نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
65

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

تصانيف

135 - وها هو ذا هيدجر يواصل السعي إلى تحقيق الذات الأصلية بغية تحقيق الوجود الأصيل، وليست القدرة على إقامة الحقيقة - أي على الوجود خارج الذات وبالقرب من الموجود على ما هو عليه وفي كليته - سوى تأكيد لحقيقة وجودنا الخاص الذي حدده من قبل تحديدا دقيقا ووصفه بأنه تواجد أو تخارج، هكذا استطاع الفيلسوف أن يقرر - دون لبس أو غموض - أن الحقيقة موجودة لأنني أوجد الوجود الحق أو لأني أكون أنا نفسي. •••

يحسن بنا قبل الحديث عن مضمون الرسالة أن نلقي بعض الضوء على كلمة «الوجود» التي يوشك هيدجر أن يكررها في كل سطر يكتبه! إن اللغات الأجنبية تورد الحرف الأول منها مكبرا، وهو أمر يأباه الرسم العربي، ولا بد لنا على كل حال من التمييز بين الوجود والموجودات، فكل ما يوجد أو يكون، كل موجود أو كائن له وجود، بهذا المعنى نتحدث عن وجود الإنسان والحيوان والمعدن والنبات، إنها جميعا موجودة أو كائنة، كلها موجودات، والذي يجعلها موجودات ليس هو نفسه موجودا، وإنما هو «الوجود»، أي أن الوجود هو الذي يسمح لجميع الموجودات أن توجد ويكون لها وجود هو وجودها، هذا الوجود هو الوجود الأول، الأصيل، أو إن شئت فهو الوجود العام أو الوجود بإطلاق،

136

كما يؤثر هيدجر أن يعبر عنه، وبغير هذا الوجود لن يتسنى لنا أن نجرب أي موجود.

ربما تصورنا من هذا الكلام أننا نحيا في أفقه ومجاله كلما التقينا بالموجودات، غير أن الأمر الغريب حقا هو أننا ننغمس عادة في بحر الموجودات ونتشتت بينها، بحيث يندر أن يكون الوجود ماثلا في منظور رؤيتنا حين نرى الموجودات أو نتصل بها في حياتنا اليومية، تؤكد هذا عبارة هيدجر التي يقول فيها إن الإنسان ليتشتت في الموجود بحيث يستغرق فيه ويفقد نفسه، وهو لذلك لا ينتبه إلى الوجود أدنى انتباه،

137

إن الإنسان يتصور أن الموجود هو الذي يؤدي إلى الوجود، ويضيف هيدجر إلى هذا قوله: «إنه لا يهتم بالموجود الذي يصل إليه إلا من جهة تحديداته أو تعيناته لا من جهة أنه «يوجد» أو «يكون»، وهو يكتفي بالنظر إليه من حيث هو شيء يكتفي بتنظيمه وترتيبه ووضعه في شبكة من العلاقات ، الإنسان الغارق في حياته اليومية لا يكترث بوجود الأشياء، ولا يعنيه أن تكون مؤسسة على «الوجود»، إن كل همه واهتمامه موجه إلى الموجود، أما الوجود نفسه فهو غريب عنه، إنه الزمن السيئ، والزمن السيئ يكفينا، أما «وجود» أو «كينونة» هذا الزمن فلا وزن لها عندنا، ذلك هو الاسم الذي نخلعه على الوجود، ونتصور أنه يجعل كل موجود «يوجد» بحيث يختلط - بتسميته نفسها - مع التحديدات والتعينات التي تقوم عليها العلاقات المتبادلة في نشاطنا العادي، بيد أن كل سلوك بشري يعمل على اندلاع شرارة هذه النقيضة التي تقوم على معرفة الإنسان للموجود ونسيانه للوجود، إنه يتقدم بخطى حثيثة نحو الموجود، ولكنه لا يبلغ من نفسه أن يركز على الوجود ذاته.» لا ريب في أن هذه العبارات - التي لا يفتأ هيدجر يكررها بصورة مختلفة في كتاباته المتأخرة - لا يمكن أن تفهم إلا في سياقها العام، ولكنها قد تنجح على كل حال في الوفاء بالغرض الذي نقصده منها، وهو إلقاء شيء من النور على معنى كلمة «الوجود» التي نخشى أن تلتف حولها الظلمات من كل ناحية. •••

لعل من المفيد أيضا قبل الدخول في «متاهة» الرسالة نفسها أن نلقي بعض الضوء - والضوء أو النور أو الإنارة هي كلمة هيدجر الأخيرة فيما يبدو! - على كلمات تتكرر كثيرا على صفحاتها وتكاد توحي بقرب هيدجر من «ملكوت» التصوف والإشراق والروحانية، وإن كان هو نفسه يصر على رفض هذا الظن كل الإصرار، فهل يسمح تكرار كلمات الكشف والانكشاف في هذه الرسالة أن نلجأ إلى الاستعارة الديكارتية القديمة عن «النور الفطري» التي وردت لأول مرة عند شيشرون في كتابه عن العقل البشري، ثم أضاف إليها أوغسطين وبونافنتورا وأصحاب الإشراق في القرنين السابع عشر والثامن عشر النور العلوي ليكون شرطا للمعرفة الحقة؟ ربما جاز لنا القول بأن «الموجود الإنساني» قد أصبح عند هيدجر نوعا من النور الفطري أو الطبيعي، وليس معنى هذا أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى ويوجد الحقيقة، بل معناه أنه يقوم بدور الكشف (بالمعنى الذي فهمه أصحاب الكيمياء من هذه الكلمة!) لأنه هو الكائن الوحيد الذي يملك القدرة على التواجد، وبهذا يضفي على نفسه المعنى الكامن في كل الموجودات.

