والبلاغة عبارة عن اجتماع المعاني الثلاثة أعني الفصاحة والجزالة والنظم بشرط أن يكون المعنى مبينا صحيحا حسنا ومن المعلوم أن القرآن فاق كلام العرب بمحاورتها ومراسلاتها وخطبها وأشعارها فصاحة وجزالة ونظما بحيث عجزت عن معارضتها عجز من لم يقدر عليها أولا وآخرا لا عجز من قدر في الأول وعجز في الآخر وإلا لكانوا يعارضونه بما تمهد عندهم من الكلام الأول فالقرآن معجز من حيث البلاغة التي هي عبارة عن مجموع المعاني الثلاثة والعرب قد أحست من أنفسها أن القرآن خارج عن جنس كلامهم جملة وكذلك كل من كان له أدنى معرفة بالعربية يعرف إعجازه إلا أن البلغاء يعرفون وجوه الإعجاز فيه على قدر مراتبهم في البلاغة ومن كان أفصح وابلغ كانت معرفته أشد وأوضح كما أن من كان أسحر في زمن موسى كان علمه ومعرفته بإعجاز العصا أوفر ومن كان أحذق في الطب في زمن عيسى كانت معرفته بإعجاز إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أكثر ومن كان أعلم في علم الطبيعة في زمن الخليل كان نفسه بإعجاز السلامة عن النار أشد وأصدق والاختلاف في وجوه الإعجاز لا يوهن وجه الإعجاز ولهذا لو اجتمع عند العالم بوجوه الإعجاز العلم بوجوه الحكم والمعاني الشريفة فيه كانت معرفته أكثر ولو ضم إلى ذلك العلم بوجوه تمهيد السياسات العامة والعبادات الخاصة والأمر بمكارم الأخلاق والنهي عن ذميمات الأفعال والحث على معالي الشيم والهمم كانت معرفته بالإعجاز في غاية الانتظام ونهاية الإبرام ومن ذا الذي يصل بفكره الضعيف وعقله الممير بمحاديات الوهم والخيال إلى الحكم المحققة في تركيب الحروف وترتيب الكلمات التي هي كالمواد والصور ومطابقتهما لعالم الخلق حتى ينطبق عالم الأمر على عالم الخلق وذلك العلم الأخص بالأنبياء عليهم السلام وهنالك تضل الأفهام وتكل الأوهام وتعود العقول البشرية عند الأسرار الإلهية هباء وتستحيل الحواس الإنسانية عند خواص الحكم الربانية عفاء " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " ولقد قصر من قصد إعجاز القرآن في سورة طويلة وحصره في آيات مخصوصة انظر إلى أول آية نزلت كيف اشتملت على وجوه من البلاغة والحكم " إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق " فمن أراد أن يعبر عن تقدير الخالقية عموما لجميع الخلق في العالم ثم خصوصا للإنسان المطابق خلقته بخلقة العالم بأسره كيف يعبر عنه بلفظ أفصح منه بيانا وأوجز لفظا وأشرف نظما وأبلغ عبارة ومعنى ثم انظر كيف خصص اسم الربوبية في حال تربيبه وكيف عمم الخلق أولا ثم خصص وكيف ابتدأ خلق الإنسان من العلق حيث كانت مرتبته في حال قبول صورة الوحي مرتبة العلق من قبول صورة الإنسان إلى أن انتهى إلى البلاغ السابع من قبول جميع القرآن الرحمن علم القرآن خلق الإنسان كما ينتهي إلى المرتبة السابعة حتى يقبل علم البيان علمه البيان وكيف قرن إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم " فالحكمة في إقرأ وإقرأ أولا وثانيا وربك الأكرم أبلغ لفظا ومعنى من إقرأ باسم ربك ثم عمم التعلم ثم خصص الإنسان كما عمم الخلق ثم خصص الإنسان وكيف اجتمعت الفصاحة في ألفاظ بأسفار وجوه المعاني وكيف اقترنت بهذه الجزالة على قلة حروفها وخفة كلماتها من غير إخلال في الدلالة وكيف انتظمت بأشرف تركيب من حيث اللفظ وأوضح ترتيب من حيث المعنى وكيف لاحت فيها البلاغة برطوبة الألفاظ ومتانة المعاني حتى كأنها جمعت علم الأولين والآخرين من تقرير العموم والخصوص وتقدم الأمر على الخلق وإضافة الهداية والخلق إليه " تبارك الله رب العالمين " فتبين من هذه القرائن أن القرآن بجملته معجز وذلك في حق من لا يعرف دقائق البلاغة وحقائق المعاني وبعشر سور منه معجز في حق قوم وبسورة واحدة معجز في حق قوم وبآية واحدة معجز في حق قوم وتتقدر مقادير الإعجاز على قدر الدراية والتحقيق.
صفحة ١٦٠