نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
80

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

تصانيف

160

الذي يمكن له من المعرفة والفعل، ويضع له الأهداف ويهيئه لتحقيقها بمختلف الوسائل والأساليب العملية والنظرية.

وما الذي يأخذه هيدجر على هذا التصور العقلي؟ لم لا يرضيه؟

من المعروف أنه لم يكف طوال حياته عن «تحدي» تاريخ الميتافيزيقا والدخول معها في حوار مستمر ومحاولة تجاوزها والرجوع بها إلى «أساسها» الذي نسيته أو قصرت في التفكير فيه؛ ولهذا فإنه يرفض هذا التصور لأنه يقوم على تفسير ميتافيزيقي محدد للإنسان، ولأن هذا التفسير لم يفهم من ناحيته الميتافيزيقية ولم يتم التفكير فيه على نحو كاف.

وليس معن هذا أنه يريد أن يضع تفسيرا جديدا يحل محل التفسير القديم، وإلا كانت المسألة كما يقول هيدجر مسألة «وضع» لا يزيد في مشروعيته عن أي وضع آخر ولا يقل عنه، بل معناه أنه يبحث في كل هذه الأوضاع والتفسيرات عن «مضمونها» الذي لم ينل حظه من التفكير المتعمق الأصيل.

ما الذي يريده هيدجر من «مشروعه» أو تجربته التي استعان فيها بتجربة المفكرين الأوائل قبل سقراط، وراح يلتمس عندهم منبع الاندهاش وأصل التفلسف ونور الوجود ذاته؟ وكيف نعاين هذا النور الذي كان لا يزال حيا دافئا قبل أن تنشأ الميتافيزيقا على يدي أفلاطون وأرسطو فيخبو بريقه ويقيد في قوالب المنطق؟ وإذا كانت الميتافيزيقا القديمة لا ترضيه، فهل يلتمسه لدى الميتافيزيقا الحديثة التي توصف منذ عهد ديكارت بأنها ميتافيزيقا الذاتية؟ وأين نجد ذلك «البعد» الذي ييسر لنا فهم الموجود، ويحرره، ويظهره؟ وهل يمكن أن يظهر الموجود إلا ذاتا أو كائنا ينفتح عليه ويتعرض لنوره؟ لقد تحدث أفلاطون عن الظهور، وكانت نظريته عن إدراك الموجود عن طريق «الفكرة» أو «المثال» هي إدراكه من خلال منظره ومظهره

161

دون حاجة إلى افتراض مفهوم «الذات» التي يظهر لها، هل نرجع إلى السؤال عن شروط المعرفة التي تحصلها الذات، على نحو ما فعلت الفلسفة «الترنسندنتالية» أو الشارطية والنقدية عند كانط وأتباعه؟ إن الذات عند هذه الفلسفة هي المحور والمركز، وكل ما ليس ذاتيا فهو موضوع عليها أن تدركه وتحقق موضوعيته، لقد كان التحول الذي تم في هذه الفلسفة بعيد الأثر على الميتافيزيقا الحديثة، ولكنه لم يكن التحول الوحيد في تفسير الموجود وأسلوب ظهوره، فقد سبقته ولحقته تحولات عديدة، سواء في العصر القديم والوسيط، أو الحديث والمعاصر، كما أنه لن يكون هو التحول الأخير، ونحن لا نملك حرية التصرف في أمثال هذه التحولات ولا نستطيع أن نحدثها بمحض إرادتنا؛ لأنها جزء من تاريخ الميتافيزيقا، أي من تاريخ الإنسان الغربي وقدره، وأقصى ما نقدر عليه هو محاولة التفكير فيها، ولهذا كان تفسير هيدجر لتاريخ الميتافيزيقا منذ بدايتها عند أفلاطون إلى نهايتها عند نيتشه؛ تفسيرا لتاريخ الإنسانية الغربية نفسها: وأهم ما في هذا التفسير أن الميتافيزيقا لم تضع هذه التحولات المختلفة في تفسير الموجود موضع السؤال، وإنما كانت دائما تضع تفسيرا محددا تعده التفسير الحقيقي الوحيد، إلى أن يأتي التحول الجديد ومعه تفسير جديد، ويكفي أن نستعرض «شريط» هذه التفسيرات «الموجودية» للموجود - لا للوجود نفسه! - من المثال (الأيدايا ) الأفلاطوني والفاعلية (الإنيرجيا) الأرسطية والموجود المخلوق (في العصر الوسيط) إلى الذات (ديكارت وكانط) والمونادة (ليبنتز) والروح المطلق (هيجل) وإرادة القوة (نيتشه)، ولا يتسع المجال لمناقشة قضية الميتافيزيقا وتاريخها ورأي هيدجر في ضرورة قهرها وتجاوزها و«تفكيكها»؛ إذ يكفينا الآن أنه يطرح هذا السؤال: ما الذي تم في كل هذه التحولات؟ أو بعبارة أخرى ما هو النور أو «الإنارة» التي «حدثت» في كل مرة وظهر على ضوئها الموجود دون أن يتساءل الفلاسفة عن حقيقتها أو يتفكروا فيها؟ إنهم جميعا قد فكروا في «الموجود» ولم ينتبهوا إلى الوجود نفسه الذي ظهر في كل هذه التحولات واحتجب في نفس الوقت أثناء ظهوره؛ ولهذا أصبح التفكير في الوجود نفسه والتحولات المختلفة التي طرأت على «إنارته» هي المهمة الملقاة على عاتق كل فكر أصيل، كما أصبحت الضرورة تقتضي أن يكون هذا الفكر غير ميتافيزيقي.

ولكن ما علاقة هذا كله بإنسانية الإنسان وبرسالة النزعة الإنسانية؟

لقد عرفنا أن الإنارة مرتبطة بالتفتح أو الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يمكن تصوره بغير الإنسان الذي هو في صميمه «تواجد» أو «تخارج» أو «تعرض» لنور الوجود، هذا هو الذي أكدته «ماهية الحقيقة»، وأوضحته الدراسة السابقة عن الأصل في العمل الفني عندما اعتبرته «الوسيط المنير» الذي يدور فيه النزاع من أجل الحقيقة، وهذا هو الذي ستبرزه النزعة الإنسانية التي ستفكر في الإنسان على ضوء علاقته بالانفتاح على إنارة الحقيقة ونور الوجود، فهي لن تفكر في إنسانية الإنسان من ناحية أفعاله وإنجازاته، ولا من جهة نشاطه السياسي أو سلوكه الاجتماعي، وإنما ستفكر فيها كما قلنا من خلال علاقته بالإنارة، إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي وهب القدرة على الانفتاح بحكم وجوده نفسه الذي وصفناه «بالتواجد»،

صفحة غير معروفة