ونحن معاشر الحنفاء أثبتنا أشخاصا ربانية مفطورة بوضع الخلقة على اصطفاء من الجواهر واجتباء من العنصر مناسبة لتلك الجواهر الروحانية مناسبة النور للنور والظل للظل وللنبي عليه السلام طرفان بشرية ورسالية " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فبطرف يقبل الوحي وبطرف يؤدي الرسالة والوحي هو إلقاء الشيء إلى الشيء بسرعة فكل صورة علمية يقبلها بطرفه الروحانية عن الملائكة الذين هم رسل ربهم إليه دفعة واحدة كوقوع الصورة في المرآة فهو وحي وأقرب مثال له إلينا المنام الصادق فإن الرائي يرى كأنه نزل بستانا واجتنى ثمارا وخاض في الماء وتحدث أحاديث كثيرة من سؤال وجواب وأمر ونهي بحيث لو أملاها ملأت أوراقا وشحنت صفائح صحائف وكل ذلك في غفوة كأنها لحظة وما ذاك إلا لأن الصور والفعلية القولية إذا كانت من عالم المعاني بواسطة تلك المنام لم يستدع زمانا ولا ترتيبا بحيث يستدعيها حال اليقظة بل وقعت دفعة واحدة في نفس الرائي حتى انتقشت فيه ثم عبر عنه بعبارات كثيرة وعبر المعبر عن صورها الخيالية إلى معانيها العقلية ولذلك صارت الرؤيا الصادقة جزءا من أجزاء النبوة كما صارت التؤدة والأناة وحسن السمت جزءا من أجزاء النبوة فالنبوة إذا جملة ذات أجزاء وتلك الجملة بمجموعها لا تتحقق إلا لمن اصطفاه الله تعالى لرسالته وبعض أجزائها قد ثبت للصالحين من عباده فيبلغون إلى ذلك الجزء بطاعتهم وعبادتهم كما قال صلى الله عليه وسلم أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا إما مجموعها من حيث المجموع فلا يصل إليه أحد بكسبه واستطاعته.
وأما نزول كلام الباري تعالى فمعنى نزول الملك به فليس يستدعي النزول انتقالا فإنك تقول نزلت عن كلامي ونزل الأمير عن حقه وقد ورد إلي الخبر نزول الرب تعالى إلى السماء الدنيا وورد في القرآن مجيئه وإتيانه وذلك لا يستدعي انتقالا كما حقق في التأويلات ثم الكلام الذي هو أمره الأزلي لا يطلق عليه النزول إلا بمعنى نزول الآيات الدالة عليه ثم الإلزام على الخصم إنما يظهر إذا أثبتنا له أمرا ونهيا وإثبات الأمر إنما يظهر إذا توافقنا على أنه تعالى ملكا ومالكا وله أن يتصرف في ملكه بالأمر والنهي والتكليف على من ثبت له اختيار وإذا حصل وفاقنا على هذه المراتب وعلمنا أن كل واحد من آحاد الناس لا يتأهل لقبول أمر الله تعالى وحبا له تعين بالضرورة واحدا اصطفاه من عباده " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة " فدعواه نفسها ما الجائزات العقلية وإذا كانت الدعوى مقرونة بدليل الصدق وجب التصديق ووجب أن لا يتراخى دليل الصدق عن نفس الخبر فإن المخاطب مكلف بالتصديق في الحال ولا يتراخى الوجوب عليه إلا أن يعرف الصدق بل التمكن كاف كما بينا ولكن التمكن إنما تحقق من جانب المكلف بوجود العقل التام والعقل إنما يدرك إذا وجد دليل الصدق فكما لا يتراخى الوجوب عن وقت التكليف لا يتراخى أيضا دليل الصدق عن نفس الدعوى فليبحث ها هنا كل البحث أن الدليل المقرون بالخبر والدعوى ماذا بحيث لا يلزم إفحام ولا ينفع إحجام وأما سائر الأخبار السمعية فإذا ثبت صدق النبي وجب الإيمان بذلك والسمع والطاعة له فإن عرفنا له وجها بالدليل العقلي فبصيرة وخيرة وإن لم تعرف له وجها فتسليم وتصديق وما يستحيل في العقل وكان بين الاستحالة يعرف وجه استحالته ونعلم أن الصادق الأمين لا يقرر المستحيل فيطلب لكلامه محملا صحيحا فإذا وجدناه فخيرة وإلا أمنا وصدقنا بالظاهر ووكلنا علم الباطن إلى الله تعالى ورسوله.
صفحة ١٦٣