أما الأول فقالوا الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن ومن أنكر ذلك جحد الضرورة فلولا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد لما أحس من نفسه ذلك قالوا وأنتم وافقتمونا على إحساس التفرقة بين حركة الضرورة والاختيارية ولم يخل الحال من أحد أمرين إما أن يرجع إلى نفس الحركتين من حيث أن أحديهما واقعة بقدرته والثانية واقعة بقدرة غيره وإما أن يرجع إلى صفة في القادر من حيث أنه قادر على أحديهما غير قادر على الثانية فإن كان قادرا فلا بد له من تأثير في مقدوره ويجب أن يتعين الأثر في الوجود لأن حصول الفعل بالوجود لا بصفة أخرى تقارن الوجود وما سميتموه كسبا غير معقول فإن الكسب إما أن يكون شيئا موجودا أو لم يكن شيئا موجودا فإن كان شيئا موجودا فقد سلمتم التأثير في الوجود وإن لم يكن موجودا فليس بشيء.
وأكدوا ما قالوه بقولهم إثبات قدرة لا تأثير لها كنفي القدرة فإن تعلقها بالمقدور كتعلق العلم بالمعلوم ولا يجد الإنسان تفرقة بين حركتين في أن أحديهما معلومة والثانية مجهولة ويجد التفرقة بينهما في أن أحديهما مقدورة والثانية غير مقدورة.
قلنا وقوع الفعل على حسب الدواعي ممنوع بل هو نفس المتنازع فيه ودعوى الضرورة فيه غير مستقيم لمخالفتنا إياكم في ذلك ولانتقاضه عليكم طردا وعكسا فإن أفعال النائم والساهي والغافل لم تقع على حسب الدواعي وهي منسوبة إلى العباد نسبة الإيجاد عندكم وكثير من الأعراض وقع على حسب الدواعي وهي غير منسوبة إلى العباد نسبة الإيجاد عندكم بالاتفاق كالألوان التي تحصل بالصبغ والطعوم التي تحصل بالمزج والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة عند تقريب الأجرام بعضها من بعض والشبع عند الطعام والري عقيب الشرب والفهم عند الإفهام إلى غير ذلك مما أجرى الله تعالى العادة به فلا دعوى الضرورة صحيحة ولا الدليل مطرد وأنتم مدفوعون إلى إيراد حجة على نفس ما تنازعنا فيه وهو إثبات تأثير القدرة الحادثة في الوجود من حيث هو وجود وما ذكرتموه من التفرقة بين الحركتين أما الوجدان فمسلم لكن لم قلتم أن أحديهما موجودة بالقدرة الحادثة فإنا قد بينا أنها راجعة إلى أحد أمرين إما إلى صفة في المحل وإما إلى حال في الحركة وفصلناهما أحسن تفصيل وبالجملة الإيجاد غير محسوس ولا يدرك بإحساس النفس ضرورة فقد وجدنا للتفرقة بين الحركتين والحالتين مرجعا ومردا غير الوجود أليس من أثبت المعدوم شيئا عندكم ما رد التفرقة إلى العرضية واللونية والحركية في أنها بالقدرة الحادثة فإنها صفات نفسية ثابتة في العدم ولا إلى الاحتياج إلى المحل فإنها من الصفات التابعة للحدوث فلذلك نحن لا نردها إلى الوجود فإنها من آثار القدرة الأزلية ونردها إلى ما أنتم تقابلونه بالثواب والعقاب حتى ينطبق التكليف على المقدور والمقدور على الجزا والدواعي والصوارف أيضا تتوجه إلى تلك الجهة فإن الإنسان لا يجد في نفسه داعية الإيجاد ويجد دعاية القيام والقعود والحركة والسكون والمدح والذم وهذه هيئات تحصل في الأفعال وراء الوجود تتميز عن الوجود بالخصوص والعموم فإن شئت سميتها وجوها واعتبارات وبالجملة لا تنزل في كونها معقولة عن درجة الاختصاص ببعض الجائزات الذي هو من أثر الإرادة والأحكام والإتقان الذي هو من أثر العلم وكون الصيغة أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا بالإرادة.
والسر الذي دفعنا إلى ذلك عموم تعلق قدرة الباري سبحانه وتعالى وقادريته واستدعاؤها أعم صفات الفعل وخصوص صلاحية القدرة الحادثة واستدعاؤها أخص صفات الفعل فإن الفعل كان مقدورا للباري سبحانه وتعالى قبل تعلق القدرة الحادثة أي هي على حقيقة الإمكان صلاحية والقدرة على حقيقة الإيجاد صلاحية ونفس تعلق القدرة الحادثة لم تخرج الصلاحيتين عن حقيقتهما فيجب أن تبقى على ما كانت عليه من قبل ثم يضاف إلى كل واحد من المتعلقين ما هو لائق فالوجود من حيث هو وجود إما خير محض وإما لا خير ولا شر انتسب إلى الباري سبحانه إيجادا وإبداعا وخلقا والكسب المنقسم إلى الخير والشر انتسب إلى العبد فعلا واكتسابا وليس ذلك مخلوقا بين خالقين بل مقدورا بين قادرين من جهتين مختلفتين أو مقدورين متمايزين لا يضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني.
صفحة ٢٨