وقل هذا بعينه في الصوت، فهذه الدقات التي أسمعها الآن آتية إلي من الساعة، إنما كانت موجات هوائية قبل أن تطرق أذني. ولم تتحول تلك الموجات إلى صوت مسموع إلا داخل جسمي. أو بعبارة أخرى: لولا أن في العالم آذانا تسمع لكان العالم صامتا لا صوت فيه، كما أنه لولا أن في العالم عيونا ترى لكان العالم بغير لون. وكذلك قل في الطعم؛ فحلاوة الشيء أو مرارته لا تتكون إلا حين يلتقي بلسان الطاعم، أما قبل ذلك فلا حلاوة ولا مرارة، وحسبك أن تذكر أن الشيء الواحد قد يتغير طعمه بالنسبة إليك حسب حالاتك المختلفة من صحة أو مرض، وبالطبع ليس الشيء هو الذي تغير بل هو أنت، فتغير الطعم نتيجة للتغير الذي طرأ عليك.
ففي اللون والصوت والطعم لا تكون معرفتنا صورة للواقع، إنما هي صورة محورة، فكل ما يجيء إلينا من الشيء الخارجي مؤثرات خاصة، ثم تحدث هذه المؤثرات فينا آثارا لا شبه بينها وبين المؤثر. مثل ذلك مثل الشمس تبعث حرارتها إلى قطعة الشمع فتذيبها ، فلا يكون الأثر الذي هو السيولة الحادثة في الشمع شبيها بالمؤثر الذي هو قرص الشمس، ولو كانت قطعة الشمع لتتكلم لقالت عن السيولة التي تحدث فيها إنها الشمس، ولظنت أن الصورة التي حدثت - وهي السيولة - شبيهة بالشيء المحدث وهو الشمس.
الصفات الأولية والصفات الثانوية كلتاهما تجيء إلينا من الشيء الخارجي عن طريق حواسنا، لكن الأولى صورة مطابقة للواقع، وأما الثانية فيتم تكوينها داخلنا بحيث لا تكون صورة مطابقة للواقع، وإن تكن دالة عليه. ومن مجموعة المحصول الذي أحصله من هذه الصفات وتلك يأخذ عقلي في تركيب الأفكار، كأن يجمع اللون الذي يأتيه من البرتقالة إلى طعمها وشكلها وملمسها وصوتها، إذ تتدحرج على الأرض، يجمع هذه الأشتات التي ذهبت إليه من طرق مختلفة، فهذه الصفة جاءت من العين وتلك من الأذن وثالثة من الأنف ورابعة من الأصابع وهكذا، يجمع العقل هذه الأشتات في صورة واحدة على لوحته، فتكون هي فكرة البرتقالة عنده، حتى إذا ما اجتمعت لديه صور عدة لعدد من برتقالات قارن بينها واستخرج منها «صورة عامة» تنطبق على أية برتقالة، وإن تكن مختلفة بعض الشيء عن كل برتقالة على حدة. وإذن فالصورة العامة التي أعبر عنها بكلمة كلية هي فكرة مركبة من مجموعة إحساسات، غير أن التركيبة في النهاية لا تطابق الواقع وإن تكن دالة عليه. ومثل هذه المدركات الكلية التي يكونها الإنسان - مثل شجرة ومنزل وكتاب وإنسان ونهر ... إلخ - هي - في رأي «لوك» - أفكار مركبة قوامها صفات عرضية تأتي عن طريق الحواس أشتاتا، ثم يركبها العقل بفاعليته.
لكن علام يركب العقل هذه الصفات العرضية للشيء؟ كيف - مثلا - يضم لون البرتقالة إلى شكلها وطعمها ورائحتها وصلابتها لتتكون له بذلك صورة مؤتلفة لشيء واحد؟ هل يلف العقل هذه الصفات بعضها على بعض بغير محور يديرها حوله؟ كلا، بل لا بد من افتراض وجود عنصر تتعلق به هذه الصفات، وإلا كانت صفات بغير شيء تصفه، وهذا العنصر الذي تنتمي إليه الصفات العرضية من لون وطعم ورائحة وشكل ... إلخ هو «جوهر» الشيء أو كنهه ولبابه، ألا ترانا نقول: «البرتقالة» صفراء، و«البرتقالة» كرية، و«البرتقالة» طعمها كذا ورائحتها كيت؟ ثم ألا يدل هذا على أننا ننسب هذه الصفات كلها إلى شيء محوري جوهري هو الذي يكون «البرتقالة» في ذاتها وحقيقتها، وهو الذي يتصف بهذا اللون أو ذاك وبهذا الشكل أو ذاك؟ إذن فهذا نوع آخر من معارفنا عن الأشياء، فإلى جانب «أعراض الشيء» المتغيرة من لون وطعم ورائحة وشكل نعرف «جوهره» الثابت الذي يجعله هو ما هو.
