مقدمة‏

تمهيد في تحديد المشكلة‏

الباب الأول: طبيعة المعرفة‏

1 - طبيعة المعرفة عند الواقعيين‏

2 - طبيعة المعرفة عند البراجماتيين‏

3 - طبيعة المعرفة عند المثاليين‏

الباب الثاني: مصدر المعرفة‏

4 - مصدر المعرفة عند التجريبيين‏

5 - مصدر المعرفة عند العقليين‏

6 - مصدر المعرفة عند النقديين‏

7 - مصدر المعرفة عند المتصوفة‏

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها‏

8 - الاعتقاديون والشكاك‏

9 - حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين‏

مقدمة‏

تمهيد في تحديد المشكلة‏

الباب الأول: طبيعة المعرفة‏

1 - طبيعة المعرفة عند الواقعيين‏

2 - طبيعة المعرفة عند البراجماتيين‏

3 - طبيعة المعرفة عند المثاليين‏

الباب الثاني: مصدر المعرفة‏

4 - مصدر المعرفة عند التجريبيين‏

5 - مصدر المعرفة عند العقليين‏

6 - مصدر المعرفة عند النقديين‏

7 - مصدر المعرفة عند المتصوفة‏

الباب الثالث: إمكان المعرفة وحدودها‏

8 - الاعتقاديون والشكاك‏

9 - حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين‏

نظرية المعرفة

نظرية المعرفة

تأليف

زكي نجيب محمود

مقدمة

تحليل «المعرفة» الإنسانية من شتى نواحيها، يوشك أن يكون هو الشغل الشاغل للفلسفة منذ القرن السابع عشر حتى اليوم، أو هو - على الأقل - أهم مشكلة تناولتها الفلسفة في هذه الفترة من تاريخها، ولو تتبع هذه المشكلة مؤرخ ليرى كيف نشأت، ثم كيف نمت وتطورت وتعددت فيها الآراء وتشعبت المذاهب؛ لوجد نفسه متتبعا لتاريخ الفلسفة في عصرها الحديث.

لكنني في هذا الكتاب لم أتناول المشكلة على أساس تاريخي يجعل الأسبق منها في الظهور الزمني أسبق كذلك في تناوله بالبحث، بل تناولتها على أساس الموضوعات المختلفة التي تعرضت لها. وقد كان كل موضوع منها بمثابة سؤال ألقاه الفلاسفة على أنفسهم، ثم حاولوا الإجابة عنه كل حسب مذهبه: فما طبيعة المعرفة؟ وما مصدرها؟ وما حدودها؟

ولما كنت قد قصدت بهذا الكتاب إلى طلبة السنة الثالثة الثانوية من قسم الآداب - وهم أولئك الذين يلتقون بالفلسفة في دراستهم لأول مرة - فقد حاولت جهدي أن أعرض الفكرة في عبارة سهلة واضحة، مكتفيا من الموضوع بمعالمه الرئيسية، مجتنبا كل ما قد يعوق الفهم الواضح من تفصيل أو استطراد أو إحالات إلى فلاسفة أو مؤلفات مما قد يجاوز مستطاع الطالب في هذه المرحلة الأولية من دراسته الفلسفية.

وإني لآمل أن أكون قد وفقت إلى ما قصدت إليه.

زكي نجيب محمود

يناير 1956م

تمهيد في تحديد المشكلة

ها أنا ذا جالس إلى جوار مكتبي، الورق أمامي والقلم في يدي، وعلى المكتب مصباح يضيء وساعة تدق، وإلى يميني كتب أربعة، وإلى يساري نافذة أنظر خلالها فأرى سماء زرقاء، ونباتا أخضر، وأسمع صوت المارة وجلبة العربات في الطريق. وهكذا كلما شخصت ببصري هنا أو هناك أو أصخت بسمعي؛ رأيت شيئا أو سمعت صوتا، فأزداد علما بما يحيط بي. ثم ها أنا ذا أسند رأسي إلى ظهر مقعدي صارفا نظري وسمعي عما يحيط بي الآن، مستعيدا بعض خبرات الماضي؛ فترتسم في ذهني صور مما قد رأيت، وترد على خاطري معلومات كثيرة مما قد عرفت. فأنا مزود بحصيلة من معارف جمعتها على مر الزمن من مشاهداتي المباشرة أو مما سمعته من الناس أو ما قرأته، أو من استدلالات استنتجتها من تلك المشاهدات والقراءات. ولو وضعت مكاني قطعة من حجر فيحيط بها ما كان يحيط بي من أشياء؛ لما أدركت أمامها ورقا أو أحست بسطحها قلما، ولا رأت مصباحا يضيء، ولا سمعت ساعة تدق، ولما كان في مستطاعها أن تستعيد شيئا من خبرات ماضيها؛ فقطعة الحجر، وإن تكن قد مرت بها أحداث كما تمر بي الأحداث، وربما تركت فيها أحداثها آثارا كما تترك أحداثي في آثارا، إلا أنني «أعرف» ما يحيط بي وما مر في خبرتي. وقطعة الحجر لا «تعرف». وسؤالنا الآن هو: ما طبيعة هذه المعرفة؟ ما سبيل الإنسان إلى اكتسابها؟ وهل في وسعه أن يعرف كل شيء؟ أم أن لمعرفته تلك حدودا تقف عندها، ولا تجاوزها؟

فنظرية المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا ما كانت الحقيقة المعروفة؛ فقد تكون الحقيقة المعروفة هي أن هذه الورقة التي أمامي لونها أبيض، أو أن القاهرة تقع على خط عرض 30، أو أن شعاع الضوء إذا سقط على سطح مستو لامع فإن زاوية سقوطه تساوي زاوية انعكاسه، أو أن سبعة مضروبة في ستة تساوي اثنين وأربعين. لكن هذه الحقائق على اختلافها وتنوعها كلها تشترك في كونها أجزاء مما أعرف أو مما يعرف سواي، فماذا يحدث في كل هذه الحالات على السواء بحيث يجعلها جميعا أجزاء من مجموعة واحدة هي مجموعة معارفي؟ ما هي العناصر والشروط التي تتوافر في كل حالة من هذه الحالات التي أقول عن نفسي فيها أنني «أعرف» كذا أو كيت، بغض النظر عن نوع الحقيقة الجزئية التي أعرفها في هذه الحالة أو تلك؟ وإن كانت «المعرفة» في كل حالاتها هي علاقة تقوم بين الإنسان الذي يعرف والشيء المعروف، فما تحليل هذه العلاقة وما تحديدها؟ ماذا يصلني بهذه الورقة التي أمامي حين أقول: إنني «أعرف» أنها ورقة بيضاء؟ ماذا حدث خارجي وماذا حدث داخلي بحيث عرفت عن الورقة البيضاء ما عرفت؟ إنني إذا حددت العلاقة القائمة بيني وبين الورقة البيضاء حين أعرف عنها أنها ورقة بيضاء، فربما أكون بذلك قد انتهيت إلى تحديد العلاقة التي تقوم بين الشخص العارف والشيء المعروف كائنا من كان ذلك الشخص كائنا ما كان هذا الشيء، أو ربما وجدت أن نوع العلاقة القائمة بين العارف والمعروف يختلف باختلاف أنواع المعرفة؛ فقد تكون هذه العلاقة في حالة معرفتي لحقيقة رياضية مختلفة عن العلاقة في حالة معرفتي لحقيقة طبيعية: فمن ذا يكشف لنا عن هذا كله؟ هو الفيلسوف حين يجعل «المعرفة» موضوع بحثه ...

وطبيعي أن يختلف الفلاسفة في الرأي عندما يدلون بآرائهم في طبيعة «المعرفة» ومصدرها وحدودها. وسنحاول فيما يلي من صفحات أن نوجز لك أهم المشكلات التي تنشب عند النظر في تحليل «المعرفة» وتفسيرها، وأهم الاتجاهات الفكرية إزاء تلك المشكلات.

وأهم المسائل التي يحاول الفيلسوف أن يعالجها في مشكلة المعرفة يمكن حصرها في هذه الأسئلة الثلاثة: (1)

ما طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟ (2)

ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟ (3)

هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودا؟

وسنفرد لكل من هذه الأسئلة الثلاثة بابا نتتبع فيه الإجابات المختلفة التي أجاب بها الفلاسفة عن السؤال كل حسب اتجاهه ومذهبه.

الباب الأول

طبيعة المعرفة

الفصل الأول

طبيعة المعرفة عند الواقعيين

(1) الواقعية الساذجة

السؤال المطروح أمامنا الآن هو هذا: ما هي المعرفة؟ ما تحليل الموقف الذي أقول فيه إنني «أعرف» كذا وكذا؟ وعن هذا السؤال يجيب الإنسان المثقف العادي - مسوقا إلى جوابه بإدراكه الفطري - قائلا: «المعرفة» هي «صورة» لما يجري في العالم من وقائع وأحداث؛ فالحقائق الخارجية هي بمثابة الأصل، ومعرفتي إياها بمثابة الصورة، فإذا نظرت إلى مكتبي هذا وقلت عنه إنه مستطيل السطح أو إنه بني اللون؛ فذلك لأن هناك خارج نفسي شكلا مستطيلا ولونا بنيا لا دخل لي في حدوثهما، وكل ما فعلته إزاءهما هو أنني نظرت إليهما «فعرفتهما» بمعنى أنهما قد «ارتسما» في ذهني كما هما في عالم الواقع.

على هذا الأساس في فهم الأشياء وما يحدث لها يقوم التفاهم في الحياة العملية؛ مما أدى ببعض الفلاسفة أنفسهم أن يفهموا «المعرفة» على الأساس نفسه، فيجعلوها «تصويرا» لما يقع بغير حذف أو إضافة، فلا فرق بيني حين أنظر إلى مكتبي البني المستطيل وبين آلة التصوير، كلانا يقوم بعملية واحدة، وهي أن يلتقط صورة يكون بينها وبين أصلها شبه تام، وكلما ازددت دقة في الملاحظة كنت كآلة التصوير حين تزداد دقة؛ إذ في كلتا الحالتين تكون الصورة المأخوذة عن الشيء المرسوم دقيقة الشبه بأصلها. ومعنى التشابه هنا هو أن يكون لكل جزء من تفصيلات الشيء المرسوم جزء يقابله في الصورة.

ولو عبر الإنسان عن معرفته بشيء ما في عبارة كلامية، كانت هذه العبارة وصفا كاملا للشيء إذا ما اشتملت على ألفاظ بعدد ما في الشيء من عناصر وأجزاء، مضافا إليها ألفاظ أخرى تصور العلاقات الكائنة بين تلك العناصر والأجزاء. خذ مثلا لذلك هذا المصباح المضيء على مكتبي، فإنني إذ أقول - بعد أن أنظر إليه - إنني «أعرف» أن على مكتبي مصباحا مضيئا، فإنما أعني بذلك أن قد ارتسمت في ذهني صورة تطابق الشيء الواقع. وأستطيع التعبير عن هذه الصورة بعبارة كلامية تجيء وصفا لما أعرفه فأقول: «مصباح مضيء على مكتبي.» فتكون كلمة «مصباح» مشيرة إلى المصباح، وكلمة «مضيء» مشيرة إلى الضوء المنبعث منه، وكلمة «مكتبي» مشيرة إلى المكتب الذي أمامي، وأما كلمة «على» فتشير إلى العلاقة الكائنة بين المصباح المضيء والمكتب. هذه العبارة الوصفية إن هي إلا وضع لفظي للصورة الذهنية التي التقطتها بعيني، وهي في الوقت نفسه عبارة صادقة لما بين أجزائها وأجزاء الشيء الخارجي من تقابل. ومعنى ذلك أن هذه العبارة تصف ما في ذهني، وما في الخارج على حد سواء، فهي تصدق على فكرتي وعلى الشيء الواقع في آن واحد. وإذن ففكرتي لا بد أن تكون صورة للشيء الواقع فيها ما في الشيء من أجزاء وعلاقات.

ويترتب على هذا الرأي في «المعرفة» نتيجة هي أيضا مما يسلم به الإنسان العادي تسليما لا يجد فيه مشقة ولا عسرا؛ لأنها كذلك مما يهدي إليه الإدراك الفطري، وهي أن العالم الخارجي موجود بغض النظر عن وجودي؛ إذ هو موجود مستقلا عن معرفتي إياه؛ فالمصباح المضيء على مكتبي قائم هناك، سواء اتجهت إليه ببصري لأراه أو أقفلت عيني بحيث لا تراه، فالأمر ها هنا هو بذاته الأمر في آلة التصوير وما تصوره؛ فالشيء المصور موجود سواء اعترضته آلة التصوير لتلتقط صورته أو لم تعترضه. بعبارة أخرى: لا يتوقف وجود الشيء على كوني أعرفه، وإن أحدثت هذه المعرفة تغيرا ما؛ فالتغير إنما يطرأ على الشخص العارف لا على الشيء المعروف؛ إذ يصبح ذلك الشخص بعد معرفته تلك عالما بما كان يجهله قبلها، فإذا لم أكن قد رأيت معابد الأقصر قبل الآن، ثم ذهبت إليها ورأيتها، فليست معابد الأقصر هي التي حدث لها التغير، إنما هو أنا الذي علم بعد جهل فتغير بهذا العلم الجديد كثيرا أو قليلا.

ومما يؤيد هذه النتيجة - إن كانت بحاجة إلى تأييد - أن إدراكي للشيء الخارجي لا يتوقف على إرادتي، فليس في وسعي - مثلا - أن أنظر إلى المصباح المضيء الذي أمامي الآن وأقول إنني مصمم على ألا أراه؛ لأن رؤيتي له ستتم رغم أنفي، رضيت بذلك أو لم أرض، ما دمت قد اتجهت بنظري إليه، فذلك دليل على أن وجود المصباح مستقل عن وجودي، ومستقل عن إدراكي له أو عدم إدراكي، يفرض نفسه علي فرضا ما دمت قد هيأت لنفسي وسائل إدراكه، لكن قارن ذلك بالحالة التي أخلق لنفسي فيها صورة خيالية؛ كأن أتصور جبلا من ذهب، فها هنا يتم تكوين الصورة بإرادتي، إن شئت كونتها وإن شئت انصرفت عن تكوينها؛ ذلك لأن جبل الذهب ليس موجودا حقيقيا من موجودات الواقع. وإذن فعالم الواقع - على خلاف الصور المتخيلة - ذو وجود مستقل عني، ومعرفتي إياه هي تصوير له لا أكثر ولا أقل.

والنتيجة الثانية التي تترتب على هذا الرأي في «المعرفة» هي أن العالم قوامه كثرة من أشياء، وليس هو بالحقيقة الواحدة التي تخلو من التعدد، فما دام العالم - كما أعرفه - مؤلفا من كائنات شتى: أشجار وأنهار وأحجار وأجرام في السماء وأفراد من إنسان وحيوان على الأرض، ثم ما دام هذا الذي أعرفه عن العالم هو صورة له، إذن فالعالم في حقيقته هو هذه الكثرة في الأشياء والوقائع والحوادث التي قد تتصل حينا وتنفصل حينا، وإذا كانت هذه هي حقيقة الأمر فيه كان خير سبيل إلى معرفته أدق معرفة هو تحليله إلى مقوماته ومكوناته، فحلل الطبيعة إلى عناصرها، وانظر إلى هذه العناصر كيف تختلف وكيف تأتلف؛ ينكشف لك الستر عن سرها الدفين، حللها تظهر لك الأشياء ذرات هي لب الحقيقة وصميمها، فكأنما نحن بهذا نقول: إن حقيقة العالم هي ما يظهر لنا منها، على شرط أن يكون الناظرون هم أولئك الذين زودوا أنفسهم بأدق آلات النظر؛ أي هم العلماء.

وعند هذه النقطة الأخيرة بعينها يبدأ الاعتراض على مذهب الواقعية الساذجة التي تجعل «المعرفة» تصويرا ذهنيا للشيء المعروف، فالاعتراض الأول على ذلك هو هذا، من من الناس تكون الصورة الذهنية التي عنده عن الشيء هي الفكرة الصحيحة عن ذلك الشيء؟ أهو الإنسان العادي بحواسه المجردة أم العالم بمجاهيره؟ إنني أنظر إلى سطح هذه المنضدة التي أمامي بعين مجردة فأراه أملس، حتى إذا ما نظرت إليه بمجهر العالم رأيت فيه ما هو أشبه بالوديان والجبال؛ لأن أليافه الخشبية ليست في حقيقتها التي تظهر تحت المجهر مستوية ملساء كما بدت للعين العارية، وأنظر إلى القمر بالعين المجردة، فإذا هو قرص مستو، ثم أنظر إليه بالمنظار المقرب فإذا سطحه كسطح الأرض من وعورة، فأي المعرفتين هي الصواب؟ ستقول إن الصواب هو - بالبداهة - ما يبدو تحت المجهر أو ما يبدو بالمنظار المقرب. لكن ذلك المجهر وهذا المنظار قد يجيء ما هو أدق منهما، وعندئذ تزداد وعورة القمر، وعندئذ أيضا نعلم أن ما كنا ظنناه حقيقة المنضدة والقمر قد تبين أنه لم يكن الحقيقة كلها، وهكذا، ثم تزداد الحال سوءا حين يجيئنا عالم الطبيعة الحديث فينبئنا بأن هذه المنضدة التي أراها خشبا صلبا هي في الواقع مجموعة كبيرة من كهارب موجبة وكهارب سالبة، وأن هذه الكهارب في حركة وتغير، وإذن فليست المنضدة على الصلابة التي أحسها بأصابعي ولا هي على السكون الذي يظنه فكري. فالخلاصة التي أنتهي إليها من ذلك هي أن الصورة الذهنية التي أكونها لنفسي عند رؤيتي لشيء ما ليست هي بالمعرفة الصواب عن حقيقة ذلك الشيء؛ وبالتالي لا تكون الواقعية الساذجة قد أصابت الرأي حين قالت إن الفكرة التي أكونها بحواسي عن الشيء الذي أدركه هي صورة مطابقة للشيء نفسه، وأن المعرفة بوجه عام هي صورة العالم الخارجي في رأس الإنسان العارف.

ويتصل بالاعتراض الذي أسلفناه اعتراض آخر: وهو أنه لو كانت معرفتي بشيء ما صورة لذلك الشيء؛ للزم أن تدوم تلك المعرفة على حالة واحدة ما دام الشيء المعروف هو هو محتفظا بذاتيته. مثال ذلك: أنه لو كانت معرفتي لهذه المنضدة التي أمامي صورة تطابق المنضدة؛ لتحتم أن تظل الصورة على حالة واحدة مهما تغيرت وجهة نظري إلى المنضدة، ما دامت المنضدة - وهي الشيء المصور - محتفظة بذاتيتها، لكني ألاحظ أن إدراكي للمنضدة يتغير كلما غيرت موضعي منها، فاستطالة سطحها لا تظل على صورة واحدة بل تختلف باختلاف الزاوية التي أنظر منها، وإن شئت فانظر إلى الرسوم المختلفة التي يرسمها عشرة أشخاص جلسوا حول المنضدة ليرسمها كل منهم كما يراها، فعندئذ تجد شكل السطح قد تغير من رسم إلى رسم، فلو نظرت إلى السطح من أعلى بزاوية قائمة رأيته مستطيلا، وإن نظرت إليه وأنت جالس إلى جانبه هنا أو هناك قريبا أو بعيدا؛ وجدته متوازي أضلاع تختلف درجات زواياه باختلاف وضعك وهكذا. وقل هذا في لون المنضدة؛ إذ قد يخيل إليك للوهلة الأولى أن لونها بني في جميع أجزائها على السواء، لكن أمعن النظر - كما يمعنه رسام يريد أن يرسم المنضدة رسما ملونا كما يراها - تجد لمعات الضوء في أجزائها مختلفة، وباختلافها تختلف درجات اللون اختلافا بعيدا، حتى إذا ما حبست عنها الضوء جملة واحدة امتنع لونها، وإذن فللمنضدة من حيث شكلها ولونها صور مختلفات، فأي هذه الصور هو المعرفة الصحيحة التي تطابق الشيء المعروف؟ أم أن المنضدة في حقيقتها هي جملة هذه الحالات المختلفة، وعندئذ لا تكون المعرفة بها متشابهة عند مجموعة المشاهدين لها، بل لا تكون المعرفة بها متشابهة عند الفرد الواحد في لحظاته الزمنية المختلفة وفي مواضعها المختلفة بالنسبة إليها؟

وإذا سلمنا بأن صفات الشيء تتغير بالنسبة لتغير موضعي منه ووجهة نظري إليه، فهل ينطبق هذا القول على كل صفاته بغير استثناء، أم ينطبق على بعضها دون بعضها الآخر؟ هاتان برتقالتان لهما صفات من لون واستدارة وغير ذلك، فلو كان لونهما يتغير بتغير الضوء الساقط عليهما، فهل تتغير درجة الاستدارة كذلك بتغير موقفي منهما أم أنهما تبدوان مستديرتين على صورة معينة دائمة مهما تغير وضعي؟ ثم هل هناك من الظروف ما يغير من حقيقة كونهما اثنتين من حيث العدد؟ الظاهر أن الصفات ليس كلها سواء من حيث تغيرها تبعا لطريقة إدراكي لها، وإن منها ما يتغير ومنها ما يدوم على حاله، وإذا كان ذلك كذلك فلا أستطيع القول بأن معرفتي للشيء عبارة عن صورة مطابقة لحقيقته في الواقع، بل ينبغي أن أفرق بين صفات ذلك الشيء، فأقول إن معرفتي لهذه الصفة المعينة منه (كمعرفتي باللون مثلا) لا تطابق الواقع كما هو، إنما تتغير بطريقة إدراكي لها، وأما معرفتي لتلك الصفة المعينة منه فتطابق الواقع كما هو ولا تتغير بتغير الشخص المدرك.