قلنا إن الانصراف إلى الموجود الجزئي في غمرة الحياة العملية يحمل معه نذير السقوط والزيف، ومع ذلك فيجب ألا ننسى أن هناك علاقة جدلية قائمة بين معنى الوجود الجزئي ومعنى الوجود في كليته، وإذا كانت حياتنا اليومية والعملية واقعة تحت رحمة الموجودات الجزئية، عاطلة من القدرة على الكشف بمعناه الصحيح، فهي مع ذلك تظل محتفظة بعلاقة ضمنية تصلها بالوجود في مجموعه، ولعل من أعجب سمات الوجود الساقط في الزيف والضلال أنه يسعى بكل جهده لنسيان هذه العلاقة أو تناسيها، ويدع الموجودات الجزئية تتحكم فيه وتسيطر عليه بحيث يتوه بينها ويضيع، والغريب حقا أنه ينجح في محو هذه العلاقة الأصيلة أو نسيانها تمام النسيان! والأغرب من هذا أن الموجود الجزئي نفسه يقتص منه فيخفي عنه معناه الحق؛ لأن هذا المعنى لا يمكن أن ينكشف للإنسان الغارق في دوامة الحياة اليومية وضروب النشاط العملية حتى ينظر إلى علاقته الجدلية بالموجود في كليته نظرة الاعتبار، ولعل هذا أن يؤكد لنا أن الأصالة - أي «ترك-الموجود-يوجد» في كليته وعلى حاله التي يكون عليها - هي الشرط الذي لا غنى عنه للتكشف والانكشاف.

كل ما قلناه الآن يفرض علينا أن ننظر إلى مشكلة اللاحقيقة نظرة أصيلة، فالرأي التقليدي الشائع عن اللاحقيقة يتصورها على معنى الخطأ وعدم الصواب، أي ينظر إليها كأنها على الوجه العكسي الآخر من التطابق والاتفاق بين العقل والشيء أو بين الشيء والعقل، غير أن اللاحقيقة بمعناها الأصيل تختلف عن هذا كل الاختلاف، إنها الوجه الجدلي المقابل للحقيقة، وترتبط بالحقيقة الأصلية أو الأساسية في وحدة ماهوية أصيلة، فإذا صح ما قلناه من أن الحقيقة لا تكون إلا في وجود الموجود، وإذا كنا لا نصل إلى وجود الموجود إلا من خلال التقابل الجدلي بين الموجود الجزئي والموجود الكلي، فإن من الصحيح أيضا أن يكون تكشف أحدهما ملازما لتحجب الآخر، أي ملازما للاحقيقة، غير أن هذه اللاحقيقة المبدئية المحتومة يمكن أن تنقلب بدورها إلى صورة من الصور العابرة للاحقيقة (والخطأ بمعناه الشائع في أسلوب المعرفة هو إحدى هذه الصور)، ويتم هذا التشوه أو هذا الانقلاب نحو اللاحقيقة عندما يتراخى التوتر الجدلي الذي أشرنا إليه، وينغمس الموجود الإنساني انغماسا تاما في أحد طرفي التوتر الذي أشرنا إليه وينسى الطرف الآخر كل النسيان، والواقع أن هيدجر لا يعنى في هذه الرسالة إلا بوجه واحد من وجوه هذا النسيان، وهو الوقوف عند الموجودات الجزئية والانصراف إليها، ويرى في ذلك خطرا كبيرا يهدد الحضارة الغربية، وقد كان حريا به أن يلتفت إلى خطر آخر لعله لا يهدد هذه الحضارة بنفس الصورة الملحة لأنه لا يزال بعيدا عن القلوب والأذهان؛ ألا وهو خطر الهروب الكامل من الموجود الجزئي إلى ضباب «الكلية» والتعميم والخيال والصوفية السلبية، والأحلام الرومانسية التي تكون فيها كل الأبقار سوداء (على حد تعبير هيجل!) وهو خطر طالما تعرضنا له في الشرق وطالما خلعنا عليه أسماء رنانة كالزهد والمثالية والتفاني في سبيل المبادئ الخالدة! ولعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر إيمانويل ليفيناس قد تنبه أيضا إلى هذا الخطر فوجه فلسفته كلها من الوجود إلى الموجود (كما يقول عنوان أحد كتبه وكما يتكشف له في الوجه الإنساني) فقلب البناء الهيدجري كله على رأسه! مهما يكن من شيء فإن مشكلة-اللاحقيقة، شأنها في هذا شأن مشكلة الحقيقة التي لا تنفصم عنها، قد تطورت في هذه المرحلة من تفكير هيدجر بعد مرحلة «الوجود والزمان»، ولا عجب في هذا بطبيعة الحال، فقد اتسع نطاق الإشكال الذي يؤرقه منذ ذلك الحين واشتدت محنته وبعدت أعماقه. •••

صفحة غير معروفة