وبعد أن تتركب في أذهاننا صور للأشياء، لكل شيء جوهره وأعراضه، فهذه منضدة، وهذا مصباح، وهذه ورقة، وذلك قلم ... إلخ، لا تظل هذه الصور في الذهن فرادى متفرقات لا شأن للواحدة بالأخرى، بل ترتبط الصور الذهنية، أو قل: ترتبط معارفنا عن الأشياء بروابط وعلاقات، فشيئان يرتبطان بعلاقة السببية، وشيئان يرتبطان بعلاقة التجاور، وشيئان يرتبطان يكون الواحد منهما حدث قبل الآخر في الزمن أو بعده وهكذا؛ وبهذا تنشأ مجموعة ثالثة من معارفنا، وهي العلاقات التي تربط أفكارنا عن الأشياء بعضها ببعض.
هكذا يحلل «جون لوك» معرفة الإنسان إلى أفكار بسيطة هي أحاسيسنا التي تأتي عن طريق حاسة واحدة كاللون حين يأتي عن طريق البصر، أو تأتي عن طريق حاستين كالشكل حين يأتي عن طريق البصر واللمس معا؛ ثم إلى أفكار مركبة يركبها العقل بفاعليته من تلك الأفكار البسيطة، وهذه الأفكار المركبة إما أن تكون فكرة عن الشيء في صفاته العارضة أو فكرة عن الشيء في جوهره الثابت أو فكرة عن العلاقات التي تربط شيئا بشيء، وهذه المعرفة - على اختلاف أنواعها من بسيطة ومركبة - منها ما يكون صورة مطابقة للواقع، ومنها ما لا يكون بينه وبين الواقع شبه وإن يكن دالا عليه، وتلك هي الواقعية النقدية التي تجعل الواقع مصدر معلوماتنا، لكنها لا تتسرع بوصف معرفتنا كلها بوصف واحد، كأنها كلها من طبيعة واحدة، بل تحلل أنواع المعرفة لترى ماذا يتشابه في أجزائها، وماذا يختلف، وماذا يصور الأشياء الخارجية تصوير الشبيه لشبيهه، وماذا لا يصورها؟
الفصل الثاني
طبيعة المعرفة عند البراجماتيين
عندما أراد أنصار المذهب الواقعي بقسميه أن يجيبوا عن السؤال الذي طرحناه عن المعرفة وهو: «ما طبيعة المعرفة؟» كان مدار البحث عندهم - كما رأيت - هو النظر فيما إذا كانت الفكرة من أفكارنا صورة مطابقة للشيء الخارجي الذي تشير إليه تلك الفكرة، أو غير مطابقة، ومتى يكون بين الفكرة والشيء الخارجي تطابق ومتى لا يكون، فكأنهم بذلك يريدون أن يقولوا إن طبيعة المعرفة هي تصوير للواقع، بحيث تكون الصورة تامة الشبه بمصورها أحيانا، ولا تكون كذلك أحيانا أخرى، فأنت «تعرف» - بناء على مذهب الواقعيين في المعرفة - بمقدار ما في رأسك من صور عن أشياء العالم ووقائعه.
لكنك قد تحمل في رأسك صورا لكائنات العالم بأسره دون أن يؤدي بك هذا إلى عمل تعمله، أي أن المعرفة على مذهب الواقعيين لا تتضمن سلوكا معينا يقوم به الشخص العارف، فما دام العقل عندهم مرآة تنطبع عليها آثار الأشياء الخارجية، وبمقدار ما يتزاحم في المرآة من صور تزداد خبرات الشخص ومعارفه؛ إذن فأمر الشخص العارف كأمر المرآة التي تتلقى صور الأشياء فلا تحركها تلك الصور خطوة إلى يمين أو يسار. ومن هنا كان الفلاسفة يفرقون بين الفكر والعمل، فيقولون إن رجل الفكر قد لا يكون رجلا عمليا، ورجل العمل قد لا يكون صاحب فكر، إيمانا منهم بأن المعرفة شيء لا يستدعي بالضرورة سلوكا معينا في الحياة العملية.
صفحة غير معروفة