وهذه التفرقة إن هي إلا تمحيص ونقد لنظرية الواقعية الساذجة في المعرفة، وإذن فهذه النظرية بحاجة إلى تعديل يزيد من دقتها. (2) الواقعية النقدية

إن أول ما يلفت النظر في رأي الواقعية الساذجة من أن المعرفة صورة للواقع هو أن العقل يصبح بهذا الرأي لوحة قابلة لا فاعلية فيه، كأنه اللوحة في آلة التصوير تأتيها أشعة الضوء من الخارج فترتسم عليها كما أتتها بغير تحوير، لكن تعال معي نحلل أمثلة من معارفنا، وسيتبين لنا في جلاء أن الأمر ليس كذلك، وأننا وإن نكن قد تلقينا من الخارج مادة خامة فإننا نتناولها في الداخل بالتأليف والتركيب، بحيث ينتج لنا من ذلك تكوينات عقلية هي أساسية في معرفتنا، ومع ذلك فلا تطابق بينها وبين عالم الأشياء.

فأنت تعرف ما «البرتقالة» مثلا، بحيث إذا عرضت لك برتقالة عرفت أنها برتقالة على أساس الصورة العقلية التي تحملها معك جزءا من معرفتك، فمم تتكون فكرة البرتقالة التي تحملها في رأسك؟ لقد رأيت في خبرتك برتقالات كثيرة ليست كلها سواء، فاللون فيها على شيء من الاختلاف، والاستدارة فيها على شيء من التفاوت، والطعم فيها على كثير من التباين، وهكذا، لكنها - على ما بينها من اختلاف في بعض التفصيلات - تشترك كلها في صفات بحيث يستحيل أن تكون هنالك برتقالة إلا وقد اتصفت بتلك الصفات، هذه الصفات المشتركة هي التي تجمع بعضها إلى بعض في رأسك، وهي التي تتكون منها معرفتك بالبرتقالة. ولكن لاحظ أن هذه «البرتقالة العامة» التي رسمت لها صورة في ذهنك تختلف عن أية برتقالة تصادفك في العالم الواقع؛ لأنك عندما ركبت صورة «البرتقالة العامة» كنت قد طرحت من حسابك بعض التفصيلات التي تختلف فيها برتقالات الواقع التي عرضت لك في خبرتك، وإذن فهذه الصورة العامة التي لديك، والتي هي في الحقيقة معرفتك بالبرتقالة، ليست صورة مطابقة تمام المطابقة لأفراد البرتقال في الواقع. وحسبنا هذا المثل الواحد لنعلم أن الواقعية الساذجة قد أخطأت حين قالت إن معرفتنا هي صورة مطابقة للشيء المعروف. ولنعلم كذلك أن الأمر يحتاج إلى تحليل، وليس هو بالبساطة التي أخذته بها الواقعية الساذجة، وذلك ما فعله بعض الفلاسفة حين تناولوا نظرية المعرفة بالبحث الدقيق. نسوق لك منهم مثالا «جون لوك».

1

إذا ألقيت على «لوك» السؤال المطروح أمامنا الآن، وهو: ما المعرفة في طبيعتها؟ ماذا أعني على وجه الدقة حين أنظر إلى برتقالة - مثلا - وأقول: إنني «أعرف» أن هذه برتقالة؟ إذا كانت معرفتي هذه بالبرتقالة هي علاقة قائمة بيني وبين شيء أدركه، فما نوع هذه العلاقة؟ أهي علاقة التطابق التي تقوم بين الصورة والشيء المصور كما يقول أنصار الواقعية الساذجة؟

لا، ليست هي علاقة التطابق التام الشامل، هكذا يجيبك «لوك» عن سؤالك؛ ذلك أن صفات البرتقالة ليست كلها على درجة سواء، بحيث تكون معرفتك إياها من نوع واحد وطبيعة واحدة، فلو أحصيت صفات البرتقالة: شكلها الكري ولونها الأصفر وطعمها ... إلخ؛ وجدت أن هذه الصفات تقع في قسمين مختلفين، فبعضها متصل بالبرتقالة اتصالا يستحيل انفصاله، وأما بعضها الآخر فليس في الحقيقة قائما في البرتقالة ذاتها، بل نشأ حين اتصلت البرتقالة بحاسة من حواسك. ويطلق «لوك» على النوع الأول اسم «الصفات الأولية» وعلى النوع الثاني اسم «الصفات الثانوية».

فشكل البرتقالة الكري جزء لا يتجزأ من البرتقالة كما هي في الواقع، فهي كرية سواء رأيتها بعينيك أو لم ترها، لمستها بأصابعك أو لم تلمسها. وإذن فإذا عرفت عنها أنها كرية الشكل، فهذا الجانب من معرفتي مطابق لحقيقة الشيء كما هي خارج نفسي، ولا دخل لي في تكوين هذا الشكل أو إحداثه، إنما أتلقاه كما هو، وهكذا قل في درجة صلابتها وفي امتدادها وفي حركتها أو سكونها وفي عددها. كل هذه صفات للبرتقالة، إذا عرفتها كانت «معرفتي» مطابقة للأصل الذي في الخارج.

لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لبعض صفات أخرى كاللون والصوت والطعم، وهي التي أسماها «لوك» بالصفات الثانوية، خذ اللون مثلا: فأنت إذ تصف البرتقالة بأنها صفراء، فإن لونها هذا ليس فيها على نفس الصورة التي تراه فيها، فالذي ينبعث من البرتقالة ليلتقي بعينيك هو موجات ضوئية ذات طول معين، ولا تتحول هذه الموجات الضوئية إلى اللون الأصفر كما تعرفه إلا بعد أن تلتقي بعينيك وتنتقل عن طريق أعصابك إلى المخ، أما الموجات الضوئية نفسها التي انتقلت من البرتقالة إليك فليست صفراء، ولو كانت صفراء في ذاتها لرأيت خطوطا صفراء ممتدة من البرتقالة إلى عينيك، لكن المسافة التي بينكما لا تكون ذات لون على الرغم من أن موجات الضوء المنبعثة من البرتقالة تنتقل من خلالها. ومعنى ذلك كله هو أن اللون الأصفر قد تم تكوينه داخل جسمك على أساس الأشعة الضوئية التي جاءتك من الخارج، وإذن فليس اللون الذي «تعرفه» عن البرتقالة مطابقا لما هو موجود فيها.

وقل هذا بعينه في الصوت، فهذه الدقات التي أسمعها الآن آتية إلي من الساعة، إنما كانت موجات هوائية قبل أن تطرق أذني. ولم تتحول تلك الموجات إلى صوت مسموع إلا داخل جسمي. أو بعبارة أخرى: لولا أن في العالم آذانا تسمع لكان العالم صامتا لا صوت فيه، كما أنه لولا أن في العالم عيونا ترى لكان العالم بغير لون. وكذلك قل في الطعم؛ فحلاوة الشيء أو مرارته لا تتكون إلا حين يلتقي بلسان الطاعم، أما قبل ذلك فلا حلاوة ولا مرارة، وحسبك أن تذكر أن الشيء الواحد قد يتغير طعمه بالنسبة إليك حسب حالاتك المختلفة من صحة أو مرض، وبالطبع ليس الشيء هو الذي تغير بل هو أنت، فتغير الطعم نتيجة للتغير الذي طرأ عليك.

ففي اللون والصوت والطعم لا تكون معرفتنا صورة للواقع، إنما هي صورة محورة، فكل ما يجيء إلينا من الشيء الخارجي مؤثرات خاصة، ثم تحدث هذه المؤثرات فينا آثارا لا شبه بينها وبين المؤثر. مثل ذلك مثل الشمس تبعث حرارتها إلى قطعة الشمع فتذيبها ، فلا يكون الأثر الذي هو السيولة الحادثة في الشمع شبيها بالمؤثر الذي هو قرص الشمس، ولو كانت قطعة الشمع لتتكلم لقالت عن السيولة التي تحدث فيها إنها الشمس، ولظنت أن الصورة التي حدثت - وهي السيولة - شبيهة بالشيء المحدث وهو الشمس.

الصفات الأولية والصفات الثانوية كلتاهما تجيء إلينا من الشيء الخارجي عن طريق حواسنا، لكن الأولى صورة مطابقة للواقع، وأما الثانية فيتم تكوينها داخلنا بحيث لا تكون صورة مطابقة للواقع، وإن تكن دالة عليه. ومن مجموعة المحصول الذي أحصله من هذه الصفات وتلك يأخذ عقلي في تركيب الأفكار، كأن يجمع اللون الذي يأتيه من البرتقالة إلى طعمها وشكلها وملمسها وصوتها، إذ تتدحرج على الأرض، يجمع هذه الأشتات التي ذهبت إليه من طرق مختلفة، فهذه الصفة جاءت من العين وتلك من الأذن وثالثة من الأنف ورابعة من الأصابع وهكذا، يجمع العقل هذه الأشتات في صورة واحدة على لوحته، فتكون هي فكرة البرتقالة عنده، حتى إذا ما اجتمعت لديه صور عدة لعدد من برتقالات قارن بينها واستخرج منها «صورة عامة» تنطبق على أية برتقالة، وإن تكن مختلفة بعض الشيء عن كل برتقالة على حدة. وإذن فالصورة العامة التي أعبر عنها بكلمة كلية هي فكرة مركبة من مجموعة إحساسات، غير أن التركيبة في النهاية لا تطابق الواقع وإن تكن دالة عليه. ومثل هذه المدركات الكلية التي يكونها الإنسان - مثل شجرة ومنزل وكتاب وإنسان ونهر ... إلخ - هي - في رأي «لوك» - أفكار مركبة قوامها صفات عرضية تأتي عن طريق الحواس أشتاتا، ثم يركبها العقل بفاعليته.

لكن علام يركب العقل هذه الصفات العرضية للشيء؟ كيف - مثلا - يضم لون البرتقالة إلى شكلها وطعمها ورائحتها وصلابتها لتتكون له بذلك صورة مؤتلفة لشيء واحد؟ هل يلف العقل هذه الصفات بعضها على بعض بغير محور يديرها حوله؟ كلا، بل لا بد من افتراض وجود عنصر تتعلق به هذه الصفات، وإلا كانت صفات بغير شيء تصفه، وهذا العنصر الذي تنتمي إليه الصفات العرضية من لون وطعم ورائحة وشكل ... إلخ هو «جوهر» الشيء أو كنهه ولبابه، ألا ترانا نقول: «البرتقالة» صفراء، و«البرتقالة» كرية، و«البرتقالة» طعمها كذا ورائحتها كيت؟ ثم ألا يدل هذا على أننا ننسب هذه الصفات كلها إلى شيء محوري جوهري هو الذي يكون «البرتقالة» في ذاتها وحقيقتها، وهو الذي يتصف بهذا اللون أو ذاك وبهذا الشكل أو ذاك؟ إذن فهذا نوع آخر من معارفنا عن الأشياء، فإلى جانب «أعراض الشيء» المتغيرة من لون وطعم ورائحة وشكل نعرف «جوهره» الثابت الذي يجعله هو ما هو.

وبعد أن تتركب في أذهاننا صور للأشياء، لكل شيء جوهره وأعراضه، فهذه منضدة، وهذا مصباح، وهذه ورقة، وذلك قلم ... إلخ، لا تظل هذه الصور في الذهن فرادى متفرقات لا شأن للواحدة بالأخرى، بل ترتبط الصور الذهنية، أو قل: ترتبط معارفنا عن الأشياء بروابط وعلاقات، فشيئان يرتبطان بعلاقة السببية، وشيئان يرتبطان بعلاقة التجاور، وشيئان يرتبطان يكون الواحد منهما حدث قبل الآخر في الزمن أو بعده وهكذا؛ وبهذا تنشأ مجموعة ثالثة من معارفنا، وهي العلاقات التي تربط أفكارنا عن الأشياء بعضها ببعض.

هكذا يحلل «جون لوك» معرفة الإنسان إلى أفكار بسيطة هي أحاسيسنا التي تأتي عن طريق حاسة واحدة كاللون حين يأتي عن طريق البصر، أو تأتي عن طريق حاستين كالشكل حين يأتي عن طريق البصر واللمس معا؛ ثم إلى أفكار مركبة يركبها العقل بفاعليته من تلك الأفكار البسيطة، وهذه الأفكار المركبة إما أن تكون فكرة عن الشيء في صفاته العارضة أو فكرة عن الشيء في جوهره الثابت أو فكرة عن العلاقات التي تربط شيئا بشيء، وهذه المعرفة - على اختلاف أنواعها من بسيطة ومركبة - منها ما يكون صورة مطابقة للواقع، ومنها ما لا يكون بينه وبين الواقع شبه وإن يكن دالا عليه، وتلك هي الواقعية النقدية التي تجعل الواقع مصدر معلوماتنا، لكنها لا تتسرع بوصف معرفتنا كلها بوصف واحد، كأنها كلها من طبيعة واحدة، بل تحلل أنواع المعرفة لترى ماذا يتشابه في أجزائها، وماذا يختلف، وماذا يصور الأشياء الخارجية تصوير الشبيه لشبيهه، وماذا لا يصورها؟

الفصل الثاني

طبيعة المعرفة عند البراجماتيين

عندما أراد أنصار المذهب الواقعي بقسميه أن يجيبوا عن السؤال الذي طرحناه عن المعرفة وهو: «ما طبيعة المعرفة؟» كان مدار البحث عندهم - كما رأيت - هو النظر فيما إذا كانت الفكرة من أفكارنا صورة مطابقة للشيء الخارجي الذي تشير إليه تلك الفكرة، أو غير مطابقة، ومتى يكون بين الفكرة والشيء الخارجي تطابق ومتى لا يكون، فكأنهم بذلك يريدون أن يقولوا إن طبيعة المعرفة هي تصوير للواقع، بحيث تكون الصورة تامة الشبه بمصورها أحيانا، ولا تكون كذلك أحيانا أخرى، فأنت «تعرف» - بناء على مذهب الواقعيين في المعرفة - بمقدار ما في رأسك من صور عن أشياء العالم ووقائعه.

لكنك قد تحمل في رأسك صورا لكائنات العالم بأسره دون أن يؤدي بك هذا إلى عمل تعمله، أي أن المعرفة على مذهب الواقعيين لا تتضمن سلوكا معينا يقوم به الشخص العارف، فما دام العقل عندهم مرآة تنطبع عليها آثار الأشياء الخارجية، وبمقدار ما يتزاحم في المرآة من صور تزداد خبرات الشخص ومعارفه؛ إذن فأمر الشخص العارف كأمر المرآة التي تتلقى صور الأشياء فلا تحركها تلك الصور خطوة إلى يمين أو يسار. ومن هنا كان الفلاسفة يفرقون بين الفكر والعمل، فيقولون إن رجل الفكر قد لا يكون رجلا عمليا، ورجل العمل قد لا يكون صاحب فكر، إيمانا منهم بأن المعرفة شيء لا يستدعي بالضرورة سلوكا معينا في الحياة العملية.

وجاء المذهب البراجماتي - أو المذهب العملي - في عصرنا الحديث، فغير النظرة إلى طبيعة المعرفة بحيث لم يجعلها مجرد تصوير لعالم الواقع كما ظن الواقعيون، بل جعلها أداة للسلوك العملي؛ أي أن الفكرة من أفكارنا هي بمثابة خطة يمكن الاهتداء بها في القيام بعمل معين، والفكرة التي لا تهدي إلى عمل يمكن أداؤه ليست فكرة، بل ليست شيئا على الإطلاق، إلا أن تكون وهما في رأس صاحبها.

لو وقفت عند مفترق الطرق ورأيت النور الأحمر في مصباح المرور، ثم قلت: إني «أعرف» أن هذا اللون أحمر، فما معنى «معرفتي» هذه؟ أجابك الواقعيون بأن معناها هو أن في رأسك صورة للواقع - سواء كانت صورة مطابقة للواقع أو غير مطابقة - أما البراجماتي فيقول إنها لا تكون «معرفة» إلا إذا هدتك إلى السلوك الذي تسلكه عند رؤيتك للنور الأحمر، فتعرف إلى أي اتجاه يجوز السير وفي أي اتجاه لا يجوز، أما مجرد ارتسام صورة لون أحمر على صفحة ذهنك فليس «معرفة» في قليل أو كثير. وهكذا تكون الفكرة فكرة إذا كان فيها ما يدل على نوع السلوك الناجح.

ولماذا تشذ «المعرفة» عن سائر وظائف الإنسان العضوية؟ إن كل هذه الوظائف إنما أريد لها حفظ البقاء، فالهضم والتنفس ودورة الدم وما إلى ذلك كلها وسائل لبقاء الكائن الحي حيا، فردا كان أو نوعا، فكيف لا تكون هذه الوظيفة البشرية الهامة، وظيفة «معرفة» الإنسان لما يحيط به هي الأخرى أداة تطورية بيولوجية يراد بها أن يحتفظ الإنسان ببقائه، وهو إنما يحتفظ ببقائه بنوع السلوك الذي يسلكه فينجح به في بيئته، وقد كانت «المعرفة» تفقد كل قيمتها لو كانت مجرد تصوير العالم على صفحة الذهن دون أن تكون إجراءات سلوكية تؤدي إلى حفظ البقاء في هذا المعترك الذي تنازل فيه الكائنات بعضها بعضا؛ ليبقى منها الصالح للبقاء ويفنى منها غير الصالح.

الفكرة التي تحيا في الذهن ولا تخرج إلى عمل ليست من «المعرفة» بمعناها الصحيح، ومقياس صواب الفكرة هو رسمها لطريقة إنجاز عمل معين؛ ولذلك كانت الفكرة الصائبة هي الفكرة النافعة، وإذا لم يكن للفكرة المعينة أثر عملي أو نفع في حياة الإنسان، لم تكن جديرة أن تسمى ب «معرفة»، ففكرة الجاذبية مثلا صادقة بمقدار ما هي نافعة نفعا عمليا، فتراني أنظم علاقاتي بالأشياء تنظيما يصون لي حياتي وحاجاتي، فأحمل كوب الماء مثلا وفوهته إلى أعلى حتى لا ينسكب الماء بفعل الجاذبية، وأمشي معتدل القامة خشية السقوط بفعل الجاذبية، وأشيد سكني مستقيم الجدار؛ لئلا ينهار بفعل الجاذبية، وهلم جرا. أما إذا فرضنا أن فكرة الجاذبية لا أثر لها في حياتنا العملية قط، فإنها عندئذ لا تكون من «المعرفة» في شيء ؛ إذ ماذا عساني أن «أعرف» إذا لم أعرف كيف أسلك إزاء العالم الذي أعيش فيه؟

هل تقول عن الطبيب إنه «يعرف» شيئا من علم الطب إذا لم يكن قادرا على ترجمة معرفته إلى عمل ناجح إزاء مريضه؟ وهل تقول عن المهندس الميكانيكي إنه «يعرف» شيئا عن عدة السيارة إذا كان عاجزا عن عمل إزاءها حين يصيبها العطب حتى تعود إلى الحركة والسير؟ هل تقول عن نفسك إنك «تعرف» الطريق إلى المحطة إذا لم تكن قادرا على رسم خطة للسير بحيث تنتهي بك إلى هناك إذا أردت ذلك؟ وهكذا قل في كل ضروب المعرفة، إنها لا تكون معرفة إلا إذا كانت في حقيقتها خطة مرسومة لعمل ناجح يؤدى في عالم الأشياء فيغيره على النحو الذي يجعله أكثر ملاءمة لحياة الإنسان. الفكرة التي لا تساعد صاحبها على تغيير أوضاع الأشياء من حوله تغييرا يؤدي إلى ارتياحه ليست من الفكر في شيء، إنه لا فرق بين الفكر والعمل؛ لأن الفكر في حقيقته وفي طبيعته هو برنامج للعمل.

