نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

عبد الغفار مكاوي ت. 1434 هجري
46

نداء الحقيقة: مع ثلاثة نصوص عن الحقيقة لهيدجر

تصانيف

84

فالأنا أو الذات هي التي تؤلف وحدة هذا البناء الكلي وتشمله، وربما كان من الأفضل أن نقول «الموجود-الإنساني» بدلا من الأنا والذات أو الجوهر أو غيرها من التسميات التي كانت تخلع على هذا الأساس الثابت الذي تقوم عليه أنطولوجيا الموجود-الإنساني، ومهما يكن من أمر الاسم الذي نختاره له، فقد عرفنا من تحليلاتنا للوجود اليومي أنه في الأغلب الأعم ليس هو ذاته وإنما هو ضائع مضيع في ذات «الناس» أو إنيتهم، والواقع أن هذه الذات الأخيرة الضائعة ليست إلا صورة معدلة أو مشوهة من الذات الأصيلة، صحيح أن الناس تردد في كل مناسبة وبغير مناسبة: «أنا ... أنا ... أنا» غير أنهم أبعد ما يكونون عن الأنا الأصيلة، هذه الأنا-في-العالم التي كشف تحليلنا للهم عن وجودها، إن الأنا التي لا يكف الناس عن ترديدها والكلام باسمها هي الأنا المشغولة بالموجودات الخارجية، المتهربة من وجودها الأصيل الذي يلقي بنفسه على إمكانياته، ويحمل هو وجوده-للموت، هذه الأنا - أو الإنية أو الذاتية - الحقة لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التصميم (بما يتضمنه من توحد وتكتم وقلق، ومن شروع على الإمكانيات وفهم وانفتاح) ولا يضيعها شيء كما يضيعها عدم التصميم، ولو فهمنا بناء الهم فهما كاملا لتوصلنا إلى الذاتية أو الهوية أو الإنية أو ما شئت من أسماء تعبر عن حقيقة الوجود المصمم الأصيل. (3-2) نداء الضمير

الوجود الأصيل إذن ولا شيء سواه!

هذا هو المثل الأعلى لفلسفة هيدجر التي يغلب عليها طابع «المباطنة» أو «الكمون» في العالم، وتصر على رفض أي عون يأتي من أعلى لتحديد أصالة الإنسان وحقيقة وجوده، لكنها لم تستطع أن تصل إلى هذا الوجود عن طريق التحليل الفينومينولوجي (الظاهرياتي) الخالص؛ لأن طبيعة الأشياء لم تسمح لها بذلك، ولا بد لها الآن أن تبحث في أرض «ظاهراتية» تثبت عليها، وأن تفتش في جذور الموجود-الإنساني نفسه وفي أعماق تربته عن ظاهرة واقعية أو شاهد حي على قدرته على اختيار إمكانية وجوده الأصيل. أين تجد هذه الظاهرة؟ كيف تعثر على هذا الشاهد الحي؟

لقد وجدته بالفعل فيما نصفه عادة «بصوت الضمير»، ففي الضمير ينادي الموجود-الإنساني ذاته، غير أنه نداء هاتف بلا صوت، يتردد في رهبة الصمت، ليس هناك شيء محدد ينادى به؛ لأن الموجود-الإنساني نفسه هو الذي ينادى ويهاب به ويفزع من رقاده، ولأن الضمير لا يتكلم إلا بالصمت، فإن نداءه يحمل الموجود-الإنساني على التكتم، وليس عجيبا أن يبدو النداء وكأنه صوت غريب عليه، فما من شيء يبدو في نظر الموجود-الإنساني السادر في عالم الناس أغرب من الذات الملقاة في العدم، المتوحدة مع نفسها توحدا مطلقا، أضف إلى هذا أن المنادي يصيب من يناديه إصابة مؤكدة، ولا تفسير لهذا إلا بالهوية التي تجمع بينهما.

إن نداء الضمير لا يقول شيئا وليس لديه شيء يحكيه عما يجري في العالم، وهو أبعد ما يكون عن مناجاة الذات التي يوجه إليها النداء، فالنداء لا ينادي عليها بشيء، وإنما يهيب بها أن تتنبه لذاتها أي لأخص إمكانات وجودها،

85

وهذا النداء هو في الحقيقة نداء الهم، وهو الذي يدعو الموجود-الإنساني إلى إمكان وجوده الحق، لا شك أنه نداء رهيب، ولا بد أن ينتزعه من نسيان الذات الذي نغرق عادة فيه، فدعوة النداء دعوة لإمكان الوجود الحق، والقلق هو الذي يجعل هذا النداء ممكنا؛ لأننا في القلق نجرب توحدنا المرتبط بتلك الإمكانية.

ونداء الضمير يكشف عن وجود الموجود-الإنساني في حالة الذنب، ولا يفهم هيدجر الذنب بمعنى الخطأ الفعلي أو التاريخي ولا بمعناه الأخلاقي أو الديني، وإنما هو في رأيه تعبير عن «قرار العدمية الأساسية»

86

صفحة غير معروفة