وقد كانت هذه الدواجن، من النبات والحيوان، قادرة على الدفاع عن نفسها قبل أن تدجن، ولكنها بعد أن دجنت صار الإنسان عاملا جديدا في تطورها، فلم يعمل لمصلحتها هي باعتبارها من الأحياء، بل نظر إلى مصلحته هو، وقصر وظيفتها على خدمته، فإذا رفع عنها عنايته زالت من الوجود؛ وسبب ذلك أن الأحياء في حالتها الوحشية ينازع بعضها بعضا في البقاء والتناسل، فتقوى على مدى الزمن، أما الدواجن فليس بينها تنازع للبقاء أو التناسل، إلا ما كان لمصلحة الإنسان الذي يدبر أمورها ويتصرف في أقدارها.
وغايتنا من النظر في الدواجن الآن هو البرهنة على أنها شاهد قوي من شواهد التطور؛ فإن الأصول البرية الوحشية لهذه الدواجن تكاد تكون كلها معروفة؛ ففي الهند لا يزال الدجاج بريا يعيش في الغابات، وفي أمريكا لا يزال الدندي يسكن الأحراش والبراري، وحمار الوحش معروف، واليمام البري لا يزال حيا، وهو أصل جميع سلالات الحمام التي نعرفها، وقل مثل ذلك في سائر دواجن النبات والحيوان.
ولكن العبرة في هذه الدواجن أنها كثيرة السلالات، كل منها يمتاز بميزة ما عن سائر السلالات الأخرى؛ فقد يمكننا أن نعد مئة سلالة من الحمام، ومثلها من الكلاب، ومثلها من الدجاج، وإنما كثرت هذه السلالات لأن الإنسان أراد ذلك؛ فقد كان يستحسن صفة ما في عرف الديك، أو دابرته، أو لون ريشه، أو صوته، أو غير ذلك، فيخصه باللقاح دون غيره، فتنتشر الصفة المرغوب فيها في فراخه أو في بعضها، فينتقي من هذا البعض تلك الأفراد التي حصلت على أكبر قسط من هذه الصفة فيقصرها على النتاج، ويكرر هذا العمل حتى يحصل من ذلك على الصفة التي يرغب في وجودها، وتنشأ من هذا سلالة جديدة.
ومن هنا صار لدينا من الحمام: المسرول، والمطوق، والقلاب، وحمام الزاجل، وغيرها عدد كبير، وكل هذه السلالات قد نشأت بالانتخاب والتربية من أصل واحد هو اليمام البري. (اليمام في الوسط وهو أصل جميع سلالات الحمام الموجودة الآن، ومنها الاربع التي حولها)
وعندنا من الخيول ذلك الفرس العربي الضامر، وخيول السباق، وخيول الجر، وخيول شيتلاند التي لا يزيد جرمها على جرم الكلب الكبير.
وعندنا من الخراف الصوفاني والأليان وسواهما، ومن الكلاب، كلاب هولندا الضخمة التي تجر العربات، وكلاب الألب، وكلاب داخشنج الألمانية، والكلاب الصينية السمينة التي تؤكل، وغيرها، وكلها تنتمي إلى أصل واحد، هو السلوقي المصري.
وكذلك الحال في النبات؛ فإن عندنا مئات من سلالات التفاح، وكلها يرجع إلى نوع واحد من التفاح البري، وثمره صغير الحجم حاذق الطعم.
وعندنا من سلالات القطن عشرات تختلف نسيجا وبذرة ولونا، وذوو الهمم من المزارعين لا يزالون يوالون البحث عن سلالات جديدة يقصدون منها إلى نعومة الألياف، وطولها، وقصر مدة الإثمار، وضمور البذرة، ونحو ذلك.
وكذلك الحال في الذرة الشامية، فقد كان النبات يوما ما ينبت على طريقة القمح، له سنبلة تحتوي على ملاقحه من أعضاء الذكورة والأنوثة، ثم انفصلت هذه الملاقح فصارت أعضاء الأنوثة في القنديل، واختصت أعضاء الذكورة بقمة النبات، ودليل ذلك هو ما يحصل من الردة أحيانا، إذ ترد الذرة إلى أصلها فتنشأ لها سنبلة على قمتها، على نحو ما هو حاصل للقمح والذرة العويجة.
وفي الولايات المتحدة، حيث العقول متيقظة، وما هو في عداد المستحيل عند الأمم الأخرى يعد من الممكنات هناك - تمكن بوربانك من إيجاد ككتوس (تين شوكي) ليس في أوراقه شوك، يمكن البهائم أن ترعاه، وكل يوم يشتغل المختصون بتربية الحيوان أو النبات أو من يهوون ذلك بإيجاد صفة جديدة فيهما، ويأتي غيرهم فيقوي هذه، حتى إذا تقادم الزمن ظهرت سلالة جديدة، وقد فعلت روسيا العجائب هنا.
صفحة غير معروفة