ومن أكثر الفلاسفة توضيحا لهذا المذهب البراجماتي (أو العملي) في تفسير المعرفة: الفيلسوف الأمريكي «وليم جيمس»

1

الذي يعده العالم ممثلا للفلسفة الأمريكية الحديثة. وأهم ما نهتم له الآن من آرائه نظريته في معنى الكلام؛ لأننا ما دمنا نعبر عن «معرفتنا» في عبارات كلامية، فإن تحليلنا وتحديدنا لماذا عسى أن يكون معنى العبارة التي نقولها، هو في الوقت نفسه تحليل وتحديد لطبيعة ما لدينا من معرفة.

وتستطيع بصفة عامة أن تقول إن طريقة فهمنا لفكرة من الأفكار هي أن نتصور ما قد ينتج عن هذه الفكرة من آثار في خبراتك العملية، فتكون مجموعة هذه النتائج هي بذاتها معنى الفكرة التي أردنا فهمها. وأحب لك أن تلاحظ جيدا مقدار النقلة التي انتقلها البراجماتيون بالنسبة إلى الواقعيين الذين أسلفنا لك شرح رأيهم؛ فقد كان معنى الفكرة من أفكارنا عند هؤلاء الواقعيين هو الشيء الذي في العالم الخارجي والذي كان أصلا للصورة التي ارتسمت في الذهن، أما معنى الفكرة عند البراجماتيين فليس هو «أصلها» بل «نتائجها»، ليس هو في البداية التي ابتدأت منها بل في النهاية التي ستنتهي إليها.

خذ لذلك مثلا قولي «قد نفد المداد من قلمي» فما المعنى الذي تفهمه من هذه العبارة؟ ما المعرفة التي تحصل منها؟ يجيب الفيلسوف البراجماتي عن ذلك بقوله إنني لو أحصيت ما أتوقعه من نتائج في خبرتي العملية لهذه العبارة فقد فهمتها وعرفتها، فمثلا أتوقع ألا يكتب القلم شيئا لو خططت به على الورق، وأتوقع أن يجتذب إلى داخله قطرات من المداد لو أردت أن أملأه وهكذا. خذ مثلا آخر قولي «قد انطفأت النار في غليوني»، فماذا تفهم من هذه العبارة؟ أفهم العبارة لو عرفت نتائجها، كأن أعرف أني لو استنشقت خلال الغليون لما أحسست تبغا، ولو وضعت إصبعي في إنائها لما احترق، وهكذا، ولتلاحظ أن هذه النتائج التي أتوقعها في الخبرة العملية من فكرة بعينها هي بذاتها معنى الفكرة. وإذن فالفكرة التي لا أستطيع أن أهتدي منها إلى ما عساه أن يقع في الخبرة من نتائج لا تكون فكرة على الإطلاق؛ لأنها عندئذ تكون بغير معنى.

هذه هي النظرية البراجماتية في معاني أفكاره، ومما يترتب على هذه النظرية العملية أننا لو كنا إزاء فكرتين يبدو عليهما التناقض أو الاختلاف، ثم وجدنا أن كلا منهما من حيث نتائجها العملية كزميلتها سواء بسواء؛ حكمنا عليهما بأنهما فكرتان متطابقتان متساويتان. مثال ذلك: افرض أني قلت لك عن هذه المنضدة إن طولها متر، ثم قال عنها قائل آخر إن طولها ليس مترا بل هو أكثر من متر بمقدار يتعذر قياسه بآلات القياسة المعروفة لنا، فإن هذين القولين يبدوان مختلفين، لكن حاول أن تفهم معنى كل منهما بتتبع النتائج المرتقبة؛ تجد أنك في الحالة الأولى وفي الحالة الثانية على حد سواء لن يسعك إلا أن تقوم بعملية واحدة، وهو أن تقيس المنضدة بأدوات القياس المعروفة لتجد طولها مترا، وإذن فالقولان متساويان مهما ظهر في لفظهما من اختلاف.

وكذلك مما يترتب على هذه النظرية أن أية عبارة تحدثك حديثا لا تكون له نتائج فعلية أو ممكنة في خبرتك العملية؛ كانت عبارة بغير معنى. مثال ذلك: أن أقول لك إن في المكان الفلاني كائنا روحانيا لا يمكن أن تراه الأبصار وليس هو بذي صوت تسمعه الآذان ولا رائحة له تشمها الأنوف، ولا تستطيع أن تصدمه بجسم صلب أو تمسه بيديك. فهذا كلام فارغ أجوف ليس له معنى؛ لأنه لا يتضمن نتائج عملية يمكنك أداؤها إزاء هذا الكائن المزعوم.

لكن وليم جيمس يبدي رأيه في العبارة التي تحدثنا عن وجود الله فيقول إنها ذات معنى، على أساس نظريته، على الرغم من أنني لن أحس لوجوده إحساسا بواحدة من حواسي كالعين أو الأذن أو الأصابع؛ ذلك لأن هذا الاعتقاد عند الناس له آثاره الكثيرة في وجهة نظرهم إلى الحياة؛ فهو قد يسبب لهم التفاؤل والأمل وغير ذلك مما يؤثر تأثيرا مباشرا في طريقة العيش التي يحيونها.

وكذلك من النتائج التي تترتب على النظرية البراجماتية فتجعلها بعيدة الاختلاف عن النظرية الواقعية أن صدق المعرفة درجات؛ أي أنك قد تجد فكرتين كلتاهما صادق، لكن واحدة أصدق من الأخرى؛ لأنها أنجح منها في مجال السلوك العملي، مع أنه لو كان رأي الواقعيين في المعرفة صوابا - أي أنه لو كانت المعرفة هي صورة للواقع ترسم على الذهن - لكانت المعرفة إما صوابا كل الصواب أو خطأ كل الخطأ؛ لأنه لا وسط بين الطرفين؛ إذ الفكرة عندئذ إما أن تكون صادقة التصوير لما تصوره أو غير صادقة. أما وقد جعلنا معنى الفكرة نتائجها لا أصلها؛ أعني أننا قد جعلنا معنى الفكرة نفعها العملي لا مجرد تصويرها للحقيقة تصويرا محايدا قد ينفع وقد لا ينفع، فمن الممكن أن تتفاوت الأفكار في النفع؛ وبالتالي تتفاوت في درجة الصدق.

والخلاصة هي أن المعرفة عند البراجماتيين ليست نسخة من أصل هو الحقيقة الخارجية، بل المعرفة بيان لما يمكن أن يكون عليه سلوكنا في حياتنا العملية، بحيث نحقق رضى النفس لأكثر عدد ممكن من الناس.

وبالطبع لا تخلو هذه النظرية البراجماتية من أوجه النقص، فليس من العسير أن تجد أمثلة من معارفنا لا تفسرها هذه النظرية تفسيرا مقبولا. خذ لذلك هذا المثل: إذا قلت لي إن كولمبس قد عبر المحيط الأطلسي سنة 1492م، وأردت أن أعرف إن كان قولك هو الصواب، فبناء على النظرية البراجماتية ينبغي أن أنظر في نتائج هذا القول لا في أسبابه، فإن وجدتها نتائج أدعى إلى السلوك الناجح كان القول صحيحا. لكن ما الفرق من حيث النتائج العملية بين من يقول ذلك، ومن يقول عن رحلة كولمبس إنها وقعت سنة 1491 أو سنة 1493م؟ إنه من العسير أن نتبين فرقا في النتائج، اللهم إلا أن القائل بالعبارة الأولى لو كان طالبا في امتحان فإنه يجتاز امتحانه بنجاح، على خلاف القائل بالعبارة الثانية أو الثالثة.

إننا لو جعلنا حسن النتائج المترتبة على الفكرة هو مقياس صدقها؛ لوجدنا عبارات مقطوعا ببطلانها صحيحة على هذا المقياس، فمثلا قولنا عن سانتا كلوز: إنه موجود (سانتا كلوز شخص خيالي يقال للأطفال في عيد الميلاد المسيحي: إنه يزورهم وهم نيام فيترك لهم هدايا العيد) يكون قولا صحيحا إذا قيس بنتائجه الطيبة على أنفس الأطفال وآبائهم جميعا.

وخذ أيضا هذا المثل: إذا رأيت البرق يلمع في السماء وتوقعت أن تسمع الرعد بعد ذلك ثم سمعته فعلا، فإنك تقول إن توقعك كان صوابا لا لأن اعتقادك بأنك ستسمع صوت الرعد سينفع أو لا ينفع في حياتك اليومية، بل هو صواب لأنه اعتقاد مطابق لما وقع في العالم الخارجي لا أكثر ولا أقل. والظاهر أن كثيرا جدا من معلوماتنا في الحياة اليومية الجارية يكون صوابا أو خطأ على الرغم من نفع الصواب في حياتنا أو عدم نفعه؛ فمعرفتي مثلا بأن فلانا يسكن في المنزل الفلاني، وأن قطار الإسكندرية يقوم من القاهرة في الساعة الفلانية وهكذا، تكون معرفة صحيحة أو غير صحيحة لمطابقتها أو عدم مطابقتها للواقع. وبعد ذلك فقد تكون معرفة نافعة في حياتي أو غير نافعة، أي أن الصواب والخطأ في كثير من الأحيان يتقرران قبل تتبع نتائج الفكرة لمعرفة نفعها أو ضررها، ولو كان عامل النفع العملي وحده هو مقياس صواب الفكرة، بل مقياس معناها وقابليتها للفهم كما يقول البراجماتيون؛ لكان صواب الفكرة من أفكارنا متوقفا إلى حد كبير على قانون العقوبات ونوع الحكومة القائمة وأمزجة أصحاب السلطة، فاعتقاد ساكن الروسيا بالشيوعية يكون صوابا حتما واعتقاده بالديمقراطية يكون خطأ حتما، على حين يكون اعتقاد ساكن الولايات المتحدة بالديمقراطية صوابا واعتقاده بالشيوعية يكون خطأ؛ لأنه إن كان مدار الصواب على النتائج فساكن الروسيا إذا اعتقد في الديمقراطية وضع في السجن، وكذلك يضطهد في أمريكا من يعتقد في النظام الشيوعي. وهكذا يتغير الصواب بتغير الظروف السياسية إن أخذنا بوجهة نظر البراجماتيين على إطلاقها.

الفصل الثالث

طبيعة المعرفة عند المثاليين

الواقعية والبراجماتية كلتاهما - كما رأيت - تفسر طبيعة المعرفة بالاستناد إلى شيء واقع خارج العقل، على اختلاف بينهما في نوع العلاقة التي تقوم بين العقل العارف والشيء المعروف، فبينما يجعلها الواقعيون علاقة الصورة بأصلها يجعلها البراجماتيون علاقة سلوكية؛ أي يجعلون المعرفة - أيا كان نوعها - خطة يتبعها الشخص العارف في سلوكه وفي معالجته للأشياء الخارجية.

لكننا الآن إزاء مذهب يختلف عن الواقعية والبراجماتية معا اختلافا يتناول الأساس، فلئن اعترف هذان المذهبان بوجود عالم خارجي من أشياء، وجودا مستقلا عن الإنسان، بحيث يظل موجودا سواء وجد فيه الإنسان الذي يعرفه أو لم يوجد، ترى المذهب المثالي - الذي نحن الآن بصدد عرضه فيما يختص بطبيعة المعرفة - لا يعترف بوجود شيء خارج العقل، فلا وجود إلا لما يدركه عقل ما، وما ليس يدركه عقل ما يستحيل أن يكون موجودا؛ وإذن فمعرفة الشيء ووجوده جانبان لحقيقة واحدة. وبذلك يكون جواب السؤال المطروح أمامنا في هذا الباب وهو: «ما طبيعة المعرفة؟» هو «طبيعة المعرفة هي نفسها طبيعة الوجود»، لا فرق بين الشيء باعتباره كائنا من كائنات العالم وبينه باعتباره مدركا من مدركات العقل، فمعرفتي لهذا المصباح الذي أمامي الآن هي نفسها المصباح؛ أي أنه ليس هناك أصل في الخارج وصورة عقلية في الداخل، بل كل الموجود عن المصباح هو الصورة العقلية وحدها. حلل ما يحدث عند رؤيتي للمصباح - حتى من وجهة نظر الواقعيين أنفسهم - تفهم الرأي الذي يذهب إليه المثاليون؛ تنتقل موجات ضوئية إلى شبكية عيني، فتتأثر هذه الشبكية لهذا المؤثر الطارئ، وتنتقل منها اهتزازات دقيقة خلال العصب البصري إلى المخ؛ حيث مركز الإبصار، وهناك يحدث في خلايا المخ من الحركة ما أسميه أنا «مصباحا». وهنا يقول الواقعيون: إن هذه الحركة العصبية التي حدثت داخل المخ قد أحدثت فيه «صورة» للمؤثر الخارجي الذي هو المصباح نفسه، ويرد المثاليون على هذه الدعوى بقولهم: من ذا أدراك أن ما لديك صورة لشيء خارج جسدك؟ إن كل ما تعرفه وكل ما يمكن أن تعرفه هو هذه الصورة - أو قل هو هذه الفكرة - التي هي في داخلك، وكل ما عدا ذلك فهو استدلال قد تخطئ فيه وقد تصيب، إنه يستحيل على إنسان أن يخرج من جلده لينظر إلى العالم الخارجي من غير طريق نفسه، ولا سبيل أمامه إلى معرفة شيء إلا أفكاره التي في رأسه. إنني حين أنظر إلى برتقالة وأقول إني قد «عرفتها» من حيث لونها وشكلها وصلابتها، فلست أعني بالطبع أن البرتقالة نفسها قد تسللت داخل رأسي، بل كل ما أقصده أن آثارا معينة قد انتقلت داخل جسمي خلال الأعصاب، بادئة سيرها من العين أو من الأصابع؛ فالذي أعلمه - إذن - عن البرتقالة هو ما بداخلي فقط، هو الآثار التي أحدثتها اهتزازات الخلايا العصبية، أو قل هو «فكرتي» التي تكونت عن البرتقالة، ولو لم تكن لي العين التي تبصر أو الأصابع التي تلمس؛ لما كان للبرتقالة عندي وجود، وإذن فوجودها هو إدراكها، وبغير الإدراك العقلي للشيء لا يكون له وجود.

قد تسأل: وماذا يقول المثاليون عن وجود البرتقالة إذا تركتها ورائي في الغرفة لا أراها ولا ألمسها ولا أحسها بأية حاسة أخرى، أينعدم وجودها لغيابي؟ والمثاليون يجيبون عن هذا السؤال بقولهم إن البرتقالة حين لا تدركها أنت فقد يدركها سواك من الناس، وإذا لم يكن يدركها إنسان فهنالك العقل الإلهي يدركها مع سائر الكائنات.

لماذا تدهش إذا قيل لك إن الأشياء التي تقع في خبرتك الآن - من مرئيات ومسموعات ... إلخ - وجودها منحصر في نفسك أنت، على حين أنك لا تدهش إذا قيل لك القول نفسه عن خبراتك الماضية، فأين ماضيك؟ أين المرئيات التي مرت بك والمسموعات وما لمست وما طعمت؟ أليست هذه الخبرة عن الماضي كله كائنة فيك، وليس هنالك في الخارج الآن شيء يقابلها؟ إذن فما نقوله لك عن خبرة اللحظة الحاضرة شبيه بما نقوله عن خبرة اللحظات التي مضت، وجودها لا يكون إلا في نفسك، والخروج من نفسك لترى ماذا يقع خارجها محال، وكذلك محال - في رأي المثاليين - أن يتصور الإنسان شيئا ما لا يقع في خبرة كائن ذي إدراك، وإن شئت فحاول - مثلا - أن «تتصور» شجرة موجودة دون أن تكون هذه الشجرة جزءا من إدراك أحد، تجد أن هذه المحاولة تنقض نفسها بنفسها؛ لأنك في الوقت الذي تريد أن تعزل تلك الشجرة عن كل إدراك تجعلها جزءا من إدراكك أنت.

وإذا كان وجود الشيء متوقفا على أن يدركه مدرك ما، وإذا كانت مجموعة المدركات العقلية عند الفرد من الناس هي كل ما يستطيع أن يعرفه عن الوجود، كان كل فرد دنيا نفسه، فالعالم الذي أعيش فيه أنا هو مدركاتي، والعالم الذي تعيش فيه أنت هو مدركاتك، وهكذا. وهنا يجد الناقدون فرصة للهجوم على هذا المذهب؛ إذ لو كان كل إنسان دنيا نفسه، ولو لم يكن هناك عالم خارجي موضوعي نحتكم إليه عند اختلافنا في المعرفة؛ لاستحال أن يلتقي فردان من الناس على اتفاق؛ إذ كيف يكون الاتفاق بينهما إذا كان كل منهما منحصرا في ذاته وما فيها من مدركات وأفكار؟ لكن بعض أتباع المذهب المثالي يردون على مثل هذا النقد بقولهم: إن عقول الأفراد ليست في الحقيقة أشتاتا فرادى، بل هي أجزاء من عقل واحد يشملها جميعا ومن ثم يتساوى إدراكها للأشياء. كما يرد بعضهم الآخر بقوله: إن كل عقل مستقل عن العقول الأخرى استقلالا لا سبيل معه إلى الاتصال، فكأنما كل عقل غرفة مقفلة على نفسها ليس في جدرانها نوافذ تطل منها على الغرف الأخرى، لكن مدركاتها مع ذلك تتشابه؛ لأن كلا منها صورة مصغرة لحقيقة كبرى هي الله.

هكذا يلتقي المثاليون في المبدأ الذي يطابق بين المعرفة والوجود فيجعلها شيئا واحدا، لكنهم يختلفون فيما ينتهون إليه من تفصيلات، وسنسوق لك مثلا واحدا منهم؛ هو «هيجل»

1

الذي يعد من أعظم الفلاسفة المثاليين في العصور الحديثة، وسنحصر حديثنا عنه في موضوعنا فقط؛ وهو طبيعة المعرفة:

المهمة الرئيسية للمعرفة هي أن تفسر لنا العالم، بحيث نهتدي خلال ما نعرفه إلى حقيقة هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن «التفسير» نفسه ما معناه؟ متى تقول عن حقيقة يراد تفسيرها إن هذا التفسير قد تم ولم تعد الحقيقة المشار إليها بحاجة إلى تفسير؟

التفسير أو التعليل هو باختصار نسبة الشيء المراد تفسيره إلى حقيقة أعم منه تشمله وتحتويه، فإن كانت هذه الحقيقة الأعم هي نفسها بحاجة إلى تعليل نسبتها إلى ما هو أعم منها ويشملها مع غيرها، وهكذا دواليك حتى ينتهي الصعود إلى مبدأ أول يفسر نفسه ويفسر كل شيء يترتب عليه، ولو استطعنا أن نهتدي إلى هذا المبدأ الأول بالنسبة للكون كله أمكننا بذلك أن نفسر الكون ونفهمه.

تقول عن صديقك: إنك «تفهمه» وتستطيع تفسير سلوكه في المواقف المختلفة، حين تضع إصبعك على مبدأ عام يسري في تصرفاته ويكون محورا لشخصيته، كأن تعرف فيه مثلا حبه للمال أو حبه للظهور، وعلى ضوء هذا المبدأ أو ذاك تفسر سلوكه وأفعاله مهما تنوعت الظروف المحيطة به، وتقول عن ظاهرة اجتماعية إنك «تفهمها» حين تستطيع ردها إلى مبدأ عام يشملها هي وغيرها من الظواهر. كأن تقول - مثلا - عن ظاهرة التعطل إنها مفهومة؛ لأنها نتيجة زيادة عدد السكان على موارد الإنتاج، وهكذا؛ فالذي تصنعه حين تريد أن «تفهم» شيئا كائنا ما كان هو أن تبحث عن المقدمة المنطقية التي يكون الشيء نتيجة محتومة لها. وهكذا الأمر إذا أردت فهم العالم، فما هي المقدمات المنطقية التي يتحتم أن يجيء العالم نتيجة لها؟ ونسأل السؤال بعبارة أخرى فنقول: ما هي الشروط التي كان لا بد من توافرها حتى يتكون العالم بكل ما فيه؟

إن الأشياء الجزئية في ذاتها لا تفسر نفسها، فما الذي دعا - مثلا - إلى وجود هذه الشجرة أو تلك، وإلى وجود هذا الفرد من الناس أو ذلك؟ لكي «أفهم» فلا بد لي - كما أسلفنا القول - من البحث عن مبدأ عام حتم وجوده وجود الأشجار، ومبدأ عام آخر حتم وجوده وجود أفراد الناس، وهكذا، فما هي المبادئ العامة التي اقتضى وجودها وجود الأشياء على اختلافها؟ وخير وسيلة تعينك على الإجابة عن هذا السؤال هي أن تأخذ الأشجار مثلا ثم تسأل: ما الذي جعل الشجرة شجرة؟ أنا لا أقول عن المصباح الذي أمامي إنه شجرة لأنه يفقد الصفة أو الصفات التي تجعله كذلك، فما هي الصفة أو الصفات التي إذا وجدت في شيء جعلته شجرة؟ إنها ليست الأوراق؛ لأن أوراق الشجر تختلف بل قد تزول في الشتاء دون أن يمتنع أو يتأثر وصفنا للشيء بأنه شجرة، وليست هي نوع الثمار؛ لأن الثمار قد تختلف في الأشجار المختلفة وتظل الأشجار أشجارا. وهكذا تستطيع أن تمضي في استبعاد الصفات التي لا يؤثر وجودها أو عدم وجودها في أن يكون الشيء شجرة؛ لتستبقي في النهاية الصفات التي لا بد من وجودها في كل شجرة كائنة ما كانت، وأنت بعدئذ على حق حين تقول إنه يستحيل على شجرة أن توجد إلا إذا وجدت قبلها هذه الصفات؛ لكي تمتزج تلك الصفات بمادة الشيء فيكون شجرة.

