قال أهل الحق أما السؤال الأول فنقول القديم يستحيل أن يكون معجزة والمكتسب للعبد كذلك وللقرآن وجوه من المعجزات ولكل وجه وجوه من التقديرات فيجوز أن يقال أن التلاوة من حيث أنها تلاوة معجزة وتقدير الإعجاز فيها من وجهين أحدهما أن يخلق الله تعالى هذه الحروف المركبة وتلك الكلمات المنظومة في لسان التالي من غير أن يكون قادرا عليها ومحركا لسانه بقدرته واستطاعته فتمحض فعلا لله تعالى ويظهر إعجازه في نظمه المخصوص ويجوز أن يخلق الله في نفس النبي كلاما منظوما فيترجم عنه بلسانه ويكون تحريك اللسان مقدورا له لكن الكلام المعجز ما اشتمل عليه الضمير ونعت في الصدور كما قال تعالى " ولا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " أي في صدرك وقلبك فإذا قرأناه أي جمعناه فاتبع قرآنه ويجوز أن يخلق الله ذلك الكلام في قلب الملك أو في لسانه فيلقيه وحيا إلى قلب النبي ويعبر عنه النبي بلسانه كما قال تعالى " إنه لقول رسول كريم " أي تنزيلا ووحيا وكما قال " علمه شديد القوى " ويجوز أن يكون قد خلق الله هذه العبارات المنظومة بعينها في اللوح المحفوظ ليقرأ جبريل عليه السلام منه ويقرأها على النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع النبي منه كما لو يسمع الواحد منا ويكون المعجز هو الكلام المنظوم وجبريل مظهر والنبي مظهر كما أن واحدا منا يقرأه ويكون مظهرا لكن إظهار جبريل إظهارنا ليدل على صدق النبي عليه السلام وهذا كما خلق الله تعالى الناقة في الصخرة ثم أظهرها منها عند دعوة صالح عليه السلام فيكون إظهار المعجزة مقرونا بالدعوى والتحدي لا إظهار المعجز كخلق المعجز في الدلالة على الصدق وينبغي أن ننبه ها هنا على هذه الدقيقة وهي أنا إذا روينا شعر الشاعر فنحس من أنفسنا قدرة على التلفظ بذلك الشعر ولا نحس من أنفسنا قدرة على نظم ذلك بل ربما يكون الراوي عديم الطبع في إنشاء الشعر فضلا عن نظم مخصوص فما المقدور منه وما غير المقدور فنقول إذا قرأنا شعرا من كتاب أو سمعناه من لسان وحفظناه ارتسم الخيال في القلب والنفس بذلك الشعر وتمكن منه ثم عبر بلسانه عنه فيكون المسموع والمحفوظ من حيث أنه سمعه وحفظه مقدورا له لكن النظم المرتب في المحفوظ والمسموع غير مقدور له وهو كما لو ألقى من لا يعرف الكتابة أصلا لوحا منقورا فيه سور منظومة على تراب ناعم حتى انتقش بها نقشا مطابقا كان الإلقاء مقدورا له والنقش غير مقدور له إذ ليس يعرف الكتابة أصلا فالارتسام في النفس والخيال كالانتقاش في التراب سواء فيبقى نظم الشعر نقشا بعد نقش زمانا أبد الدهر وكذلك ارتسام قلب النبي من إلقاء القرآن إليه وحيا وتنزيلا كانتقاش التراب الناعم بالنقش المنقور في اللوح فيكون المرتسم قلبه والمعبر عنه لسانه والرسم غير مقدور له بل تمحض ذلك ابتداعا من الله تعالى فهذا هو طريق وجوده معجزا.
وعلى طريقة أخرى ظهور كلام الباري تعالى بالعبارات والحروف والأصوات وإن كان في نفسه واحدا أزليا كظهور جبريل بالأشخاص والأجسام والأعراض وإن كان في نفسه ذا حقيقة أخرى متقدما على الشخص فإنه لا يقال انقلبت حقيقته إلى حقيقة الجسمية في شخص معين لأن قلب الأشخاص محال وإن قيل انعدمت حقيقة ووجدت حقيقة أخرى فالثاني ليس بجبريل فلا وجه إلا أن يقال ظهر به ظهور المعنى بالعبارات أو ظهور روح ما بشخص ما فكما صارت العبارات شخص المعنى كذلك صارت صورة الأعرابي شخص الملك وقد عبر القرآن عن مثل هذا المعنى " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا " فكذلك يجب أن تفهم عبارات القرآن.
صفحة ١٥٨