وبيان آخر نقول جلت القدرة الأزلية عن أن يكون لها صلاحية مخصوصة مقصورة على وجوه من الفعل مخصوصة وقصرت القدرة الحادثة عن أن يكون لها صلاحية عامة شاملة لجميع وجوه الفعل وذلك أن صلاحية القدرة الحادثة لم تشمل جميع الموجودات بالاتفاق فلا تصلح لإيجاد الجوهر وكل عرض بل هي مقصورة على حركات مخصوصة والقدرة الحادثة فيها مختلفة الصلاحية حتى يمكن أن يقدر نوعية مخصوصة في القدرة الحادثة لتنوع الصلاحية فلذلك اقتصرت على بعض الموجودات دون البعض بخلاف قدرة الباري سبحانه فإن صلاحيتها واحدة لا تختلف فيجب أن يكون متعلقها واحدا لا يختلف وذلك هو الوجود فإذا لم يجز أن يضاف أخص الأوصاف إلى الباري سبحانه لأنه يؤدي إلى قصوره في الصلاحية كذلك لا يجوز أن يضاف أعم الأوصاف إلى القدرة الحادثة لأنه يؤدي إلى كمال في الصلاحية فلا ذاك الكمال مسلوب عن القدرة الإلهية ولا هذا الكمال ثابت للقدرة الحادثة فينعم النظر فيه لأن فيه خلاص فلا يجوز أن يضاف إلى الموجد ما يضاف إلى المكتسب حتى يقال هو الكاتب القائل القاعد القائم ولا يجوز أن يضاف إلى المكتسب ما يضاف إلى الموجد حتى يقال هو الموجد المبدع الخالق الرازق.
وعن هذا كان الجواب المرتضى عند التمييز بين الخلق والكسب أن الخلق هو الموجود بإيجاد الموجد ويلزمه حكم وشرط.
أما الحكم فإن لا يتغير الموجد بالإيجاد فيكسبه صفة ولا يكتسب عنه صفة.
وأما الشرط أن يكون عالما به من كل وجه والكسب هو المقدور بالقدرة الحادثة ويلزمه حكم وشرط.
أما الحكم فأن يتغير المكتسب بالكسب فيكسبه صفة ويكتسب عنه صفة .
وأما الشرط فأن يكون عالما ببعض وجوه الفعل أو نقول يلزمه التغيير ولا يشترط العلم به من كل وجه.
وهذا تحقيق ما قاله الأستاذ أن كل فعل وقع على التعاون كان كسبا للمستعين وحقيقة الكسب من المكتسب هو وقوع الفعل بقدرته مع تعذر انفراده به وحقيقة الخلق هو وقوع الفعل بقدرته مع صحة انفراده به وهذا أيضا شرح لما قاله الأستاذ أبو بكر أن الكسب هو أن تتعلق القدرة به على وجه ما وإن لم تتعلق به من جميع الوجوه والخلق هو أنشأ العين وإيجاد من العدم فلا فرق بين قوليهما وقول القاضي إلا أن ما سمياه وجها واعتبارا سماه القاضي صفة وحالا.
ونجا أبو الحسن رحمه الله حيث لم يثبت للقدرة الحادثة أثرا أصلا غير اعتقاد العبد بتيسير الفعل عند سلامة الآلات وحدوث الاستطاعة والقدرة والكل من الله تعالى.
وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثرا هو الوجود غير أنه لم يثبت للعبد استقلالا بالوجود ما لم يستند إلى سبب آخر ثم تتسلسل الأسباب في سلسلة الترقي إلى الباري سبحانه وهو الخالق المبدع المستقل بإبداعه من غير احتياج إلى سبب وإنما سلك في مسلك الفلاسفة حيث قالوا بتسلسل الأسباب وتأثير الوسائط الأعلى في القوابل الأدنى وإنما حمله على تقرير ذلك الاحتراز عن ركاكة الجبر والجبر على تسلسل الأسباب ألزم إذ كل مادة تستعد لصورة خاصة والصور كلها فائضة على المواد من واهب الصور جبرا حتى الاختيار على المختارين جبر والقدرة على القادرين جبر وحصول الأفعال من العباد عند النظر إلى الأسباب جبر وترتيب الجزا على الأفعال جبر وهو كالمرض يحصل عند سوء المزاج وكالسلامة تحصل عند اعتدال المزاج وكالعلم يحصل عند تجريد العقل عن الغفلة وكالصورة تحصل في المرآة عند التصقيل فالوسايط معدات لا موجدات وما له طبيعة الإمكان في ذاته استحال أن يكون موجدا على حقيقة كما بينا.
أما شبهة المعتزلة فتنحصر في مسلكين أحدهما مدارك العقل والثاني مدارك السمع.
صفحة ٢٧