هذه الصفات التي لا بد من وجودها أولا حتى يمكن لأي شجرة أن توجد ليست بالشيء الجزئي؛ لأنها - كما ترى - قائمة في كل الأشجار على السواء، وإذن فهي عامة وليست خاصة بشجرة دون أخرى، أو هي «كلية»؛ لأنها تشمل «كل» الأشجار بغير استثناء.

نعم، نحن على حق إذ نقول - وإن بدا قولا غريبا - إنه لا بد من وجود الصفات الكلية أولا حتى يمكن أن توجد الأشياء الجزئية المتصفة بتلك الصفات، لكن هذه الصفات حين لا يلبسها شيء جزئي معين لا تكون قائمة إلا في العقل، وإذن فهي مدركات عقلية قبل أن تمتزج بالأشياء المحسوسة التي تتصف بها؛ أي أنها تكون «أفكارا» قبل أن تدخل في دنيا الأشياء الحسية؛ أي أن «الفكر» لا بد أن يسبق «الأشياء» التي تأتي مطابقة لذلك الفكر، وها هنا تضع إصبعك على ركن هام من أركان المذهب المثالي في المعرفة، وهو أسبقية الفكر في الوجود على الأشياء الجزئية التي تصادفها الحواس.

بغير هذه الأولوية المنطقية للفكر - أي الأولوية المنطقية للصفات العامة أو المعاني الكلية - تصبح معرفة أي شيء جزئي مستحيلة (من وجهة نظر المثاليين)؛ لأننا - كما أسلفنا القول - نعرف أي شيء بصفاته، وإذن فلا بد من إدراك الصفات أولا، والصفات مشتركة؛ أي عامة، فهي في العقل قبل أن تكون في الجزئيات التي تتصف بها. ولزيادة التوضيح: حلل موقفك حين تنظر إلى برتقالة فتعرف أنها برتقالة، كيف عرفتها؟ عرفتها بلونها الأصفر واستدارتها وملمسها ... إلخ، لكن اللون الأصفر ليس قاصرا عليها بل هو متمثل في أشياء كثيرة غيرها. وإذن كان لا بد لك قبل أن تعرف في البرتقالة لونها الأصفر أن تسبق ذلك بمعرفة للون الأصفر أينما كان؛ أي أن تسبق ذلك بمعرفة اللون الأصفر كفكرة عامة أو كمعنى كلي؛ حتى تستطيع بعد ذلك أن تطبق تلك الفكرة العامة على هذا الشيء الجزئي الذي أمامك وهو البرتقالة. وهكذا قل في سائر الصفات التي بواسطتها عرفت أن ما أمامك برتقالة، ومعنى ذلك هو أن البرتقالة في حقيقة أمرها هي عبارة عن مجموعة من معان كلية تجمعت في مركز واحد، والمعاني الكلية إدراكها من شأن العقل لا الحواس.

هذه المعاني الكلية هي شروط لا بد أن تتوافر قبل أن تتم معرفة كائنة ما كانت. وهي نوعان: فمنها معان قوامها الصفات التي يمكن إدراكها بالحواس كاللون الأصفر مثلا؛ ولذلك نجد من الفلاسفة المثاليين أنفسهم من يقول إن أمثال هذه المعاني الكلية تتكون بعد الخبرة الحسية بالأشياء التي تحيط بنا، لكن هنالك معاني كلية أخرى لا مندوحة لنا عن افتراض وجودها في العقل قبل أي خبرة حسية؛ لأنها شرط ضروري لكل معرفة، فقبل أن تبدأ في خبرتك الحسية بالأشياء لا بد أن تعرف - مثلا - أن الشيء، أي شيء، يستحيل أن يكون في مكانين في وقت واحد.

هذا النوع الثاني من المعاني الكلية خال من الصفات الحسية وهو لذلك فكر خالص، وهو الذي أراد هيجل أن يبحث عنه؛ لأنه اعتقد أنه هو المبدأ الأول الذي يفسر كل معرفة؛ إذ لا تكون معرفة بغيره، وهذا النوع من المعاني الكلية هو الذي يصطلح الفلاسفة على تسميته بالمقولات، أو إن شئت فقل عن المقولات إنها القوالب التي لا بد من وجودها لتنصب فيها معارفنا جميعا. وإن قلنا عن هذه المقولات إنها شرط منطقي لا بد من توافره لكي يستطيع الفكر أن يفكر، فقد قلنا بالتالي إنها شرط منطقي لا بد من توافره لكي يمكن وجود العالم الواقع؛ لأن الفكر يسبق العالم الواقع، كما أسلفنا.

لكن أين تكون هذه المقولات الأولى التي هي شرط المعرفة؛ وبالتالي فهي شرط الوجود كله؟ أتكون في عقلي أنا أو في عقلك أنت؟ لكننا قد نزول غدا أو بعد غد، وتظل شروط المعرفة قائمة، وإذن فوجودها لا يتقيد بوجودي أنا أو بوجودك أنت أو بوجود أي فرد آخر من أفراد الإنسان، بل إن وجودها مطلق من قيود المكان والزمان جميعا، وإن يكن متمثلا في عقول الأفراد؛ أي متمثلا في الطريقة التي يفكر بها هؤلاء الأفراد.

وألخص ما قد أسلفته في عبارة توجز رأي هيجل في المعرفة وطبيعتها، فأقول: الشيء المعين؛ كالبرتقالة مثلا، هو مجموعة مركزة من معان كلية، والمعاني الكلية لا يدركها إلا عقل؛ وإذن فأي شيء لا يكون إلا فكرة في عقل، ولما كانت «الفكرة» هي نفسها من طبيعة «العقل» كان هنالك تشابه في النوع بين الذات العارفة والشيء المعروف، فوجود شيء ما معناه أن يكون فكرة موضوعه أمام ذات عاقلة تفكر فيها؛ أي أن وجود شيء ما متوقف على عقل يعيه؛ ومن ثم كان التطابق الذاتي بين أن يكون الشيء موجودا وأن يكون معروفا، واستحالة أن يوجد شيء دون أن يكون مدركا؛ فالأشياء هي أفكارنا عنها، والمنطق الذي تجري عليه أفكارنا هو نفسه المنطق الذي تجري عليه الأشياء.

الباب الثاني

مصدر المعرفة

الفصل الرابع

مصدر المعرفة عند التجريبيين

ألقينا على أنفسنا في الباب الأول سؤالا عن طبيعة المعرفة ما هي؟ وتتبعنا الإجابة عند المذاهب المختلفة، وها نحن أولاء نلقي عن «المعرفة» سؤالا ثانيا، هو: ما مصدرها؟ ما وسيلتنا إليها؟ لتكن طبيعتها ما تكون، لتكن كما قال عنها الواقعيون من أنها صورة لعالم الواقع، أو كما قال عنها البراجماتيون من أنها طريقة للسلوك في دنيا الواقع، أو كما قال عنها المثاليون من أنها مدركات عقلية تكون هي الفكر وهي الأشياء في آن معا، لتكن ما تكون في طبيعتها، ولكن سؤالنا الآن هو: من أي السبل جاءتنا؟ ومن أي مصدر استقيناها؟

يجيب التجريبيون بقولهم: إن مصدر معارفنا جميعا هو الخبرة الحسية، ووسيلتها هي الحواس. عرفت البرتقالة - مثلا - لأني رأيت لونها بالعين، وذقت طعمها باللسان، وشممت رائحتها بالأنف، ولمست سطحها بالأصابع فعرفت استدارتها ومدى صلابتها وهكذا، وما البرتقالة عندي إلا هذه الإدراكات الحسية جميعا، ولو أقفلت أبواب الحواس واحدا بعد واحد؛ لامتنعت علي المعرفة جانبا بعد جانب حتى تمتنع المعرفة كلها إذا أقفلت الأبواب كلها.

وسنضرب لك مثلا لهذا الرأي «ديفيد هيوم»؛

1

لأنه تتبع الفكرة إلى نتائجها في جلاء ووضوح.

تتألف معرفة الإنسان من الإحساسات التي يتلقاها عن طريق حواسه المختلفة، فها أنا ذا أشخص ببصري إلى المكتب الذي أمامي فأتلقى صورة لونية، لكنني إذا ما أقفلت عيني فإني سأظل محتفظا بهذه الصورة اللونية التي كنت تلقيتها وأنا شاخص ببصري. غير أن الصورة في الحالة الثانية وإن احتفظت بما كانت عليه في الحالة الأولى من تفصيلات إلا أنها أقل منها وضوحا. ويطلق (هيوم) على الصورة التي تلقيتها في الحالة الأولى اسم «الأثر الحسي»، ويطلق على الصورة التي احتفظت بها في الحالة الثانية اسم «الفكرة». وهكذا يقسم مدركاتنا قسمين أساسيين، هما: «الآثار الحسية» و«الأفكار»، وما «الأفكار» إلا «الآثار الحسية» نفسها ولكن بعد غياب المؤثرات التي أحدثتها؛ ومن هنا كان الفرق بينهما في القوة والوضوح، فكأنما الأفكار آثار حسية تقادم عهدها فوهنت قوتها وقل وضوحها، وما دام الأمر كذلك فلا تنشأ في العقل «أفكار» إلا إذا سبقتها «آثار حسية»؛ وإذن فالأثر الحسي - أو الانطباع الحسي - هو المرجع الذي نقيس به صحة الفكرة التي نريد اختبار صوابها، فإذا استطعنا أن نتعقب الفكرة إلى أصولها الأولى التي جاءت مباشرة عن طريق الحواس، كان للفكرة سند من الواقع تستند إليه؛ وبالتالي كانت فكرة صوابا، أما إذا حللنا الفكرة إلى عناصرها فوجدنا أن هذه العناصر - كلها أو بعضها - لم يكن مما انطبعت به الحواس بادئ ذي بدء، فليست هي بالفكرة الصحيحة التي يصح الركون إليها، وإنما نقول ذلك؛ لأن العقل بعد أن يتلقى ما يتلقاه من انطباعات حسية لا يبقيها على حالها أفكارا بينها وبين تلك الانطباعات تطابق، بل يتناولها بالتركيب حتى لتتكون فيه صور مركبة لا تشبه في تركيبها هذا شيئا مما تلقيناه من الحواس، فعلينا عندئذ أن نعيد تحليل هذه الأفكار المركبة إلى أجزائها وعناصرها؛ لنرى إن كانت تلك الأجزاء والعناصر قد جاءت أول ما جاءت عن طريق الحواس.

والآن فلنطبق هذا المبدأ على ثلاثة أفكار هامة؛ ليتضح المبدأ بتطبيقه أولا، ولنتبين حقيقة هذه الأفكار الهامة ثانيا، وأعني بها فكرة السببية التي نفسر بها ارتباط الحوادث، وفكرة العنصر أو الجوهر التي بواسطتها نتصور أن الشيء يدوم على الرغم من تغير حالاته، وفكرة الذات التي نفترضها في الإنسان لنفسر بها وحدته واستمراره فردا بذاته مهما طرأ عليه من أحداث: (1)

إننا نقول أحيانا عن الحوادث في تتابعها إن حادثة منها سبب لأخرى؛ فمثلا إذا رأينا كرة متحركة تصدم أخرى ساكنة فتحركها قلنا إن الكرة الأولى بحركتها قد سببت حركة الكرة الثانية، ونريد الآن أن نحلل هذه العلاقة السببية التي نجعلها رباطا يربط حادثة بحادثة أخرى ؛ فبناء على المبدأ الذي أسلفناه والذي قلنا إنه الأساس الذي نحكم به على فكرة بالقبول أو بالرفض؛ نسأل أنفسنا: ما هي الانطباعات الحسية الأولى التي تلقتها حواسي بحيث كونت منها فيما بعد فكرة السببية هذه؟ انظر إلى المثال السابق: كرة متحركة صدمت كرة ساكنة فتحركت هذه الكرة على أثر الصدمة، ماذا رأت عينك مما حدث؟ كل ما رأته هو الفكرة الأولى متحركة وبعد لحظة معينة بدأت الكرة الثانية في الحركة، فعينك لم تر فيما رأت «سببية» تربط الكرة الأولى بالكرة الثانية، وإذن فلم يكن لهذه الفكرة أصل بين الإحساسات التي تلقيتها؛ وبالتالي لم يكن تكوينها مشروعا.

هكذا ترى الإنسان كلما لاحظ أن حادثتين قد اطرد وقوعهما معا، أو اطرد وقوعهما متتابعتين؛ ظن أن بينهما علاقة ضرورية بحيث إذا وقعت الأولى فلا بد كذلك أن تقع الثانية، وأطلق على هذه العلاقة الضرورية بين الحوادث اسم «السببية»، ثم عمم القول عن السببية بحيث يتعذر عليه التسليم بوقوع حادثة إلا إذا كان لها سبب أحدث وقوعها، بل إن القوانين العلمية نفسها كانت تتضمن التسليم بضرورة قيام علاقة السببية هذه بين ظواهر الطبيعة، بحيث إذا تكرر وقوع السبب فلا بد أن يتكرر كذلك وقوع المسبب، والقانون العلمي نفسه كان مأخوذا على أنه ربط سببي بين ظاهرتين، كأن نربط العلاقة - مثلا - بين اتجاه الرياح وسقوط المطر، فلو اتجهت الرياح في هبوبها اتجاها معينا سببت نزول المطر، ولا يمكن أن تحدث الظاهرة الأولى دون أن تتبعها الظاهرة الثانية.

لكننا نعود فنكرر أنني مهما أنعمت النظر فيما يجري في الطبيعة من حولي فلن أشاهد إلا ظواهر تقع معا أو تقع متتابعة، ولن أشاهد بينها «ضرورة» تحتم أن يكون وقوعها على هذا النحو الذي وقعت عليه، فقد ألاحظ اتجاه الرياح وألاحظ سقوط المطر، لكني لا ألاحظ بينهما «ضرورة» تجعل سقوط المطر محتوما لو هبت الرياح في اتجاهها ذاك؛ إذن فلنا أن نسأل: ما الذي أغرى الإنسان بالتبرع من عنده بهذه العلاقة السببية يربط بها الحوادث إذا كانت لم تكن بين انطباعاته الحسية؟

إن حقيقة الأمر لا تزيد على أن الإنسان «يتعود» رؤية الحادثة «أ» مرتبطة بالحادثة «ب»؛ لأنه يراهما متجاورتين دائما تجاورا زمنيا، فكلما حدثت «أ» توقع أن تحدث «ب» كذلك كما فعلت في المرات السابقة، وقد يكون مصيبا في توقعه لحدوث «ب»؛ لأن الحوادث إذا اطرد تلازمها فيما مضى فالأرجح أن تظل على اطرادها في المستقبل كذلك، لكن وجه الخطأ هو أن يظن أن حدوث «ب» أمر ضروري محتوم لا مفر منه ما دامت «أ» قد حدثت، وما دام الاثنتان قد شوهدتا متلازمتين دائما فيما مضى، وكثيرا ما يخطئ المرء في توقعه هذا؛ فقد يزورني صديق يوم الجمعة كل أسبوع، وقد يكرر ذلك ألف مرة، حتى إذا ما جاء يوم الجمعة توقعت على ترجيح شديد أن يزورني هذا الصديق على عادته، لكن لا «ضرورة» هناك تحتم هذه الزيارة. وهكذا قل في أي حادثتين في الطبيعة تلاحظ بينهما التلازم دائما؛ فهذا التلازم الذي لاحظته بينهما لا يبرر لك أن تفترض بينهما علاقة «ضرورية» تحتم وقوع إحداهما إذا وقعت الأخرى؛ إذ لا يزيد الأمر على ترجيح شديد أن يتكرر هذا التلازم في المستقبل، لكن الترجيح مهما اشتدت درجته فهو ليس الضرورة اليقينية التي يفترضها الناس في العلاقة بين السبب ومسببه.

إن من طبيعة الإنسان - بل والحيوان أيضا - أن يربط بين أجزاء الخبرة على هذا النحو، بحيث يستدعي جزءا جزءا ما دام الجزءان قد تكرر وقوعهما متلازمين أو متلاحقين، وهذا هو أساس العادات. إنك إذا تعودت الكتابة أو السباحة أو ركوب الدراجة أو ربط رباط الرقبة، كان معنى ذلك أنك كررت حركات واحدة بعد أخرى بحيث ارتبطت الحركة بالتي تليها ارتباطا يجعل حدوث الأولى داعيا لحدوث التي تليها. وقد يكون هذا النوع من الارتباط نفسه في التفكير، فإذا تلازمت فكرتان أو تلاحقتا في عقلك عدة مرات، ثم حدث أن وردت أولاهما كان ورودها داعيا لورود الأخرى، وإنك لتشاهد الظاهرة نفسها في الحيوان، فلو أخذت الطعام إلى كلب عندك أو قطة عدة مرات، حدث ارتباط عند الحيوان بين شكلك وبين الطعام، بحيث لو رآك بعد ذلك في الموعد نفسه سال لعابه كما لو كان قد شاهد طعاما. وهذا الارتباط بعينه بين ظواهر الطبيعة هو الذي يؤدي بالإنسان إلى توقع حدوث إحدى الظاهرتين المتلازمتين لو وقعت الأخرى، وهو هو الارتباط الذي أطلق عليه الإنسان اسم «السببية» بين الحوادث.

إننا لا نقول إنه ليس بين حوادث الطبيعة ارتباط وصلات، بل كل ما نقوله هو أن هذا الارتباط ليس «ضروريا» حتى لو شوهد مطردا بين الحوادث آلاف المرات؛ ذلك لأنه ليس في مشاهداتنا الحسية مشاهدة انطبعت على شبكية العين أو قرعت طبلة الأذن اسمها «ضرورة» في التلازم، كما تنطبع على حواسنا الألوان والأصوات والروائح والطعوم. (2)

وننتقل الآن إلى تحليل فكرة هامة أخرى من أفكارنا وهي: فكرة «العنصر» أو «الجوهر»؛ لنرى إن كانت هي الأخرى فكرة مشروعة فنقبلها أم غير مشروعة فنرفضها، وذلك على أساس المبدأ الذي أسلفناه، وهو أن الفكرة تقبل إذا أمكن ردها إلى الانطباعات الحسية التي منها تكونت الفكرة فيما بعد.

لكن ماذا نعني بالعنصر أو بالجوهر في لغة الفلسفة؟ خذ البرتقالة مثلا؛ فكل ما تدركه منها ظاهرات حسية، كل حاسة من حواسك تدرك من البرتقالة جانبا من جوانبها؛ فالعين تدرك اللون واللسان يدرك الطعم والأنف يدرك الرائحة، وهكذا، فهل إذا أنت أحصيت كل ظاهرات البرتقالة كما تتلقاها الحواس تكون بذلك قد استنفدت حقيقة البرتقالة بأسرها؟ أم أن هذه الظاهرات إن هي إلا ظواهر البرتقالة؟ إنك تقول إن «البرتقالة» صفراء، و«البرتقالة» مستديرة و«البرتقالة» حلوة، وهكذا. وواضح من قولك هذا أن اللون الأصفر والشكل المستدير والطعم الحلو كلها صفات تصف «البرتقالة»؛ وإذن فالبرتقالة شيء غير الصفات التي تصفه، البرتقالة «جوهر» تطرأ عليه هذه الصفات التي هي أعراض قد تتغير دون أن تصبح البرتقالة شيئا آخر. قد يتغير اللون فيكون أخضر بدل الأصفر، وقد يتغير الطعم فيكون مرا بدل الحلو، لكن «البرتقالة» هي هي برتقالة كما كانت. هذا الشيء الثابت فيها، والذي تتعلق به تلك الصفات جميعا هو ما تسميه الفلسفة بالعنصر أو بالجوهر.

