ونجد دليل ذلك القرش، وهو سمكة غضروفية كبيرة (ليس بها عظم، وإنما بها غضروف، وتكثر في البحر الأحمر)، فإن تركيب أسنان هذا الحيوان هو نفسه تركيب فلوسه؛ أي حراشفه التي تنشأ وهو جنين على بشرته الخارجية؛ أي إن فمه ليس سوى امتداد بشرته إلى داخله.
وبدهي أن الصور الذهنية التي تنشأ عن بعض الحواس تكون دون تلك التي تنشأ عن بعض الحواس الأخرى في مقدار تصوير العالم الخارجي على ما يشبه حقيقته؛ فالعين - مثلا - تصور العالم الخارجي للذهن بأدق وأوسع مما يصوره الأنف، وكذلك الأذن تصوره أكثر مما يصوره اللمس؛ ولذلك نجد الحيوانات التي دق سمعها وارتقت عيونها؛ مثل الإنسان والقرد، أرقى جميع الحيوانات في العالم.
وأول ما نرى دلائل العقل؛ (أي الروية والتدبر واكتساب التجارب) واضحة في السمك؛ فإن بعضها يحاور الشص وبعضها يتوقاه، وللسمك عيون لا تغمض، لا يعرف مقدار رؤيته بها، وله أذنان يسمع بهما، بدليل أنه يمكن تعويده الحضور للطعام بدق ناقوس، ولكن وظيفة الأذنين في السمك تتصل بمهمة التوازن في السباحة أكثر مما تتصل بمهمة السمع، والسمك - كما قلنا - يذوق أحيانا بجلده.
ويلي السمك في كبر الدماغ وفي دقة الحواس، الحيوانات البرمائية؛ كالضفدع، وهي تجيد النظر، بدليل أن لسانها يخطف الذبابة فلا يخطئ، ويمكن الضفدع أن تميز بين اللون الأحمر والأبيض، ومن غريب حواسها أنها تشعر بالضوء في أي مكان من جلدها، ومعنى هذا أنها لا تزال تحتفظ بالإحساس بالضوء كما كانت تفعل الحيوانات قبل تركز هذا الإحساس في العين.
والزواحف؛ كالثعابين والسلاحف، أكبر دماغا وأدق حواس؛ إذ هي يمكن تربيتها حتى تميز صاحبها من غيره من الناس وتلبي نداءه، وهي تخرج إلى مسافات بعيدة، وتعود إلى عشها مهتدية بذاكرتها مع التواء الطريق وتشعبها، وكلنا يعرف أن الثعبان يلتذ الصفير والغناء والموسيقى، وهذا برهان على دقة آذان الزواحف.
ويلي الزواحف الطيور، وهي تتفاوت في جرم الدماغ ودقة النظر، وأهم حواس الطيور هي عيونها التي تشرف بها على الأرض، حتى النسر لا يهتدي إلى الجيفة بأنفه، بل بعينيه التلسكوبيتين العظيمتين، وهي تجيد السمع أيضا بدليل استحسانها الغناء من ذكورها. والغناء عند بعضها سبيل الذكر إلى الأنثى، ولكنها مع ذلك سيئة التذوق؛ فالدجاجة تبلع حبة من الذرة من غير أن تذوقها، أو ربما كان ذوقها بها ضعيفا جدا.
وجرم الدماغ - كما قلنا - يتفاوت فيها؛ فللغراب والببغاء والصقر والعقاب أدمغة كبيرة؛ ولذلك تسير كلها سيرة العقل المشوب بأدنى غريزة، في حين أن الحمام - مثلا - صغير جرم الدماغ؛ ولذلك غريزته ظاهرة، يكفي دليلا على قوتها وضعف عقله أنه إذا نقل الإنسان بيض الحمامة من مرقده وأبعده نحو عشرة سنتيمترات فقط لما استطاعت الحمامة أن ترده إلى مكانه، بل تذهب إلى مرقده السابق وترقد.
ويلي الطيور في الرقي الذهني اللبونات، ومن اللبونات ما هو دون الطيور في ذلك، ولكن يمكن أن يقال بوجه الإجمال إنها أرقى من الطيور؛ فدماغها أكبر، وقبولها للتعليم والتجاؤها إلى الحيل دليل الرقي في عقلها، ولا شك في أن رأس اللبونات من حيث الرقي الذهني هو الإنسان والقردة العليا، ونظرة واحدة إلى أحط أنواع القردة تدلنا على تنبه عقلها؛ فالقرد دائم النشاط والتفزز والاستطلاع، فلست ترى قردا صامتا هادئا كالكلب أو القط أو الثور. •••
والفصل التالي ملخص من كتاب داروين «تسلسل الإنسان»، وفيه يرى القارئ كيفية معالجة داروين، شيخ نظرية التطور، لمثل هذا الموضوع؛ حيث يقابل القوى العقلية في الإنسان بمثلها في الحيوان، قال:
ربما خطأنا البعض في قولنا بتسلسل الإنسان من الحيوان لعظم الفرق بيننا وبين الحيوان في القوى العقلية، ولا شك في أن الفرق عظيم حتى بين المتوحش الذي ليس في لغته غير ما يعبر عن أربعة أشياء وليس فيها اسم للمسميات المعنوية، وبين أعلى الحيوانات مثل القرد، وهذا الفرق لا يزال عظيما حتى لو استأنسنا القرد ودجناه مثلما دجنا الكلب؛ حيث جعلناه أذكى وأرقى من سلفه الذئب أو ابن آوى؛ فإن الفويجيين يعدون من أحط الهمج، ومع ذلك كنت أدهش كلما رأيت الفويجيين الثلاثة الذين كانوا معنا ينظرون إلى الأشياء نظرنا ويرتأون رأينا فيها بعد أن أقاموا معنا قليلا في إنجلترا.
صفحة غير معروفة