وقالت المعتزلة الحكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وغرض والفعل من غير غرض سفه وعبث والحكيم من يفعل أحد أمرين إما أن ينتفع أو ينفع غيره ولما تقدس الرب تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينتفع غيره فلا يخلو فعل من أفعاله من صلاح ثم الأصلح هل تجب رعايته قال بعضهم تجب كرعاية الصلاح وقال بعضهم لا تجب إذ الأصلح لا نهاية له فلا أصلح إلا وفوقه ما هو أصلح منه ولهم كلام في اللطف وتردد في وجوب ذلك.
وقد قالت الفلاسفة واجب الوجود لا يجوز أن يفعل فعلا لعلة لا ليحمد ويتزين بالحمد والشكر ولا لينتفع أو يدفع الضرر ولا لأمر داع يدعوه ويحمله على الفعل والعالي لا يريد أمرا لأجل السافل بل الأفعال صدرت عن المبادئ الأول وهي استندت إلى العقل الفعال وإنما أبدع العقل بلوازمه وأبدع بتوسطه سائر الأشياء على وجه اللزوم عنه ضرورة إذ ليس يتصور وجود واجب الوجود إلا كذلك.
قالوا إفادة الخير والصلاح من المنعم تنقسم إلى ما يكون لفائدة وغرض يرجع إلى المفيد والفائدة تنقسم إلى ما هو مثل المبذول كمقابلة المال بالمال وإلى ما ليس مثلا كمن يبذل المال رجاء للثواب والمحمدة أو اكتساب صفة الفضيلة وطلب الكمال به وهذه أيضا معاوضة وليس بجود كما أن الأول معاملة وليس بإنعام بل الجود والإنعام هو إفادة ما ينبغي من غير عوض وغرض فالأول قد أفاد الجود على الموجودات كلها كما ينبغي على ما ينبغي من غير ادخار ممكن من ضرورة أو حاجة أو رقبة بحيث لو قدر غيره من الممكنات الوهمية كان نقصا في ذلك الموضوع لا كمالا فكل ذلك بلا عوض ولا فائدة وغيره يتصور أمرا ثم يعرض له احتياج إلى وجوده فيحتال لوجوده ليتم غرضه به كمن يريد يبني دارا تصورها أولا ثم احتاج إليها للاستكنان والسكنى احتال لوجودها آلاتها ليتم غرضه بها أو من يهب مالا أو يعطي عطاء ابتداء أو عقيب سؤال يتصور في نفسه أولا اكتساب حمد وجزاء وحمله على ذلك ضعف حال الفقير فرق له رقة الجنسية فأنعم عليه كان الحامل له على النوال نفع يلحقه أو ضرر يدفعه وتعالى الخالق الأول عن ذلك ولم يكن تصوره وعلمه من المتصور المعلوم حتى يكون هو الحامل بل التصور من العلم والمقدور من القدرة هذا كلام القوم وهو حسن لولا تشبيههم بأمور لا نرتضيها والتزامهم أمورا لا نستقصيها.
فقال أهل الحق الدليل على أن الباري تعالى غني عن الإطلاق إذ لو كان محتاجا من وجه كان من ذلك الوجه مفتقرا إلى من يزيل حاجته فهو منتهى مطلب الحاجات ومن عنده نيل الطلبات ولا يبيع نعمه بالأثمان ولا يكدر عطاياه بالامتنان فلو خلق شيئا ما لعلة تحمله على ذاك أو لداعية تدعوه إليه أو لكمال يكسبه أو حمد وأجر يحصله لم يكن غنيا حميدا مطلقا ولا برا جوادا مطلقا بل كان فقيرا محتاجا إلى كسب.
والذي يقرره أن كل صلاح نقدره بالعقل بالنسبة إلى شخص عارضه صلاح فوق ذلك أو فساد مثل ذلك بالنسبة إلى شخص آخر فلئن كان الصلاح يقتضي وجوده بالنسبة إلى ذلك الشخص فالفساد يقتضي عدمه بالنسبة إلى شخص آخر فالسم في أصحاب السموم صلاح وفي غيرهم من الحيوانات فساد فلو كان الصلاح اقتضى وجوده فالفساد اقتضى عدمه وكما يختلف ذلك بالأشخاص يختلف الصلاح والفساد بالجزئي والكلي ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى اشتملت على خير وتوجهت إلى صلاح وأنه لم يخلق الخلق لأجل الفساد ولكن الكلام إنما وقع في أن الحامل له على الفعل ما كان صلاحا يرتقبه وخيرا يتوقعه بل لا حامل له وفرق بين لزوم الخير والصلاح لأوضاع الأفعال وبين حمل الخير والصلاح على وضع الأفعال كما يفرق فرقا ضروريا بين الكمال الذي يلزم وجود الشيء وبين الكمال الذي يستدعي وجود الشيء فإن الأول فضيلة هي كالصفة اللازمة والثاني فضيلة كالعلة الحاملة.
صفحة ١٣٨