وليست الفلسفة وحدها هي التي تفترض وجود جوهر لكل شيء تتعلق به صفاته، بل الإنسان العادي في حياته اليومية يعامل الأشياء على هذا الافتراض نفسه، فلو أطلعت إنسانا عاديا على مكتبي هذا الذي أكتب عليه، وجعلته يلاحظ كيف أن اختلاف الضوء يغير من لونه، وكيف أن اختلاف البعد يغير من حجمه، وكيف أن اختلاف زاوية النظر يغير من درجة استطالة سطحه وزوايا أركانه. ثم لو طلبت إليه أن يستنتج من هذه الاختلافات كلها بين الحالات المتتابعة التي نشاهد فيها المكتب. أقول: إني لو طلبت منه أن يستنتج من ذلك أن ليس هناك مكتب واحد دائم على حال واحدة، بل هناك عدة حالات متتابعة لا يربط بينها رابط دائم؛ لرفض ذلك على أساس الافتراض الذي أشرنا إليه، وهو أن هناك «داخل» هذه الحالات المتغيرة المتتابعة «حقيقة» ثابتة أو «عنصرا» ثابتا هو الذي نعنيه حين نتحدث عن هذا المكتب، بغض النظر عما يطرأ عليه من حالات مختلفات، وهذا «العنصر» الثابت هو الذي يخلع على المكتب ذاتيته ودوامه.

لكن أرجع إلى مبدئنا الذي أسلفناه، وهو المبدأ الذي يرفض الفكرة التي لم تنطبع بها حواسنا، ثم اسأل نفسك: ما الحاسة التي انطبعت عليها صورة هذا «العنصر» الخفي المزعوم؟ إنها لم تكن العين، ولا الأذن، ولا الأصابع، ولا أية حاسة أخرى. وإذن فالفكرة اختلاق من أوهامنا، وليس هناك من المكتب - أو من أي شيء في العالم - إلا حالاته المتتابعات التي يمكن أن تنطبع الحواس بآثارها. (3)

والقول نفسه ينطبق على «الذات» الإنسانية؛ فانظر إلى باطن نفسك تجد ما تلاحظه هناك حالات نفسية متلاحقة واحدة بعد أخرى، ولن تلاحظ بينها حالة يمكن أن تطلق عليها اسم «ذات» أو «عقل» أو «وعي» أو «روح» أو أي اسم آخر من هذه الأسماء التي نطلقها لنعني بها «جوهرا» أو «عنصرا» خفيا نفرض وجوده ليمسك هذه الحالات النفسية في «شخص» واحد أو «ذات» واحدة لها استمرار ودوام، فحالاتنا النفسية متتابعة لكنها منفرطة منفصلة كحبات العقد التي لا يمسكها خيط واحد، لكن الإنسان يميل إلى أن يجعل من نفسه «شخصا» واحدا امتد خلال الطفولة والشباب والكهولة، نعم إن مختلف الحالات تتعاوره وتطرأ عليه من صحة ومرض ووقوف ومشي وقعود وأكل وهضم وصحو ونعاس ... إلخ إلخ، لكنه يريد لنفسه أن يكون «ذاتا» واحدة مستمرة هي التي تطرأ عليها هذه الأحوال، أما هي فثابتة، وثباتها هذا هو الذي يخلع على الفرد ذاتيته، لكننا لو أخذنا بمبدأ هيوم في اكتساب المعرفة؛ ألفينا هذه «الذات» الثابتة وهما لا ضرورة لافتراضه؛ لأنه ليس مما تأثرت به الحواس.

الفصل الخامس

مصدر المعرفة عند العقليين

يقول أنصار المذهب العقلي ردا على ما يزعمه التجريبيون من أن المعرفة مصدرها الحواس: إن الحواس كثيرا ما تخدع، فكم مرة ترى العين ما يظنه الرائي رجلا وهو ليس برجل، وكم مرة رأى المسافر عبر الصحراء ما ظنه ماء وهو سراب؟ فإن كانت الحواس مصدر معارفنا، فهذه المعارف إذن يحتمل فيها الخطأ لاحتمال أن تكون الحواس قد نقلتها على صورة مالت بصاحبها نحو الخطأ في الحكم. هذا إلى أن المعرفة الآتية عن طريق الحواس تفقد الشرطين الأساسيين اللذين يجعلان المعرفة معرفة بمعنى الكلمة الصحيح، وهما الضرورة وصدق التعميم.

أما عن «الضرورة» فنقول إنه ليس بين المعلومات الآتية إلينا عن طريق الحواس ما يتحتم أن يكون على الصورة التي أتى بها ولا أن يكون على غيرها، فها أنا ذا أرى المصباح على المنضدة، فماذا كان يمنع أن يكون على أرض الغرفة أو على أحد المقاعد؟ فوجوده على المنضدة لا «ضرورة» فيه، إنما هكذا حدث، وكان يمكن أن يحدث شيء آخر. وكذلك تدلني الحواس على أن الماء يغلي إذا بلغت حرارته 100 درجة مئوية وكان على مستوى سطح البحر، لكن ماذا كان يمنع أن تكون طبيعة الماء غير ذلك بحيث يغلي إذا بلغت حرارته أقل من مائة أو أكثر من مائة؟ لم يكن يمنع ذلك ضرورة عقلية، وإنما جعلناها حقيقة؛ لأننا هكذا وجدناها فسجلنا ما وجدناه، ولو وجدنا غير ذلك لكان هو القانون الطبيعي الذي نسجله، لكن قارن ذلك بقولنا: «إذا كانت «أ» أكبر من «ب» و«ب» أكبر من «ج» كانت «أ» أكبر من «ج».» فليست هي بالحقيقة التي نقول عنها إنها هكذا حدثت، وكان يمكن لها أن تحدث على صورة أخرى؛ لأن صدقها «ضروري» لا يتوقف على تجاربنا الحسية، بل على عكس ذلك هي التي تهدينا في تجاربنا الحسية. هذه الحقيقة وأمثالها صادرة عن العقل لا عن الحواس، وما يصدر عن العقل صدقه ضروري محتوم، وأما ما يصدر عن الحواس فصدقه يدل عليه الإحصاء والمشاهدة؛ ولذلك فصدقه مرهون بالمشاهدة والإحصاء، وهذه قد تتغير نتائجها فيتغير صدق ما يترتب عليها. يدلك على ذلك أنك قد تراجع مشاهداتك وإحصاءاتك لتستوثق من دقة نتائجك، كأنما تقول لنفسك إن المشاهدات والإحصاءات قد تأتي بأي شيء، وما علي إلا تسجيل ما تأتي به، لكنك لا تراجع شيئا لتستوثق من صدق العبارة القائلة: (إذا كانت «أ» أكبر من «ب» و«ب» أكبر من «ج» كانت «أ» أكبر من «ج»)؛ لأنها من نوع الحقائق التي لا تخطئ مرة وتصيب مرة، بل هي صادقة دائما؛ أي صادقة بالضرورة.

وأما الصفة الثانية التي تنقص المعرفة الحسية والتي هي شرط للمعرفة بمعناها الصحيح (في رأي العقليين) فهي إمكان تعميم الحكم على أفراد النوع كله تعميما لا نشك في صدقه؛ فافرض مثلا أنك قد حللت ذرة من ذرات الماء فوجدتها مركبة من جزأين من الأيدروجين وجزء من الأوكسجين، وأردت أن تعمم هذا الحكم على كل ذرة ماء أينما كانت، فلن تستطيع ذلك وأنت معتمد على الحواس وحدها؛ لأنك في هذه الحالة إنما تحكم على ذرات مائية لم تشهدها عيناك، فأنت إذن بهذا الحكم العام تجاوز مصدر الحس. ولو وجدت في نفسك ما يبرر أن تطلق الحكم على ذرات الماء كلها، ما وقع في خبرتك الحسية منها وما لم يقع، فلن يكون هذا المبرر معتمدا على الحواس، بل لا بد أن يكون هنالك عامل آخر إلى جانب الحواس هو الذي يؤيدني في إطلاق الحكم على بقية أفراد النوع الذي خبرت بعض أفراده، وذلك العامل الآخر هو العقل.

فإذا قارنت بين التجريبيين والعقليين من حيث نوع المعرفة التي يعترفون بها؛ وجدت أنه بينما التجريبيون لا يقبلون إلا معرفة جاءت عن طريق الحواس، حتى إنهم ليعدون الفكرة التي لا يمكن ردها أو رد عناصرها إلى أصولها الأولى من انطباعات حسية فكرة باطلة، ترى العقليين لا يرفضون ما تجيء به الحواس من معلومات، غاية ما في الأمر أنها معلومات لا يقطع بيقينها؛ إذ تنقصها صفتا الضرورة والتعميم، وإذن فلا بد من مصدر آخر، هو الذي تركن إليه إذا أردنا معرفة صدقها، ضروري وشامل.

والنموذج الذي يتخذه العقليون مثلا للمعرفة في صورتها الكاملة هو نموذج الرياضة، فالقضية في الرياضة - مثل قولنا 2 + 2 = 4، أو أن زوايا المثلث تساوي قائمتين - صدقها محتوم، وهو صدق لا تغير منه الظروف. ولما كان التفكير في الرياضة يسير على منهج استنباطي، وهو المنهج الذي يبدأ شوطه بمقدمات مسلم بصحتها، ثم ينتزع منها نتائجها، ومن النتائج نتائجها، وهكذا، بحيث يتحتم أن تصدق هذه النتائج جميعا ما دامت المقدمات مسلما بصحتها؛ فقد أراد العقليون أن يكون هذا المنهج الاستنباطي هو منهج التفكير في كل ميادينه على السواء، لا فرق في ذلك بين علم وعلم، فما تسير عليه العلوم الرياضية يمكن أن تسير عليه العلوم الطبيعية كذلك، فنصل إلى مثل اليقين الذي تصل إليه العلوم الرياضية. وسنسوق إليك «ديكارت»

1

مثلا للعقليين ورأيهم في مصدر المعرفة.

ينهج «ديكارت» منهجا من الشك عرف بعد ذلك باسمه فيقال عنه: «الشك الديكارتي»، فلكي يبني فلسفته على أساس متين؛ قرر أن يشك في صدق معلوماته التي كان قد حصلها ما دام الشك فيها له ما يبرره. ويبدأ بالشك في الحواس وما تجيء به، ويسأل نفسه ساعتئذ: أفي مستطاعي أن أشك بأنني الآن جالس إلى جانب النار ومتدثرا بعطافي؟ ثم يجيب نفسه قائلا: نعم؛ لأنه قد حدث لي أحيانا أن رأيتني في الحلم جالسا هكذا إلى جوار النار متدثرا، مع أنني في حقيقة الأمر الواقع كنت عندئذ عاريا في مخدعي، فضلا عن أن حالات الجنون تصحبها الأوهام أحيانا، ومن الجائز أن أكون الآن في حالة من هذه الحالات.

وعلى الرغم من أن علوما كالحساب والهندسة أكثر يقينا من العلوم الطبيعية، إلا أن الشك فيها ممكن؛ فقد يكون الله قد أراد لي أن أخطئ كلما حاولت أن أعد أضلاع المربع أو أن أجمع اثنين إلى ثلاثة. فإذا قيل إن مثل هذه الإرادة المضللة مستحيلة على الله، أفلا يجوز أن يكون هنالك شيطان شرير قادر على الخداع والتضليل، فيضلني عن طريق الصواب؟ فإن فرضنا وجود شيطان كهذا كان من الجائز أن يكون كل ما أراه أوهاما باطلة.

لكني مهما مضيت في شكي على هذا النحو فسيبقى لي شيء لا أستطيع أن أشك فيه، فلو لم أكن موجودا لما استطاع شيطان أن يضللني. ووجودي هذا قد لا يعني وجود بدني؛ لأن إدراكي لوجود بدني قد يكون من قبيل الأوهام. أما الفكر فشأنه غير هذا؛ لأنني إذا أردت أن أحكم بفكري على كل شيء بالبطلان؛ فقد اعترفت ضمنا بأنني موجود بفكري؛ إذ كيف أحكم بفكري على شيء بالبطلان والفكر غير موجود؟ وما دام فكري موجودا فأنا موجود. ونضع هذا المعنى في العبارة المشهورة التي قالها ديكارت في هذا الصدد فنقول: «أنا أفكر فأنا - إذن - موجود.» وهي حقيقة لها في رأي ديكارت من اليقين ما يستحيل على أي شكاك أن ينفذ إليها بشكه؛ ولذلك فهو يقول عنها: «لقد حكمت بأن في مستطاعي أن أتقبل هذه الحقيقة تقبلا خاليا من الريبة، فأجعلها المبدأ الأول للفلسفة التي كنت أنشدها.» هكذا انتهى ديكارت من شكه إلى حقيقة يثق في صدقها ويتخذها أساسا لاستدلالاته، ومثل هذا الشك الذي ينتهي إلى أساس وطريق معرفته أيسر جدا من الطريق إلى معرفة الجسم، وسيظل الروح محتفظا بخصائصه حتى ولو لم يكن له جسد يستقر فيه.

ويسأل ديكارت نفسه بعد ذلك قائلا: لكن لماذا تكون هذه الحقيقة: «أنا أفكر إذن فأنا موجود» بهذا اليقين كله؟ ثم يجيب عن سؤاله بأنها يقينية لأنها واضحة ومتميزة، فأخذ هذا الجواب وجعله قاعدة عامة هي: «كل شيء ندركه بعقولنا إدراكا غاية في الوضوح وغاية في التميز فهو صواب.» ولو أنه يعترف بأنه ليس من اليسير أن نهتدي إلى أي الأشياء التي يكون إدراكها واضحا ومتميزا.

ومما ينبغي ملاحظته أن ديكارت يستعمل كلمة «التفكير» بمعنى واسع، فالشيء الذي يفكر - باستعمال الكلمة عند ديكارت - هو الشيء الذي يشك ويفهم ويدرك ويثبت وينفي ويريد ويتخيل ويشعر، فعنده أنه حتى الشعور الذي يحدث لنا أثناء النوم ضرب من التفكير.

المعرفة إذن أساسها العقل الذي يدركه صاحبه إدراكا مباشرا. ولننظر الآن ماذا يحدث حين نظن أننا ندرك شيئا بحواسنا؟ أو بعبارة أخرى: فلننظر فيما يحدث عند معرفتنا للأشياء المادية، ويأخذ ديكارت مثلا لذلك قطعة من شمع العسل، فلها صفات معينة تبدو للحواس: طعمها طعم العسل، ورائحتها كأريج الزهر، ولها لون معين تراه العين، كما أن لها حجما وشكلا، وهي ذات صلابة وبرودة، ولو نقرتها بعثت صوتا له رنين معين. لكن ضع قطعة الشمع هذه إلى جوار النار تتغير هذه الصفات، ولو أن الشمع باق؛ وإذن فالصفات التي كانت تبدت للحواس لم تكن هي الشمع في حقيقته، وحقيقته قوامها امتداد ومرونة وحركة، وهذه خصائص يدركها العقل، ولا ترتسم لها صور ذهنية على نحو ما ترتسم الصور الذهنية للمحسوسات؛ وعلى ذلك فالشيء الذي نعنيه بقولنا: «شمع» ليس في حقيقته مما تدركه الحواس، وحسبنا أن نذكر أن حقيقة الشمع حاضرة على السواء في الحواس المختلفة، مع أن الحواس المختلفة متباينة جدا فيما تدركه؛ فالعين ترى لونا، والأذن تسمع صوتا، والأنف يشم رائحة، وهكذا، فإذا كانت حقيقة الشمع حاضرة في اللون حضورها في الصوت أو الرائحة - على اختلاف هذه الإحساسات - كانت حقيقة الشمع مختلفة عن هذه الإحساسات جميعا. إنني في الحقيقة لا أرى الشمع إلا بعقلي، أما هذه الظواهر التي تتلقاها الحواس فليست من حقيقة الشمع إلا بمقدار ما تكون ثيابنا دالة على حقيقتنا، فلو جاز لي أن أقول إنني حين أرى ثيابا وقبعات في الطريق فإني أرى حقائق الناس، جاز أن أقول كذلك إنني حين أحس من الشمعة صفاتها بحواسي فإني أدرك حقيقتها. جرد قطعة الشمع من ثيابها الحسية هذه تدرك حقيقتها بعقلك، وهكذا تكون معرفتك للأشياء الخارجية بالعقل لا بالحواس، وإن بدا الأمر غير ذلك.

وينتقل ديكارت بعد ذلك إلى تقسيم الأفكار أنواعا مختلفة (وهو هنا يدخل الإدراكات الحسية ضمن الأفكار) قائلا: إن أكثر الخطأ شيوعا بين الناس هو ظنهم بأن أفكارهم شبيهة بالأشياء الخارجية، والأفكار في ظنه تنقسم أنواعا ثلاثة: (1) أفكار فطرية فينا. (2) أفكار تأتي إلينا من خارج أنفسنا. (3) أفكار نخلقها نحن خلقا. والصنف الثاني من هذه الأصناف الثلاثة هو الذي نخطئ حياله؛ إذ ترانا مدفوعين بميل طبيعي إلى الظن بأن أفكارنا التي تأتي من خارج أنفسنا هي صور شبيهة بالأشياء الخارجية التي أحدثت فينا تلك الأفكار. أضف إلى ذلك أنها أفكار لا يخضع حدوثها فينا لإرادتنا، بل هي تتكون عن الأشياء أردنا ذلك أو لم نرد؛ فيزيد ذلك من اقتناعنا بأنها تصور أشياءها تصوير الشبيه بشبيهه، لكن لا الميل الطبيعي الذي يدفعني إلى هذا الاعتقاد ولا استقلال هذه الأفكار عن إرادتي بحجة منطقية تدل بالضرورة على صدق الاعتقاد.

ولكن إذا كانت أفكاري التي تأتيني من الأشياء الخارجية ليس فيها ما يدل على أنها تصور الأشياء التي في العالم تصويرا أمينا، أفلا يكون هنالك وسيلة تزيل عني الشك في وجود تلك الأشياء؟ يجيب ديكارت أن الوسيلة هي الاعتقاد في إله خير لا يخدع كما خدعنا الشيطان الذي افترضنا وجوده عندما بدأنا عملية الشك. الله هو الذي وهبني هذا الميل الطبيعي الذي يدفعني إلى القول بأن أفكاري عن الأشياء الخارجية صور أمينة لها، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان هذا الميل في طبيعتي خديعة، وما دام الله الواهب لا يخدع كان ما يدفعني إليه ميلي الطبيعي من حيث صدق الأفكار التي تأتيني من الخارج حكما صحيحا ؛ وإذن فالعالم الخارجي - عالم الأشياء - موجود كما تدركه الحواس.

ولعلك تلاحظ أن ديكارت قد سار في رأيه عن مصدر المعرفة ومدى يقينها في خطوتين: إحداهما تهدم والثانية تبني، لكنه كان أقوى في جانب الهدم منه في جانب البناء؛ فلئن كان في المرحلة الأولى - مرحلة الشك - فيلسوفا ثائرا على تقبل الناس في العصور الوسطى لأفكارهم تقبل التسليم، فقد عاد في المرحلة الثانية فانتكس إلى إيمان العصور الوسطى.

الفصل السادس

مصدر المعرفة عند النقديين

رأينا التجريبيين والعقليين يختلفون على مصدر المعرفة: أهو الحواس وحدها كما يقول الفريق الأول أم هو العقل كما يقول الفريق الثاني؟ كأنما اختيارنا لا بد أن يقع على إحدى الوسيلتين دون الأخرى، وكأنما هو محال على الوسيلتين أن تجتمعا معا في تحصيل المعرفة، فجاء «كانت»

1

بمذهبه النقدي ليقرر أن المعرفة لا تتم إلا بالخبرة الحسية والمبادئ العقلية معا.

والمقصود بكلمة «النقد» حين تستعمل في وصف فلسفة بأنها «نقدية» هو تحليل الأحكام التي نطلقها على الأشياء - أو إن شئت فقل هو تحليل المعرفة - تحليلا ينتهي بنا إلى استخراج الأصول الصورية التي لا بد من افتراضها لكي نطلق ما أطلقنا من أحكام أعني لا بد من افتراضها لكي نعرف ما نعرف؛ فافرض مثلا أني قلت هذه العبارة الآتية: ركبت القطار «قبل» قيامه بدقيقتين، فهل كان يمكن أن أقول قولا كهذا وأن يكون له معنى مفهوم ما لم يكن قد سبق ذلك في ذهني افتراض؛ هو أن الحوادث تتتابع في الحدوث؛ أي أن هنالك تسلسلا في اللحظات الزمنية؟ إنه بغير هذا الافتراض يكون محالا أن أنسب حادثة إلى حادثة أخرى فأجعلها «قبلها» أو «بعدها»، ثم هل يمكن أن أفترض وجود اللحظات الزمنية متتابعة دون أن يسبق ذلك في الذهن افتراض بأن العالم ليس حقيقة واحدة بل يتألف من كثرة من حقائق تأتي متتابعة؟ إذن فعبارتي الأولى التي قلتها لأصف بها ما حدث - وهو أني ركبت القطار قبل قيامه - كانت تنطوي على أصل عقلي - أي أصل منطقي - وهو «الكثرة» أو «التعدد»، ولولا تصوري للكثرة لما تصورت تسلسل الزمن، ثم لولا تصوري لتسلسل الزمن لما استطعت أن أقول عن ركوبي القطار إنه جاء «قبل» قيامه. هذه المحاولة وأمثالها التي نحاول بها أن نستخرج ما وراء أحكامنا من أصول عقلية هي التي تسمى في الفلسفة «بالنقد» أو «التحليل». والفلسفة تكون «نقدية» إذا جعلت هدفها الأساسي تحليل أفكارنا لاستخراج الأصول المنطقية الكامنة وراءها، والتي لولاها لما استطعنا أن نكون تلك الأفكار.

