهذا الشرح الطويل، وموجزة في جملة هذا الكلام الكثير، وأوردت في كل خبر ما اتفق إيراده مختلطا بما ربما كان في الأجزاء الأخر ما هو في معناه داخل، ومن نوعه وفنه حاصل، ومما ليس فيها أخ له على حسب ما سنح وتيسر، واتفق ولم يتعذر.
وأرجو أن لا يبور ما جمعته، ولا يضيع ما تعبت فيه وكتبته، وأثبته
صفحة ١٣
من ذلك وصنعته، فلو لم يكن فيه، إلا أنه خير من أن يكون موضعه بياضا، لكانت فائدة إن شاء الله تعالى.
وإياه أسأل التوفيق في المقال، والتسديد في جميع الأفعال، والعصمة من الزلل، والحفظ من الخطإ والوهل (1) ، إنه بذلك ولي، وبالمرجو فيه منه ملي، وهو حسبي، وإليه في كل أمر مرجعي، وعليه توكلي، ولا حول لي ولا قوة إلا به، إنه نعم المولى والوكيل.
صفحة ١٤
1 لما ذا لا يكذبون على الوزير أعزه الله
حدثني أبو العباس هبة الله بن محمد بن يوسف، المعروف بابن المنجم النديم، وهو أحد بني يحيى بن أبي منصور المنجم (1) ، صاحب المأمون، ومحل أهله وسلفه وبيته في منادمة الخلفاء والوزراء والأمراء مشهور، وموضعهم من الكلام والنجوم والعلم والأدب وقول الشعر وتصنيف الكتب في أنواع ذلك معروف، ومكانهم من المنزلة في خدمة السلطان وعظم النعمة والحال متعالم، ومحل أبي العباس في نفسه أشهر من أن يجهل في العلم والأدب وقول الشعر والمعرفة بالجدل والفقه، وغير ذلك مما يقوم به، وقد نادم أبا محمد المهلبي (2) رحمه الله، واختص به ونفق عليه[6 ط] سنين كثيرة، ومن بعده من الوزراء، وغيرهم من الرؤساء، وهو أحد بقايا[رجال] (3) أهل بيته، قال:
صفحة ١٥
كنت بحضرة أبي مخلد عبد الله بن يحيى الطبري صاحب معز الدولة (1)
فجرى ذكر الكرم والكرام، والجود والأجواد، وما كانت البرامكة وغيرها تأتيه من الأفضال على الناس، فأخذ أبو مخلد يدفع هذا ويبطله، حتى قال:
هذه حيل نصبها الشحاذون على دراهم الناس، لا أصل لها.
فقلت له: أيها الشيخ إن قلت ذلك، فقد قال صاعد (2) مثله، فأجيب.
فقال: ما قال؟ فقلت له: حكي له جود البرامكة، فقال: هذا من موضوعات الوراقين وكذبهم، وكان أبو العيناء (3) حاضرا، فقال له: فلم لا يكذب على الوزير أعزه الله[مثل هذا] (4) وهو[حي] (5) يرجى ويخاف، وأولئك موتى مأيوس من خيرهم وشرهم مثل هذا الكذب؟ قال: فخجل أبو مخلد.
صفحة ١٦
2 الوزير ابن الزيات يذكر البرامكة وهو في التنور
وفي معنى هذا[7 ب]ما أذكره، وإن كان موجودا في الكتب، ولكنه على سبيل الاستعادة، وهو حسن.
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد الأزدي، قال: بلغني أن ابن الزيات (1)
لما حصل (2) في التنور قال له بعض خدمه: لهذا وشبهه كنا نشير عليك بفعل الإحسان، وتقليد رقاب الرجال بالامتنان، واتخاذ الصنائع في حال القدرة لتجازى بها الآن عند الحاجة.
فقال: لو كنت فعلت هذا، ما حصلت منه على طائل، لما في نفوس الناس من ضعف الإخاء، وكثرة الغدر، وقلة الوفاء، وتراني كنت أفعل أكثر من أفعال البرامكة؟ما نفعهم لما حصلوا في مثل حالي من إسلام الزمان وجور السلطان؟ فقال له الخادم: لو لم ينفعهم إلا ذكرك لهم في مثل هذه الحال التي أنت فيها لكان ذلك أكبر نفع.
صفحة ١٧
3 أبو الشبل يقارن في الكرم بين البرامكة وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان
وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين[بن محمد المعروف] (1) بالأصبهاني الكاتب (2) ، قال: حدثني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي، قال:
حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان (3) ، وكان إلي محسنا، وعلي مفضلا، فجرى ذكر البرامكة (4) ، ووصف الناس لهم بالجود، وما قالوا
صفحة ١٨
في كرمهم وجوائزهم، فأكثروا.
فقمت في وسط المجلس، وقلت: أيها الوزير، قد حكمت في هذا الخطب حكما نظمته في بيتي شعر، لا يقدر أحد أن يرده علي، وإنما جعلته شعرا ليبقى ويدور، أفيأذن الوزير في إنشادهما؟ فقال: قل، فرب صواب قلت (1) ، فقلت:
رأيت عبيد الله أندى أناملا # وأكرم من فضل ويحيى وخالد (2)
ورواه لنا مرة أخرى فقال فيه:
[رأيت عبيد الله] (3) أفضل سؤددا # وأكرم من فضل ويحيى وخالد (4)
أولئك جادوا والزمان مساعد # وقد جاد ذا والدهر غير مساعد (5)
صفحة ١٩
4 الحسن المنجم عامل معز الدولة على الأهواز وحبه للعمارة
حضرت مجلس الحسن بن علي بن زيد المنجم، غلام أبي نافع، وهو إذ ذاك عامل معز الدولة رحمه الله على الأهواز وقطعة من كورها، ومحله عنده كمحل[7 ط]وزرائه، وكان قد خدم أبي رحمه الله قديما، بعد مفارقته خدمة القاسم بن دينار عامل الأهواز (1) ، وتوكل له في داره وضيعته، وخلفه على العيار في دار الضرب بسوق الأهواز ، ثم خلطه بخدمة أبي عبد الله البريدي (2) ، فعلت منزلته (3) ، ثم بلغت به الحال ما ذكرته، فكنت
صفحة ٢٠