وأما المذهب الثاني فيرفع معظم الآيات من الكتاب والأخبار والسنة وتغلق باب الرحمة ويفضي إلى اليأس والقنوط وإذ ورد في الكتاب في كم آية " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ففرق بين لفظ الإيمان والعمل واعلم أن الإيمان له حقيقة والعمل له حقيقة غير الإيمان وخاطب في كم آية الفاسقين بخطاب المؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تفعلوا كذا علم بذلك قطعا أن الإيمان لو كان هو العمل بعينه أو كان العمل ركنا مقيما بحقيقة الإيمان لما ميز بهذا التمييز وأيضا فيلزم الوعيدية أن لا يوجد مؤمن في العالم إلا نبي معصوم إذ لا عصمة لغير الأنبياء ويلزم أن لا يطلق اسم الإيمان على أحد حتى يستوفي جميع خصال الخير عملا وفعلا فيكون اسم الإيمان موقوفا على العمل في المستأنف فهؤلاء مرجئة الإيمان عن العمل وأولئك مرجئة العمل عن الإيمان فعلم قطعا أن العمل غير داخل في الإيمان ركنا مقوما له حتى يقال بعدمه يكفر ويخرج عن الإيمان في الحال ويعذب ويخلد في النار في ثاني الحال وغير خارج عن الإيمان تكليفا لازما له حتى يقال بعدمه لا يستحق لوما وزجرا في الحال ولا استوجب عقابا وجزاء في المآل والقول بأن المعاصي تحبط الطاعات ليس بأولى من القول بأن الطاعات ترفع المعاصي ومن قال صاحب الكبيرة يخلد في النار بشرط تخفيف العذاب عليه بسبب تصديقه قولا وعقدا وطاعته المحبطة يعارضه قول المرجئ تخليد في الجنة بشرط حطه عن درجة المطيعين بسبب إيمانه وسائر طاعاته والطاعات لو أحبطت كيف أثرت في التخفيف والتخفيف كيف يتصور مع التخليد والتخليد كيف يجوز في العدل على عمل مقدر بوقت بل وتخليد الكافر في النار متى كان عدلا عقليا وهو لم يكفر إلا مائة سنة فهلا تقدر التعذيب بمائة سنة أفمن غصب مائة دينار وأخذ منه مائتي دينار كان عدلا قال هو على اعتقاد أنه لو بقي أبد الدهر بقي على الكفر قيل واعتقاد أنه يعمل غير اعتقاد أن عمل أليس من غصب مائة دينار على اعتقاد أن لو ظفر لم يؤاخذ بالألف كذلك فيما نحن فيه فالعدل المعقول إذا ما ورد الشرع به والحكم المشروع ما دل العقل عليه وهو أن العبد إذا كان مصدقا بقلبه مخبرا عن تصديقه بلسانه مطيعا لله تعالى في بعض ما أمره به عاصيا له في البعض استحق المدح بقدر ما أطاع واللوم بقدر ما قد عصى في الحال واستحق الثواب بقدر الإيمان والطاعة والعقاب بقدر العصيان في المآل ثم يبقى أن يتعارض أمران أحدهما أن يثاب أو لا ثم يعاقب مخلدا أو بالعكس وليس في الفضل والعدل القسم الأول فإن رحمة الله أوسع من ذنوب الخلق وفضله أرجى من العمل ولا تنقصه المغفرة ولا تضره الذنوب ولأن الإيمان والمعرفة أحق بالتخليد عدلا وعقلا من معصية مؤقتة ولأنه لم يؤثر أن أحدا يخرج من الجنة إلى النار فيقي القسم الثاني وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم قد وردت سمعا حيث قال شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
وما تمسكوا به من الآيات فمخصوصات عموماتها محمولة على الاستحلال وظواهرها معارضة بآيات دلت على ذلك منها قوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ومنها قوله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " وإن خص هذا العام بالتوبة من غير دلالة التخصيص فخص تلك العمومات بحال الاستحلال في كل آية دليل على التخصيص وأما قوله تعالى " ومن يعص الله ورسوله " فمعناه يكفر به ورسوله لأنه قرنه بقوله " ويتعد حدوده " وتعدي جميع الحدود لا يتصور إلا من الكافر وأما المؤمن المطيع لله عز وجل سبعين سنة كيف يكون متعديا جميع الحدود بمعصية واحدة وكذلك قوله " بلى من كسب سيئة " أي شركا بدليل قوله وأحاطت به خطيئته والإحاطة من كل وجه لا يتصور في حق المؤمن لأنه بإيمانه منع الإحاطة من كل وجه وقوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " فمعناه مستحلا قتله لأن العمدية المطلقة من كل وجه لا تتصور إلا من الكافر ودليله آخر الآية من التشديد في العقاب والتغليظ بالغضب واللعن وذلك بالاتفاق غير مطلق على القاتل الذي لا يستحل الدم وهو خائف وجل وذكر حال الأشقياء والسعداء مقصور على مآل الحال " فأولئك مآلهم إلى النار خالدين فيها وهؤلاء مآلهم إلى الجنة خالدين فيها " والدليل عليه الاستثناء في آخر الآية.
صفحة ١٦٧