والفيلسوف النقدي - إذ يستعرض أحكامنا ويحللها على هذا النحو الذي يستخرج به تلك الأصول المنطقية - يحاول أن يرد هذه الأصول إلى أقل عدد ممكن؛ هي التي تكون - في رأيه - الصور الأولى التي تملأ بالمعارف المختلفة، وهذه الصور أو هذه الإطارات التي تصب فيها خبراتنا تسمى في الفلسفة ب «المقولات»؛ فقولي - مثلا: «إن المنزل قد أحرقته النار.» وقولي: «إن الرجل قد قتله الرصاص.» هما قولان من «مقولة» واحدة على الرغم من اختلاف العبارتين اختلافا بعيدا في مادة معناهما؛ لأن الصورة في كل منهما هي نفسها الصورة في الأخرى، وهذه الصورة أو هذا الإطار أو هذا القالب المشترك بينهما هو أن «أ» سبب «ب». وإذن فهذان القولان وكل قول آخر يشبههما إنما ترتد كلها إلى «مقولة» واحدة هي مقولة السببية؛ فالسؤال الذي يلقيه الفيلسوف النقدي على نفسه ويحاول الإجابة عنه هو: ما هي «المقولات» التي ترتد إليها أحكام الناس البادية في كلامهم مهما اختلفت هذه الأحكام في مضمونها؟

فالفرق الجوهري بين المقولة وما يملؤها من معرفة هو أن الأولى عقلية تكون في طبيعة الإنسان قبل الخبرة، وأما الثانية فتأتي بعد الخبرة؛ أي أن القالب نظري والحشو مكتسب. وإذن فعمل الفيلسوف النقدي وهو يحلل حكما من أحكامنا على الأشياء؛ أي وهو يحلل جملة من الجمل التي نقولها لنعبر بها عن أفكارنا. أقول: إن عمل الفيلسوف النقدي - وهو يحلل حكما من أحكامنا ليستخرج الإطار الذي صب فيه ذلك الحكم - هو أن يحلل الحكم ليفرز فيه أحد عنصريه عن الآخر، فيفصل القالب الصوري عن المضمون التجريبي الذي يملؤه. وقد كانت هذه هي المحاولة التي قام بها «كانت» في كتابه المشهور «نقد العقل الخالص»؛ إذ أراد به أن يقيم البرهان على أنه على الرغم من أن معرفة الإنسان يستحيل أن تجاوز حدود خبرته الحسية إلا أن هذه الخبرة الحسية نفسها لا بد لها من إطارات أو قوالب أو مقولات تكون فطرية في طبيعة العقل لتتشكل الخبرة الحسية على غرارها.

ولكي نفهم رأي «كانت» الذي انتهى إليه لا بد أولا من فهم التفرقة التي فرق بها بين أنواع القضايا؛ أي بين أنواع العبارات اللغوية التي نعبر بها عن أفكارنا، فجعلها من حيث نقلها للمعلومات نوعين: فقضايا إخبارية

2

وأخرى تكرارية،

3

ثم قسمها مرة أخرى من حيث كونها قبل الخبرة الحسية أو بعدها إلى قسمين: فقضايا قبلية وأخرى بعدية.

أما التقسيم الأول الذي يقسم الأحكام إلى ما هو تكراري وما هو إخباري فشرحه كما يأتي:

الجملة تكون تكرارية إذا كان الخبر الذي جاءت لتخبر به هو نفسه جزء من الموضوع الذي تتحدث عنه الجملة وتخبر عنه. ونضع هذا المعنى بلغة المنطق فنقول: إن القضية التكرارية هي التي يكون فيها المحمول جزءا من الموضوع، فمثلا إذا قلت لك: «إن المصباح المضي مصباح» أو «إن المثلث المتساوي الأضلاع مثلث» كان قولي تكراريا، الخبر فيه جزء من المخبر عنه؛ وإذن فهو قول لا يأتي بجديد سوى أن يبرز بعض عناصر الموضوع الذي هو مدار الحديث، وبالطبع لا يكون التكرار دائما في الجملة التكرارية بهذا الوضوح الذي تراه في المثلين السابقين، بل كثيرا ما يخفى على التفكير العابر السريع.؛ فمثلا إذا قلت «إن الكوكب هو ما يدور حول الشمس» فقد يخيل إليك للوهلة الأولى أنني هنا أجيئك بخبر جديد عن «الكوكب»، وأنني بهذه الجملة لا أكرر لفظ المخبر عنه في الخبر، لكنك إذا أمعنت النظر وجدتني في هذه الجملة أيضا أكرر الشيء الواحد مرتين دون أن أضيف خبرا جديدا؛ لأنك لو اعترضت علي بقولك: عرف لي الكوكب قبل أن تخبرني عنه بأنه يدور حول الشمس أو لا يدور؛ لما وجدت تعريفا للفظة «كوكب» أقوله لك سوى أنه «ما يدور حول الشمس»؛ وإذن فأنا في الحقيقة لم أزد في عبارتي التي قلتها أولا على أن وضعت الشيء وتعريفه، ولما كان الشيء مساويا لتعريفه، فقد وضعت في عبارتي الأولى لفظا وما يساويه؛ أي كررته مرتين، وإن يكن تكراره قد جاء في صورتين مختلفتين ظاهرا.

وأما الجملة الإخبارية فهي التي تضيف خبرا جديدا يقال عن موضوع الحديث، بحيث إذا عرفت هذا الموضوع جاء التعريف خاليا من ذلك الخبر الجديد، وكل معرفة تجيء عن طريق الخبرة الحسية هي من هذا القبيل، فلو قلت مثلا «كان السبت الماضي يوما ممطرا» كنت بهذا القول أخبر عن يوم السبت الماضي بخبر ليس بالضرورة جزءا من معناه، فمهما حللت معنى «السبت الماضي» فلن تجد جزءا من هذا المعنى أنه يوم ممطر؛ فوصفي له بهذه الصفة هو نتيجة الخبرة الفعلية التي خبرتها بحواسي.

فبينما الجملة التكرارية لا تحتاج إلى خبرة حسية تؤيدها أو تفندها؛ لأنها تكرر القول ولا تضيف جديدا، فالجملة الإخبارية مدار تأييدها أو تفنيدها على الخبرة الحسية. فإن قلت لك «إن المصباح المضيء مصباح» فليس هناك ما يدعو إلى مراجعة شيء في عالم الواقع لتعرف إن كان قولي هذا صحيحا أو خاطئا. أما إذا قلت لك «إن المصباح المضي مصنوع من الفضة» فها هنا إذا أردت التحقق من صدق قولي كان لا بد لك من الرجوع إلى الواقع لترى إن كان المصباح - الذي هو موضوع الحديث - مصنوعا من الفضة أو لم يكن، فإن كان صدق الجملة التكرارية متوقفا على اتساق أجزائها - أي على عدد التناقض بين أجزائها - فصدق الجملة الإخبارية متوقف على مطابقة الخبر للواقعة التي جاءت الجملة لتصورها وتخبر عنها.

وننتقل الآن إلى التقسيم الثاني لأحكامنا إلى ما هو قبل الخبرة وما هو بعدها، أو بالعبارة الاصطلاحية في الفلسفة: إلى ما هو «قبلي» وما هو «بعدي».

فالقضية البعدية - أو إن شئت فقل عنها القضية الخبرية أو التجريبية - لا نصل إليها إلا بعد إدراك حسي نقوم به نحن بأنفسنا أو يقوم به من نثق بشهادته، وكل حقائق التاريخ والجغرافيا هي من هذا القبيل؛ فكيف تعرف أن جبال الهملايا ارتفاعها كذا إلا إذا أدركتها بحواسك أو أدركها من تثق بشهادته؟ وكيف تعرف أن نابليون جاء إلى مصر سنة 1798 إلا إذا كان شاهد قد شهد ذلك بحواسه وأثبت شهادته هذه؛ فصدقت أنت شهادة الشاهد. وكذلك قل في كل قوانين العلوم الطبيعية، فهذه القوانين لا يمكن الوصول إليها إلا بعد ملاحظة وتجربة للأشياء التي صيغت القوانين الطبيعية عنها، فكون الماء يتركب من أوكسوجين وأيدروجين بالنسبة الفلانية يحتاج إلى تجربة في المخابير ألاحظها بعيني، وهكذا.

وأما القضية «القبلية» فشأنها مختلف؛ لأنها لا تعتمد على الخبرة الحسية؛ مثل قولي: 2 + 2 = 4، فحتى لو وصلت إلى هذه الحقيقة بادئ الأمر بالنظر إلى برتقالتين وبرتقالتين، أو قلمين وقلمين كما يفعل المدرس في تعليم الأطفال، فإنني بعد أن أجرد المعنى من البرتقال والأقلام وغيرها، فإني أدرك أن صدقه لا يتوقف على خبرة حسية، ولا أتطلب بعد ذلك أمثلة من دنيا الواقع لتأييده؛ لأنني أدرك فيه يقينا لا يتطرق إليه الشك، وكل قضايا الرياضة من هذا القبيل.

الآن وقد عرفت ما القضية التكرارية وما القضية الإخبارية، كما عرفت الفرق بين القضية القبلية والقضية البعدية؛ فقد بات الطريق ممهدا لوضع المشكلة كما رآها «كانت» وكيف كان حلها على يديه.

لو قلنا لك إن القضية التكرارية تكون قبلية؛ أي يكون صدقها غير معتمد على الخبرة الحسية؛ لما في هذا القول ما يثير دهشة؛ لأنك لست بحاجة إلى خبرة لتثبت أن «المصباح المضيء مصباح». وكذلك لو قلنا لك إن القضية الإخبارية تكون بعدية لما أثار القول دهشتك؛ لأنه ما دام في القول خبر جديد فهو إذن مستقى من الخبرة ولا يجيء إلا بعدها، كأن أقول لك عن حائط غرفتي إنه أزرق، لكن كيف يكون موقفك حين أزعم لك أن هنالك ضربا من العبارات تكون الواحدة منها إخبارية وقبلية في آن واحدة؟ أي أنها تروى خبرا لكنها في الوقت نفسه لا تحتاج إلى خبرة تؤيد صدقها؟

هذه هي مشكلة المعرفة كما صاغها «كانت» ثم حاول حلها؛ فالمشكلة عنده هي أننا في كل القوانين العلمية - في الرياضة وفي العلوم الطبيعية على السواء - إنما نعمم القول على نحو يجعله إخباريا وقبليا في آن واحد. والسؤال هو: كيف أمكن هذا الجمع بين الجانب الخبري وبين الجانب الذي يسبق الخبرة بحيث يتكون من الجانبين حكم واحد؟

الجواب عند «كانت» هو أن جانبا يأتي من الخارج، وهو جانب الخبرة الحسية تأتينا منبعثة من الأشياء، لكنها إذ تأتي لا تجد نفسها بغير ضابط يضبطها، بل يتلقاها في العقل إطار ينظمها في حدوده؛ ومن ثم يكون كل جزء من معرفتنا معتمدا في مضمونه على خبرة الحواس وفي قالبه على نظرة العقل في طريقة الإدراك، وهكذا يكون كل جزء من معرفتنا حسيا وعقليا، إخباريا وماديا، في آن واحد. وفيما يلي شيء من التفصيل في توضيح ذلك.

هذه برتقالة معي، فكيف أدركها؟ أولا تأتيني منها إحساسات مختلفة؛ إذ يأتيني منها لون عن طريق العين، ورائحة عن طريق الأنف، وطعم عن طريق اللسان، وملمس عن طريق الأصابع، وهكذا. وهذه الإحساسات تأتي من أبواب مختلفة، وتسلك إلى المخ طرقا مختلفة كما رأيت، فليس الطريق الذي يسلكه اللون هو نفسه الطريق الذي يسلكه الطعم أو الرائحة أو الملمس؛ وإذن فالنتيجة الطبيعية لهذا هي أن الإحساسات تظل في الذهن أشتاتا إذا كان اعتمادنا على الحواس وحدها، لكنها لو ظلت هكذا أشتاتا متفرقة لما أمكنني إدراك البرتقالة؛ لأن مجرد الإحساس ليس هو الإدراك؛ وبالتالي ليس هو المعرفة، فليست البرتقالة هي لونها وحده أو طعمها وحده أو رائحتها وحدها، إنما هي هذه جميعا متجمعة في «شيء» معين؟ ما الذي يضم الإحساسات المتفرقة التي جاءت من قنوات مختلفة بعضها إلى بعض في الداخل؟ أم هل تسارع هذه الإحساسات إلى اجتذاب بعضها إلى بعض بطريقة آلية دون أن تحتاج في ذلك إلى عامل خارج عنها؟ نعم، هذا هو ما يقوله «هيوم»؛ إذ يقول إن الانطباعات الحسية الواردة إلي من الخارج تترابط من تلقاء نفسها بما يسميه قوانين الترابط أو قوانين التداعي، وأما «كانت» فرأيه غير ذلك.

رأيه هو أن في فطرة الإنسان وسيلتين للإدراك الحسي؛ أعني أن في فطرته وسيلتين لجمع الإحساسات المتفرقة جمعا تصبح معه صورا ذهنية متصلة مترابطة للأشياء التي انبعثت منها تلك الإحساسات، وهاتان الوسيلتان هما: «المكان» و«الزمان»، تأتي إلينا الإحساسات المتفرقة في خليط مهوش؛ فنرتبها في داخل أنفسنا ترتيبا يجعل هذا الإحساس على صلة مكانية بذلك الإحساس، كأن يكون مثلا على يمينه أو يساره أو فوقه أو تحته، وبربط هذه الإحساسات المتفرقة ربطا مكانيا تتكون منها صورة للشيء؛ وبالتالي يتكون له عندنا إدراك حسي. على ألا تنسى أن هذا الترتيب الذي وضعنا فيه الإحساسات الواردة إلينا هو من عندنا، وليس في الإحساسات نفسها، فنحن الذين نخلعه على الإحساسات فتكتسب به معنى. وكذلك قل في تتابع الأشياء تتابعا زمنيا بحيث نقول عن شيء إنه قبل شيء آخر أو بعده، فهذا التتابع هو من عندنا أيضا؛ لأن ما يأتينا من الخارج - كما قلنا - إحساسات بغير ترتيب؛ فالحواس أبواب مفتوحة ينفذ منها ألوف الإحساسات في كل لحظة، فنتناولها نحن في الداخل بالترتيب المكاني وبالتتابع الزماني؛ فتصبح مدركات منظمة بعد أن كانت خليطا مهوشا.

إذا تكونت في ذهني صورة للبرتقالة التي معي الآن، فأنا الذي صنعت هذه الصورة صنعا، لكنني صنعتها من المادة الخامة التي أتتني من الخارج، وهي الانطباعات الحسية المختلفة، كما يصنع النجار منضدة من خشب يعطى له، والأداتان اللتان أصنع بهما مدركاتي هما «المكان» و«الزمان»؛ أي هما ترتيب العناصر الخامة على نحو يربط أجزاء المدرك الواحد بعضها ببعض، ثم على نحو يتابع بين المدركات في سلسلة زمنية فيها ما هو سابق وما هو لاحق، وليس في الأشياء نفسها مثل هذا الترتيب المكاني أو التتابع الزماني، إنما هما صفتان ذاتيتان من عندي خلعتهما على الأشياء لتصبح ذات معنى، فما أشبه الأمر هنا بمن يلبس منظارا أزرق فيرى كل شيء أزرق اللون، لكن الزرقة تكون في منظاره ولا تكون في الأشياء المرئية.

وواضح أنه ما دام المكان والزمان أداتين يستخدمهما الإنسان بواسطة الحواس، فهما يبطلان إذا ما استخدما في غير الظواهر المحسوسة؛ فالحقائق الخارجية إن كانت من غير المحسوسات استحال أن يكون لها مكان أو زمان.

وما دمان قد سلمنا بأن الزمان والمكان أداتان ذاتيتان تستخدمان في الإدراك الحسي، وأنهما لم يستمدا من التجربة الحسية مع أنهما الوسيلتان اللتان تجعل المدركات الحسية ذات معنى، فإنه ينتج من ذلك أن كل ما نطلقه على الأشياء من أحكام تتعلق بمكانها أو بزمانها فهو معتمد في أحد وجهيه على ذواتنا نحن لا على خبراتنا الآتية عن طريق الحواس؛ ومن ثم كانت كل القضايا الرياضية مرتكزة على الطبيعة الإنسانية نفسها في إدراك الأشياء؛ لأن هذه القضايا تتعلق إما بالمكان في علم الهندسة أو بالزمان - أي بتتابع الوحدات - في علم الحساب؛ فالقضايا الرياضة صادقة صدقا يقينيا، غير معتمدة في صدقها هذا على التجربة الحسية، بل هي صادقة من «قبل» التجربة؛ أي هي قضايا «قبلية»، ولولا فطرة الإنسان في طريقة إدراكه للعالم بوسيلتي المكان والزمان لما أمكانه تكوين الأحكام الرياضية.

ومن هذا يتضح أن «كانت» قد وقف بمذهبه هذا بين الواقعية والمثالية؛ لأنه من ناحية اعترف بالإحساسات التي تأتي إلينا من الخارج كمادة أولية للمعرفة، ولكنه من ناحية أخرى قرر فاعلية العقل واشتراكه في صياغة تلك الإحساسات في مدركات حسية.

ليس المكان والزمان بالفكرتين؛ أعني أنهما في ذاتيهما ليستا بالمدركين العقليين اللذين نستخلصهما من تجاربنا؛ لأنهما ليستا جزءا من التجربة، بل هما «المنظار» الذي نرى به تلك التجربة؛ «فالمكان» - مثلا - لم تتكون فكرته في عقولنا بعد أن رأينا عدة «أمكنة» بحيث استطعنا أن نقارنها ونجردها من أوجه الاختلاف لنستخلص أوجه الشبه فتكون هذه هي قوام المدرك العقلي عن «المكان». كما نفعل حين نستخلص معنى «المقعد» من مجموعة المقاعد التي تمر بنا في تجاربنا، ومعنى «الشجرة» من مجموعة الأشجار، ومعنى «الكتاب» من مجموعة الكتب، وهكذا. لا، ليس «المكان» ولا «الزمان » بمدرك عقلي يتكون على هذا النحو في عقولنا، بل هما الطريقة التي ننظر بها إلى الأشياء بحيث نحول أشتات الإحساسات المنبعثة منها إلينا إلى إدراكات حسية؛ لأن مجرد الإحساس ليس إدراكا.

لكن هنالك في العقل - فيما عدا وسيلتي الإدراك الحسي اللتين هما المكان والزمان كما أسلفنا - مدركات عقلية موجودة فيه «قبل» أية خبرة حسية، هي مدركات «قبلية» نستعين بها في تكوين المعاني الكلية من المدركات الحسية، ثم في ربط هذه المعاني الكلية بعضها ببعض بحيث نكون الأحكام التي نطلقها على الأشياء إيجابا أو سلبا؛ فأنت حين تدرك البرتقالة الواحدة التي أمامك مستعينا في إدراكها «بمنظار» المكان الذي يضم اللون إلى الشكل والطعم والرائحة والملمس في مجموعة واحدة متلاصقة تكون هي إدراكك الحسي للبرتقالة. أقول إنك حين تفعل هذا لا تكون قد كونت لنفسك بعد «مدركا عقليا» أو «معنى كليا» عن البرتقالة بصفة عامة، بل لا بد لك من خطوة أخرى تقارن فيها عدة البرتقالات الجزئية التي تمر بك في خبرتك لتجردها من صفاتها العرضية ولتبقي لها صفاتها التي يجب أن تكون في الشيء لكي يكون برتقالة، هذه الصفات الجوهرية إذا ما تكونت لديك كان عندك بذلك «معنى كلي» عن البرتقالة بصفة عامة، لا هذه البرتقالة الواحدة أو تلك البرتقالة الواحدة. وعلى هذا النحو تمضي في تكوين «مدركات عقلية» عن الأشياء، ثم ماذا؟ إنك لو وقفت عند هذه المرحلة لما كان لديك «معرفة» بمعناها الصحيح؛ لأن «المعرفة» إنما تكون في الأحكام التي تطلقها على الأشياء إيجابا أو سلبا؛ أي أنها تكون بربط مدركاتك العقلية وإيجاد الصلات بينها مما يدخل بعضها في بعض أو يبعد بعضها عن بعض؛ فنقول مثلا: «النار تحرق الورق» و«النحاس يوصل الكهرباء» و«الخشب لا يغوص في الماء»، وهكذا وهكذا.

لكي تستطيع أن تخطو هاتين الخطوتين بعد مرحلة إدراكاتك الحسية للأشياء الجزئية التي تقع في خبرتك، وهما الخطوتان اللتان تكون بهما «مدركات عقلية»، وتربط هذه المدركات العقلية في أحكام، زودت فطرتك بنوع من المدركات العقلية لا يحتاج - كغيره من المدركات العقلية - إلى خبرة حسية لتكوينه؛ فالمدرك العقلي «شجرة» لا يتكون إلا بعد أن تدرك بالحس أشجارا، أما المدرك العقلي «سببية» فمفطور في عقلك قبل أن تحصل بحواسك أية خبرة حسية، بحيث إذا جاء ضمن خبرتك الحسية شيئان «أ» و«ب» مرتبطان برابطة السببية كالنار والورق المحترق، لم يكن هنالك داع أن تبحث عن الرابطة السببية بين العناصر الحسية ذاتها؛ لأنها من عندك وفي فطرتك، تجعلها على أمثال هذه الحوادث التي ترتبط بها، فتقول: إن «أ» سبب في حدوث «ب» على الرغم من أن الخبرة الحسية ليس فيها إلا «أ» تتبعها «ب»، وليس في مجرد التتابع المحسوس معنى الضرورة؛ أي ليس فيه ضرورة أن تكون «أ» دائما متبوعة ب «ب»، إنما الذي فرض هذا الدوام أو هذه «الضرورة» هو المدرك العقلي الذي زودت به فطرة الإنسان.

هذه المدركات العقلية الفطرية القبلية (أي التي توجد قبل الخبرة الحسية) هي التي تسمى بالاصطلاح الفلسفي «مقولات»، ووجودها شرط لا محيص عنه ليتمكن الإنسان من «معرفة» العالم الخارجي، ولولاها لبقيت مدركاتنا عن العالم الخارجي خليطا مهوشا لا اتساق فيه ولا معنى.

خذ مقولة «الجوهر» مثلا، فما الذي يجعله متعذرا عليك أن تتصور أن البرتقالة إن هي إلا مجموعة صفات تحسها الحواس المختلفة دون أن يكون هنالك من الصفات ما يمسكها في وحدة واحدة؟ ما الذي يجعله متعذرا عليك أن تتصور أن الفرد الواحد من أفراد الناس إن هو إلا سلسلة من حادثات متتابعة عابرة دون أن يكون في داخله محور ثابت هو الذي يوحد بين هذه الحادثات في شخص واحد؟ أو بعبارة أخرى ربما كانت أوضح: ما الذي يضطرك اضطرارا أن تفرض وجود نفس أو روح في الإنسان؟ الذي يضطرك إلى هذا هو فطرتك التي تفرض «جوهرا» تتعلق به الظاهرات العرضية ليتكون الشيء في تصورك، وإلا لانحل الشيء إلى حالات مفككة لا وحدة بينها ولا دوام لوجودها؛ فقد كان «هيوم» على حق حين قال إن الشيء ليس إلا سلسلة ظواهره؛ لأن هذه نتيجة تلزم حتما عن المقدمة التي بدأ بها، وهي أن المعرفة مصدرها الحواس وحدها؛ إذ لو كان الأمر كذلك؛ لما كانت البرتقالة إلا محسوساتها، ولما كان الإنسان أيضا إلا ما يظهر منه للحواس؛ وبالتالي لما جاز لنا أن نفترض في داخله وجود نفس أو روح؛ لأنها ليست مما يأتي عن طريق الحواس. أقول: إن «هيوم» كان على حق على شرط أن نسلم معه بالمقدمة. لكن لماذا لا نبدأ بمقدمة أخرى كما فعل «كانت»، ونقول إن في العقل مقولات فطرية ذاتية قبلية هي التي نصب فيها خبراتنا الحسية؟ ومن تلك المقولات مقولة «الجوهر»؛ فجوهر الإنسان - أي نفسه أو روحه - فرض لا بد منه لتتكون للفرد وحدته واستمراره، وجوهر البرتقالة فرض لا بد منه كذلك لتمسك الظاهرات الحسية في وحدة شيئية. نعم ليس «الجوهر» نفسه من بين المحسوسات لكنه شرط لازم لاجتماعها وتماسكها، وإلا لكان تصورنا لصفات البرتقالة المتفرقة أو لصفات الإنسان وهي معلقة وحدها بغير محور تتعلق به كتصورنا لمجموعة ثياب معلقة في الهواء بغير مشجب تستند إليه.

هذه المقولات شأنها شأن وسيلتي الإدراك الحسي - المكان والزمان - ذاتية نخلعها من عندنا على مدركاتنا ليتكون لنا علمنا بالعالم الموضوعي؛ أي أنها جزء من بنية عقولنا، وهي بمثابة القوالب الفارغة أعدت لتنصب فيها خبراتنا الحسية كائنة ما كانت، ولكن حدود تطبيقها تقف عند حدود الخبرة الحسية، فلا يجوز أن تطبقها على ما ليس يأتي عن طريق الحس.

ولئن كانت وسيلتنا الإدراك الحسي من مكان وزمان قد مكنتانا من ترتيب أشتات الإحساس المتفرقة ترتيبا يجعل بينها اتصالا مكانيا وتتابعا زمنيا؛ وبالتالي استطعنا أن نطلق الأحكام الرياضية في علمي الهندسة والحساب، بحيث تكون أحكاما إخبارية عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه تكون أحكاما قبلية يقينية، فإن هذه المقولات تمكننا من إطلاق الأحكام في العلوم الطبيعية بحيث تأتي هي الأخرى إخبارية وقبلية في آن واحد؛ أي تأتي مخبرة عن عالم الأشياء، وفي الوقت نفسه يكون فيها اليقين الذي يأتي من العقل ولا ينتظر التجربة الحسية.

ليس ما في العالم من اطراد الحوادث في نظام واتساق يبدوان في قوانينه، ليس هذا الاطراد موجودا في الطبيعة نفسها، بل خلعه الفكر الذي عرفه وأدركه حسب قوانينه المتأصلة في فطرته؛ أي أنه ليس للعالم الطبيعي قوانين خاصة به يسير بمقتضاها غير القوانين التي يعمل بها العقل؛ فقوانين الأشياء هي نفسها قوانين الفكر، والعلاقة التي تربط أفكارنا بعضها ببعض هي نفسها العلاقة التي تربط الأشياء في الواقع الخارجي بعضها ببعض، فإذا كنت ترى الأشياء مرتبطة برابطة السببية؛ فذلك لأن السببية مقولة عقلية مفطورة فينا. ولا غرابة؛ فنحن لا نعلم الأشياء الخارجية إلا بمعونة الفكر وقوانينه، فبديهي أن تكون تلك القوانين العقلية هي نفسها القوانين التي ندركها في الطبيعة.

الفصل السابع

مصدر المعرفة عند المتصوفة

وسيلة المعرفة عند التجريبيين هي الحواس، ووسيلتها عند العقليين هي العقل، وعند النقديين وسيلتها هي الحواس والعقل معا، أما المتصوفة فمن رأيهم أن الحق المطلق - وهو الله - لا تكون الوسيلة إلى معرفته هي الحواس أو العقل أو الحواس والعقل معا، بل تكون الوسيلة إلى معرفته هي «الحدس» أو العيان المباشر أو البصيرة، فكل هذه ألفاظ تسمى بها وسيلة المعرفة حين يمتزج الشخص العارف بالشيء المعروف، بحيث لا تكون هنالك تفرقة بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى. وإن شئت مثالا قريبا فانظر إلى نفسك كيف تعرف أنك موجود؟ إنك لا تعرف ذلك بعين أو أذن أو أنف؛ لأنك لو أغلقت هذه الأبواب كلها فستعرف أنك موجود. وأنت كذلك لا تعرف وجود نفسك بالبرهان تقيمه فتكون هناك مقدمات تستنتج منها النتائج؛ أي أنك لا تعرف وجود نفسك بالعقل بل تعرف بأن تدركه إدراكا مباشرا، وهذا الضرب من الإدراك هو الذي يقال له في الفلسفة اصطلاحا: إدراك بالحدس، وهو هو بعينه طريقة الإدراك التي ندرك بها الله.

والمتصوفة على اختلافهم يتفقون على نقط هامة حتى تعد هذه النقط من أخص خصائص التصوف باعتباره طريقة للمعرفة؛ فهم فوق اتفاقهم جميعا على أن الحدس هو وسيلة الإدراك التي يركن إليها ، تراهم كذلك يتفقون على أن الحقيقة التي يدركها الإنسان بحدسه ليست مما يمكن التعبير عنه بكلمات؛ لأنه في هذه الحالة يندمج في موضوع إدراكه اندماجا يجعلهما شيئا واحدا، وأما الكلمات فهي وصف يحوم حول الموضوع ولا يصل أبدا إلى قلبه ولبابه. وإن شئت فقارن بين حالتين: حالة قراءتك لكلمات تصف الحب بين عاشقين، وحالة شعورك أنت بالحب؛ فالمكابدة والمعاناة تجربة ذاتية تصل الإنسان بموضوعه وصلا مباشرا، أما الألفاظ فمهما بلغت من دقة الوصف فهي شيء آخر غير الوجدان الذي يكابده صاحب التجربة النفسية ويعانيه.

وكذلك هم يتفقون على أن ظواهر الكون ليست هي بحقيقته، بل حقيقته كامنة وراء تلك الظواهر وتختلف عنها، فإن كانت الظواهر تدرك بالحواس، ويقارن العقل بينها ليصنفها في أنواع وأجناس ويستخرج قوانين اطرادها، وهكذا، فإن الحقيقة التي وراءها يستحيل إدراكها إلا بالحدس، وذلك بأن يروض الإنسان نفسه على الاتصال بها والاندماج فيها.

وعندهم أن هذه الحقيقة المطلقة الكامنة وراء الظواهر هي واحدة لا كثرة فيها ولا تعدد. نعم، إنها تعبر عن نفسها في هذه الظواهر الكثيرة المتعددة المتنوعة، لكنها هي واحدة، وما دام الأمر كذلك فكل ما يدل على كثرة فهو باطل؛ ولهذا كان الزمن وهما لا حقيقة؛ لأنه سلسلة من لحظات، لكل لحظة منها لحظة قبلها ولحظة بعدها، وأما الحقيقة المطلقة (أي الله) فلا زمان لها، وليس في وجودها «قبل» و«بعد»، فانقسام الزمن إلى ماض وحاضر ومستقبل إن هو إلا تقسيم يتفق مع الظواهر العابرة، وليس هو بذي معنى بالنسبة إلى الله.

وسنضرب لك مثلا للمتصوف: «الإمام الغزالي»

1

الذي انتهى إلى ما انتهى إليه بعد أزمة نفسية حادة، وبعد استعراضه لما يقوله مفكرو عصره من متكلمين وفلاسفة حتى يطمئن إلى أن خروجه عليهم قائم على أساس صحيح.

تشكك الغزالي في شهادة الحواس، فهي - في رأيه - لا تصلح أداة يركن إليها في تحصيل المعرفة الصحيحة، فهل تستطيع العين أن تدرك حركة الظل؟ إذن فهنالك من الحقائق ما لا يمكن إدراكه بحواسنا، ثم انظر كيف إذا وضعت أمام عينك قطعة من النقود بحيث تقع بين العين وبين نجم في السماء، رأيت قطعة من النقود تغطي النجم كله كأنما هي أكبر منه. وإذن فلا يقتصر الأمر على عجز الحواس عن إدراك بعض الحقائق، بل إنها لتوهمنا بالخطأ على أنه الصواب.

وكذلك تشكك الغزالي في أحكام العقل نفسه، وحسبك أن تأخذ مبدأ واحدا من مبادئه الأولية التي يقال إنها قوانين الفكر العقلي، والتي نقبلها بالتسليم الذي لا يحيط به شيء من الشك، وهو مبدأ عدم التناقض، فعند العقل أنه يستحيل على الشيء أن يكون وألا يكون في وقت واحد، ولكن أيستحيل حقا على الشيء أن يكون وألا يكون؟ إنه لا استحالة في ذلك، ومن الجائز أن تتصور في كائن ينمو بحيث تتغير حاله تغيرا متصلا أنه في كل لحظة من حياته كائن وغير كائن في آن معا؛ لأنه لو كان كائنا على حاله لما تغيرت تلك الحال.

وبعد تشككه في الحواس وفي العقل يسأل قائلا: ألا تكون هنالك وسيلة فوق العقل تبين مواضع خطئه وتدل على بطلانه، كما أن العقل نفسه فوق الحواس يبين خطأها ويدل على بطلانها؟ ويجيب بأن نعم، وأن تلك الوسيلة التي هي فوق العقل والحواس معا هي الحدس.

وهو لا يرسل القول إرسالا بغير بحث، بل يتناول الجماعات الفكرية في عصره ممن كانوا يستندون في تفكيرهم إلى البراهين العقلية كالمتكلمين والفلاسفة؛ ليحلل ما كانوا يفعلونه ويبين أنه طريق لا يؤدي إلى شيء.

فأما المتكلمون فجماعة تسلم بما جاء به الدين من نصوص، وكل ما عليها هو أن تستخلص من هذه الأصول المسلم بها ما يمكن استخلاصه من نتائج منطقية؛ وإذن فأقصى ما يمكن أن يبلغوه هو أن يبينوا للمخطئ في فهم تلك الأصول الدينية خطأه؛ بأن يدلوه على مواضع انحرافه في استدلال النتائج من المقدمات المسلم بها، لكن لنفرض أن شاكا قد تشكك في صدق المقدمات نفسها، فعندئذ لا تكون أمام المتكلمين حيلة فيه؛ لأنه خرج على النطاق الذي ألزموا أنفسهم بالتحرك في حدوده ؛ وبذلك يصبح منطقهم العقلي كله لا غناء فيه لرجل - كالإمام الغزالي نفسه - أخذه القلق حينا: كيف يستطيع أن يقيم إيمانه بالله على أساس يطمئن إليه.

وأما الفلاسفة فهم كذلك فريق من المفكرين أراد أن يستخدم منطق العقل في البرهنة على وجود الله، فما معنى «برهان»؟ معناه أن تجد للقضية التي تريد إقامة البرهان على صدقها قضية أخرى أعم منها، وتكون لها بمثابة المقدمة التي يلزم عنها بالضرورة تلك القضية المراد إقامة البرهان عليها؛ فمثلا إذا أردت البرهان على أن فردا من الناس سيلحق به الموت، كان البرهان هو القضية الأعم الأشمل، وهي أن كل إنسان سيلحق به الموت، وما دام الأمر كذلك فكيف يمكن أن تقيم البرهان العقلي على وجود الله إذا لم يكن هنالك ما هو أعم منه ولا أشمل؟ إقامة البرهان تكون بإيجاد المقدمات التي تنتج النتيجة المطلوب إقامة البرهان عليها، والله ليس نتيجة لمقدمات سبقته؛ وإذن فالبرهان العقلي على وجوده محال.

هذا إلى أن الفلاسفة في محاولة البرهنة على وجود الله يلجئون إلى ما يسمونه علة أولى، وشرح ذلك أنهم يسلمون أولا بمبدأ السببية بين الأشياء والحوادث، أي أنهم يسلمون أولا بأن لكل شيء سببا، فإذا أخذت شيئا ما كوجود فرد معين من الناس، وسألت نفسك: ماذا سبب وجوده؟ ثم ماذا كان سببا في السبب؟ وهكذا، فإنك تعود بسلسلة الأسباب حلقة وراء حلقة حتى تنتهي حتما إلى سبب أول هو الله. وعندهم أن ذلك برهان كاف على وجود الله؛ لأنك لا تستطيع بعد ذلك أن تسأل قائلا: وما السبب في وجود الله؟ ذلك لأنك لو فعلت ذلك فستمضي في سلسلة لا تنتهي أبدا، وهذا - في رأيهم - موقف لا يقره العقل، فلا بد من الوقوف عند حلقة أولى تكون هي العلة الأولى لكل شيء بعدها، ولا تكون هي نفسها معلولة لشيء قبلها، وهذه العلة هي الله.

لكن ماذا لو شككنا في مبدأ السببية ذاته؟ وانظر إلى هذا الإمام الغزالي العظيم يسبق في هذه النقطة «ديفد هيوم» (وقد أسلفنا لك شرح وجهة نظره في مبدأ السببية في الفصل الرابع) يسبقه بما يقرب من سبعة قرون. يوجه الغزالي سؤاله إلى الفلاسفة الذين يبرهنون على وجود الله بمبدأ السببية فيقول: ماذا يبرر أن نسلم بهذا المبدأ كأنه بديهية واضحة بذاتها لا تحتاج إلى جدل؟ إننا لا نلحظ في مجرى الأشياء إلا حالة تتبعها حالة أخرى، وشيئا يتبعه شيء آخر، أما أن يكون في هذا التتابع الملحوظ «سببية» تجعل المسبب محتوما عليه أن يتبع سببه فذلك افتراض لا يلزم بالضرورة، ليس العقل وبراهينه إذن بكاف لبعث الطمأنينة فيمن أراد أن يطمئن إلى إيمانه بوجود الله، فكيف تكون السبيل إلى ذلك؟ يكون «بالحدس» أي بالعيان المباشر لذاتك، فإذا عرفت نفسك عرفت الله، فانظر إلى نفسك من الداخل، انظر إليها إذ أنت تهم بفعل كأن ترفع ذراعك مثلا أو أن تخطو بقدمك، انظر إليها وأنت بصدد «إرادة» تهم بتنفيذها وتحويلها إلى فعل. لا تنظر إلى نفسك وهي تفكر؛ لأن تفكير العقل - كما رأينا - لا ينتهي بنا إلى النتيجة المطلوبة، بل انظر إليها كائنا مريدا تجدها وجودا لا شك فيه. لا حاجة بك إلى حواس ولا حاجة بك إلى عقل لتعلم أنك موجود، كل ما أنت بحاجة إليه لتعلم بوجودك هو أن تريد شيئا وتفعله. ولو جاز لنا أن نقارن الغزالي بديكارت من حيث نقطة الابتداء؛ لقلنا: إن ديكارت قد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يفكر: «أنا أفكر، إذن فأنا موجود»، وأما الغزالي فقد جعل نقطة الابتداء هي إثبات وجود نفسه على أساس أنه يريد، فكأنما يقول: «أنا أريد، إذن فأنا موجود». وكيف أعرف أني أريد؟ لست أعرف ذلك عن طريق الحواس؛ لأني لا أرى شيئا ولا أسمع شيئا. ولست أعرف ذلك عن طريق العقل؛ لأني لم أستنتج نتيجة من مقدماتها، بل إني أعرف ذلك؛ لأني أدركه في نفسي إدراكا مباشرا.

والله مريد لأنه خالق والخلق فعل، ولما كان الإنسان كائنا مريدا فهو في ممارسته لإرادته فيما يقوم به من أفعال إرادية يكون من الله بمثابة الصورة الصغرى، فروح الإنسان في سيطرتها على الجسد بالإرادة شبيهة بالله في سلطانه على الكون الذي خلقه، فإذا أردت أن تعرف الله خالقا فانظر إلى نفسك مريدا.

وبأنواع من رياضة النفس على تحررها من قيود الجسد ورغباته، يستطيع الإنسان - كما يقول المتصوفة - أن يسمو روحه حتى يشهد الحق (الله) شهودا مباشرا، بحيث لا تكون به حاجة إلى برهان عقلي على وجوده. إن الصوفي ليشهد الله أوضح شهود في نفسه؛ لأن نفسه وإن لم تكن نظيرة الله فهي شبيهة به وصورة له. وأسعد ما يسعد النفس الإنسانية هو أن تبلغ من الله منزلة الشهود المباشر الذي يفنيها فيه، بحيث يصبح العارف والمعروف حقيقة واحدة.

ويجعل المتصوفة الحواس والعقل والحدس ثلاث درجات تتفاوت صعودا من حيث درجة يقين المعرفة التي تأتي عن طريقها؛ فالمعرفة عن طريق الحواس أدناها مرتبة، والمعرفة عن طريق العقل وسطاها، والمعرفة عن طريق الحدس أعلاها، وفيها يكون اليقين الكامل؛ المعرفة عن طريق الحواس هي معرفة العامة التي تستند إلى المشاهدة الحسية الجزئية يقومون بها هم بأنفسهم أو ينبئهم بها من يثقون في صدقه. والمعرفة عن طريق العقل مرحلة أعلى؛ لأنها تقوم على الاستدلال الذي تلزم فيه النتيجة عن مقدماتها لزوما ضروريا؛ فعندئذ لا تتعرض النتيجة لكل ما تتعرض له المشاهدة الحسية من خطأ، وأما المعرفة عن طريق الحدس فهي الحق يشهده العارفون مباشرة بغير حجاب.

الباب الثالث

إمكان المعرفة وحدودها

الفصل الثامن

الاعتقاديون والشكاك

نلقي على أنفسنا الآن سؤالا ثالثا وأخيرا عن المعرفة هو: ما حدودها؟ ما هو المدى الذي يستطيع الإنسان أن يبلغه بعلمه لو مكنته ظروف التحصيل؟ وأول ما يرد على أذهاننا من محاولات الفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال - إجابة صريحة أو متضمنة - أن ثمة فريقين يقفان أحدهما من الآخر موقف النقيض من نقيضه، فهنالك «الاعتقاديون» الذين يرون أن ليس للمعرفة الإنسانية نهاية تقف عندها، فإن قصر الإنسان في معرفته للكون بكل ما فيه، فما ذلك لقصور في طبيعة عقله أو في طبائع الأشياء، إنما هو قصور مرهون بزوال العوائق فيزول، وهنالك «الشكاك» من ناحية أخرى، يرون أن ليس للجهل الإنساني بحقائق العالم حد يقف عنده؛ إذ لا وسيلة أمام الإنسان في وسعه التماسها ليعرف شيئا خارج نفسه.

أما «الاعتقاديون» فهم بصفة عامة أصحاب المذهبين: العقلي والتجريبي على السواء؛ لأن كلا من هذين المذهبين - قبل «كانت» - كان يعتقد في مصدر المعرفة الذي يأخذ به، ثم لا يرى بعد ذلك أي مانع يمنع الإنسان من أن يستقي من ذلك المصدر علما بكل شيء، فإذا قال العقليون: إن العقل هو مصدر المعرفة؛ أي أننا نبدأ شوط المعرفة من مبادئ عقلية غير مكسوبة من خبرة الحواس، ثم نستطيع بعد ذلك أن نستولد هذه المبادئ علما كاملا بكل ما في الوجود من حق. إذا قال العقليون ذلك تضمن قولهم هذا أن ليس خارج العقل شيء يمكن أن يقف عقبة في سبيل تحصيله المعرفة كاملة. وكذلك إذا قال التجريبيون إن التجربة الحسية هي مصدر المعرفة تضمن قولهم أن ليس هنالك ما يحد من المعرفة إذا هيئت الظروف المناسبة للحواس أن تتصل بما يراد معرفته.

غير أن العقليين والتجريبيين على السواء لم يطرأ ببالهم أن هذا المصدر أو ذاك مما اتخذه كل منهم أساسا للمعرفة، هو في ذاته بحاجة إلى التحليل، أي أن نقطة الابتداء ليست في الحقيقة نقطة ابتداء، بل لها ما وراءها مما قد يظهره التحليل. و«الاعتقادية» كلمة تطلق لتعني هذا الموقف كائنا من كان واقفه، وهو الموقف الذي يتخذ فيه الإنسان لعلمه نقطة ابتداء يسير بعدها دون أن يتناولها هي نفسها بالتحليل والنقد. وعلى هذا الاعتبار يكون «العلماء» من الاعتقاديين بهذا المعنى؛ لأن العالم في علمه يفرض نقطة ابتداء يبني عليها بناءه العلمي، لكنه لا يحفر تحتها ليرى ماذا في الأساس. حتى الرياضة تبدأ بما تسميه تعريفات وبديهيات ثم تشتق من هذه البداية نظرياتها؛ فنظرياتها صحيحة إذا كانت مستدلة استدلالا سليما من تلك المسلمات الأولى، لكن الرياضي لا يجعل جزءا من عمله الرياضي تحليل المسلمات نفسها. وكذلك قل في العلوم الطبيعية حين يبدأ العالم بافتراض أشياء أو مبادئ كالمادة والمكان والزمان والسببية وما إلى ذلك، دون أن يجعل جزءا من عمله - باعتباره عالما - تحليل تلك الأشياء والمبادئ. نقول: إن «العلماء» في علومهم المختلفة «اعتقاديون» بهذا المعنى الذي أسلفناه، غير أن الكلمة تنصرف - إذا قيلت - أول ما تنصرف إلى المذاهب الفلسفية التي لا تناقش فروضها الأولى، كالعقليين حين لا يناقشون فكرة «العقل» نفسها، وكالتجريبيين حين لا يناقشون فرضهم الأول بأن المعرفة مستحيلة خارج حدود التجربة. وقد أسلفنا الحديث في الباب السابق عن هاتين الجماعتين من حيث رأيهما في مصدر المعرفة عند كل منهما، ونكتفي هنا بإثبات أنهما معا من «الاعتقاديين» حين يكون سؤالنا هو: هل المعرفة ممكنة؟ وما حدودها؟ لأن كلا منهما يجيب بما خلاصته: نعم، هي ممكنة وليس لها حدود تنتهي عندها. مع اختلاف كل منهما عن الأخرى فيما تراه مصدرا لتلك المعرفة.

وأما الشكاك - فعلى نقيض ذلك - إذ يرون أن المعرفة بمعنى العلم بالشيء كما هو في حقيقته الخارجية مستقلا عن ذات الشخص العارف فمستحيلة؛ إذ لا يسع الإنسان أن يعرف شيئا إلا في صلة ذلك الشيء بنفسه، ومنظورا إليه من وجهة نظره. وحتى لو فرضنا أن في وسع الإنسان أن يعرف شيئا ما كما هو في حقيقته الموضوعية، فليس في وسعه أن ينقل معرفته هذه إلى سواه؛ لأنها ستصبح جزءا من ذاته، وكل ما في مستطاعه إزاء الآخرين هو أن ينطق بكلمات، وليست الكلمات هي نفسها المعرفة الذاتية التي عرفها.

وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرق بين الفيلسوف الشاك والفيلسوف الذي يستخدم منهج الشك - مثل ديكارت - فبينما الأول يشك في إمكان حصول الإنسان على المعرفة إطلاقا، ترى الثاني يؤمن بإمكان المعرفة، وغاية ما في الأمر أن الوصول إلى المعرفة اليقينية يحتاج إلى حذر وحرص.

وسنضرب مثلا للفيلسوف الشاك «بروتاجوراس»

1

الذي أخرج كتابا أسماه «في الآلهة» بدأه هكذا: «أما عن الآلهة فلا أراني على يقين من وجودهم أو عدم وجودهم، ولا من شكلهم كيف يكون؛ ذلك لأن ثمة أشياء كثيرة تعوق المعرفة اليقينية، منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.» حتى ليقال: إنه اتهم بالإلحاد واضطهد من أجل ذلك؛ ففر من أثينا.

ويصفه لنا أفلاطون في محاورة أسماها باسمه؛ إذ أسماها «بروتاجوراس»، وفي هذه المحاورة لا يقدمه أفلاطون في الصورة الجدية اللائقة به، لكنه يعود في محاورة أخرى هي محاورة «تياتيتوس» فيناقش - جادا - الرأي المشهور عن بروتاجوراس والذي يعد محور فلسفته، وهو الرأي القائل بأن «الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة.» وهو رأي يفسرونه بأنه يعني أن كل فرد من الناس هو مقياس الأشياء جميعا، حتى إذا ما اختلف الناس على رأي ما، فليس هنالك حقيقة موضوعية يمكن الرجوع إليها لتصويب المصيب وتخطيء المخطئ.

هذا هو جوهر مذهب الشكاك جميعا، وهو أن المعرفة نسبية لا مطلقة؛ أي تكون صوابا أو خطأ بالنسبة للشخص العارف، ويستحيل أن أجد غير الإنسان نفسه ليقيس الرأي من حيث صوابه أو خطؤه. وهذه النسبية في المعرفة تكون ظاهرة في الآراء الأخلاقية بوجه خاص؛ فالخير خير بالنسبة للشخص الذي يقول عنه إنه خير، ولا يمنع أن يكون هذا الخير نفسه شرا بالنسبة لشخص آخر ومن وجهة نظر أخرى.

وإذا أخذنا بتفسير أفلاطون في محاورته المذكورة (تياتيتوس) لمبدأ بروتاجوراس هذا، كان الشبه قريبا جدا بينه وبين المذهب البراجماتي الحديث، (وقد أسلفنا شرحه في الفصل الثاني) حتى لقد قال زعيم من زعماء المذهب البراجماتي «هوشلر» عن نفسه إنه تلميذ لبروتاجوراس. ووجه التشابه هو في اعتبار صدق الرأي متوقفا على منفعة الإنسان صاحب الرأي؛ فقد تكون فكرتان صادقتين معا، لكن إحداهما أنفع من الأخرى فتكون أصدق منها بمقياس منفعتها ونتائجها، ولو أنها لا تكون أصدق منها من حيث دلالة كل منهما على واقع معين؛ مثال ذلك أنه لو كان شخص مصابا باليرقان، فإن كل شيء يبدو في عينيه أصفر، ولا معنى لقولنا له إن الأشياء في حقيقتها ليست صفراء ، وكل ما نستطيع قوله له هو أن الأشياء التي يراها هو صفراء يراها المعافون من مرض اليرقان بالألوان الفلانية. فعلى الرغم من أن ما يقوله المريض صادق؛ لأنه يرى الأشياء صفراء فعلا، وكذلك ما يقوله المعافون صادق؛ لأنهم يرون الأشياء ملونة على نحو آخر، إلا أن الأخذ برأي المعافين «أفضل»؛ لأنه «أنفع» في تيسير الحياة العملية وتسييرها.

فالمقياس في صدق الرأي ليس هو الرجوع إلى الحقيقة الموضوعية الخارجية؛ إذ إن ذلك - في رأي هذا المذهب - محال؛ فمحال أن تنظر إلى الشيء الخارجي بغير عينيك، وأن تمسه بغير جلدك، وأن تسمع صوته بغير أذنك، أو تذوق طعمه بغير لسانك. وإذن فلا مناص من استخدام حواسك أنت في إدراك الشيء؛ وبالتالي لا مناص من جعل حقيقته قائمة على إدراكك الذاتي له مهما اختلف ذلك الإدراك من إدراك الآخرين. وكثيرا ما يحدث هذا الاختلاف، فلن تقنع المريض بأن الطعام ليس مرا كما يقول هو حكما بوقع الطعام على لسانه، ولن تقنع المحموم بأن الأشباح التي يراها غير موجودة كما يظن.

وكثيرا ما يقال - خطأ - عن مبدأ بروتاجوراس هذا: - القائل بأن الإنسان مقياس الأشياء جميعا - إنه مبدأ ينتهي إلى هذه التقاليد والعقائد؛ لأن كل فرد من الناس سيذهب مذهبه دون أن تكون هنالك الحقيقة الموضوعية الواحدة التي يلتقي عندها الجميع. وواضح أن هذه النتيجة لا تلزم عن مقدمتها، بل على عكس ذلك ما قاله بروتاجوراس نفسه من أنه ما دام اتفاق الناس مستحيلا بالرجوع إلى حقيقة موضوعية لاستحالة هذا الرجوع؛ إذن فلا مناص في حياتنا العملية من الأخذ بالأنفع كما تقرره أغلبية الآراء، ولما كانت التقاليد هي التعبير عن رأي الأغلبية؛ فالأخذ بها أنفع اجتماعيا من الخروج عليها.

الفصل التاسع

حدود المعرفة الممكنة عند النقديين والوضعيين

أسلفنا لك القول في رأي المذهب النقدي متمثلا في «كانت» من أن المعرفة وسيلتها الحواس والعقل معا: الحواس تأتي إلينا بالمادة الخامة التي هي الإحساسات المختلفة من لون وصوت إلخ، والعقل بما في فطرته من قوالب أو مقولات يصب هذه الإحساسات المتفرقة ويصوغها، فإذا هي مدركة إدراكا حسيا بعد أن كانت شتيتا متفرقا من إحساسات، ثم من المدركات الحسية يكون العقل مدركاته العقلية، ومن هذه يكون أحكامه التي تصدق على العالم الخارجي صدقا مطلقا.

لكن إذا كانت هذه المعرفة الصادقة صدقا مطلقا في مستطاع الإنسان بواسطة حواسه وعقله معا، فلا بد أن تكون حدودها هي حدود الخبرة الحسية ما دامت هذه الخبرة شرطا لازما، ولما كانت الخبرة الحسية لا تتعلق إلا بظواهر الشيء كما تبدو للحواس؛ وجب ألا يجاوز علمنا هذه الظواهر؛ وإذن فالمعرفة اليقينية عن العالم الخارجي ممكنة على شرط ألا تجاوز حدود ظواهر الأشياء كما تتلقاها حواسنا.

لكن ظواهر الشيء هذه قد تكون مختلفة كل الاختلاف عن حقيقته في ذاته، ومع ذلك فلا حيلة لنا إلا الوقوف عند هذه الظواهر، أما إذا حاولنا أن نعرف «الشيء في ذاته» كما هو في العالم الخارجي المستقل عن ذوات أنفسنا، كنا كمن يحاول إدراك ما يستحيل إدراكه، ومعنى ذلك أن كل محاولة يحاولها العلم أو الدين للوصول إلى حقائق الأشياء في ذاتها هي محاولة فاشلة؛ لأنه لا يمكن للعقل أن يجاوز الظواهر الحسية لتلك الأشياء، فإن مضى العلم في محاولته الدخول في عالم الأشياء في ذاتها مع أنه عالم مجهول فوق متناول الإنسان تورط في الخطأ.

فإذا حاول العقل - مثلا - أن يحكم على العالم كله إن كان ذا نهاية محدودة أو كان لا نهائيا من حيث امتداده في المكان، على الرغم من كون العالم كله غير داخل في حدود ما يجوز للإنسان أن يبحث فيه؛ لأن العالم ككل لا يدخل في خبرة الإنسان، أقول: إن العقل إذا حاول مثل ذلك البحث وقع في تناقض وإشكال؛ لأنه سيجد نفسه مضطرا إلى رفض الفرضين معا؛ لأننا من جهة نتصور أن وراء كل حد مكاني حدا أبعد منه وهكذا إلى ما لا نهاية، مع أنه يتعذر علينا من جهة أخرى أن نتصور اللانهاية في المكان كيف تكون. كذلك لو حاول العقل أن يعرف هل كان للعالم بداية في سلسلة الزمن أم أنه كائن منذ الأزل؛ وقع في الإشكال نفسه؛ لأننا لا نحن قادرون على تصور الأزلية التي بغير ابتداء زمني كيف تكون، ولا نحن في الوقت نفسه نتصور كيف يمكن أن يكون العالم قد بدأ وجوده في لحظة زمنية معينة؛ إذ لا يسعنا سوى أن نسأل قائلين: وماذا قبل تلك اللحظة؟ وكذلك لو تساءل العقل: هل لسلسلة العلة والمعلول بداية أولى أم أنها سلسلة تمتد إلى الوراء إلى غير نهاية؟ لما أمكنه أن يجيب عن سؤاله؛ لأن العقل لا يستطيع أن يتصور أن سلسلة الأسباب والمسببات تظل ممتدة إلى غير نهاية بحيث يكون للمسبب سببه وللسبب سببه، ولهذا سببه، وهكذا إلى ما لا نهاية، وفي الوقت نفسه هو لا يتصور أيضا كيف يمكن أن تقف هذه السلسلة عند حلقة يصح أن نقول عندها: هذه هي العلة الأولى للكون، وهي نفسها غير ناشئة عن علة سابقة عليها.

هذه كلها متناقضات لا يمكن للعقل أن يتخلص منها؛ لأنه قد حاول أن يستخدم أداتي الزمان والمكان ومقولة السببية التي لم يزود بها إلا ليستخدمها في مجال خبراته الحسية، حاول أن يستخدمها في فهم المكان نفسه والزمان نفسه والسببية نفسها، كأن هذه الأشياء كائنات خارجة عنا ممتدة مع العالم حيث امتد، فعلى الرغم من أن كل ما نصادفه من تجارب لا يمكن فهمه إلا إذا تمت صياغته في عبارات دالة على مكان أو زمان كما تدل على العلاقة السببية بين أجزاء تلك التجارب، إلا أننا نخطئ ونقع في التناقض حين نتصور هذه الأشياء واقعا ونجعل منها موضوعا لمعرفة.

هكذا يجعل «كانت» للمعرفة الإنسانية الممكنة حدودا تقف عندها، وحدودها هي حدود الخبرة الحسية؛ إذ الخبرة الحسية هي المضمون الذي ينصب في مقولات العقل فتتكون بذلك معارفنا عن العالم الخارجي، وبغير هذه الخبرة الحسية تظل مقولات العقل فارغة جوفاء بغير موضوع، كما أنه لولا مقولات العقل التي فيها تجد الخبرة الحسية شكلا وصياغة لكانت عمياء بغير معنى.

وليست جماعة «النقديين» تقف وحدها في القول بضرورة أن يقف الإنسان بمعرفته عند الحدود التي لا يجوز له أن يتعداها، بل يؤيدها في ذلك فريق آخر هو فريق «الوضعيين»؛ فالمذهب الوضعي على يدي «أوجست كونت»

1

كذلك يرى وجوب الوقوف بمحاولاتنا نحو معرفة العالم الخارجي عند حدود الظواهر التي يمكن مشاهدتها وإقامة التجارب عليها واستخراج قوانينها العلمية القائمة على علاقة السببية، أما أن نجاوز الطبيعة المنظورة إلى ما وراء الطبيعة الغيبي فتلك محاولة غير مشروعة ولا غناء فيها، إن جاز للأسبقين في مرحلة الطفولة البشرية أن يحاولوها فلا يجوز ذلك لنا نحن الذين نعيش في عصر العلم ودقته؛ ذلك أن الفكر الإنساني قد اجتاز في سيره وتطوره مراحل ثلاثا: ففي المرحلة الأولى كان الإنسان يعلل الظواهر تعليلا دينيا؛ إذ يفسر كل ظاهرة بإله وراءها خاص بها، فإله للنبات - مثلا - وإله أو آلهة للنجوم وهكذا. وفي المرحلة الثانية أخذ يعلل الظواهر تعليلا ميتافيزيقيا، ومعناه أن ينسب الظواهر إلى مبادئ أولية يفرض وجودها ليشتق منها سائر الكائنات، كأن يفسر الظواهر المادية التي تقع في خبراتنا بإنكار أزلية قائمة بذاتها مجردة من المادة، فأفراد الإنسان مثلا جاءوا على غرار فكرة الإنسان، وأفراد المثلث جاءت على غرار فكرة المثلث، وأفراد الشجر جاءت على غرار فكرة الشجر وهكذا، فعلى الرغم من أن الأصول الكامنة وراء الأشياء الجزئية في هذه المرحلة الثانية من مراحل تطور الفكر لم تكن آلهة كما كانت في المرحلة الأولى، إلا أنها في كلتا المرحلتين أصول غيبية لا تقع لنا في خبرة حسية. وأما المرحلة الثالثة والأخيرة ففيها يفسر الإنسان ظواهر الطبيعة تفسيرا علميا قائما على الملاحظة الدقيقة والفروض العلمية والتجارب المحكمة، حتى إذا ما تبين لنا من هذا كله أن الظاهرة الفلانية تنشأ عن كذا وكذا من الأسباب والظروف، أثبتنا ذلك في صيغة قانون يفسر وقوعها دون حاجة إلى اللجوء إلى كائن غيبي نفسرها به.

وللمذهب الوضعي شعبة حديثة معاصرة تسمى بالمذهب الوضعي المنطقي مؤداها أن ما يجاوز حدود الخبرة الحسية ليس هو - كما ظن «أوجست كونت» وكما ظن «كانت» - متعذر المعرفة على الإنسان لقصور أدوات المعرفة عند الإنسان، وأنه لو كان مزودا بوسائل أخرى للمعرفة غير وسائله الحالية لجاز أن يكون في مستطاعه معرفة ذلك العالم الأسمى، بل هو مستحيل المعرفة بحكم تحليل اللغة نفسها التي يستخدمها من يتحدثون عن ذلك العالم الذي يجاوز حدود الخبرة الحسية الممكنة؛ إذ إن تحليل تلك العبارات تحليلا منطقيا يبين أنها عبارات بغير معنى.

ولزيادة الإيضاح أضرب هذا المثل فأقول: إنه إذا صادفتنا عبارة كهذه: «الروح حر من قيود السببية»، وسئل «النقديون» و«الوضعيون» ما رأيكم في هذه العبارة؟ لقالوا إنها تتحدث بلغة العقل (لأن السببية من المدركات العلمية القائمة على التحليل العقلي) عما هو فوق متناول العقل؛ وإذن فرفضهم لهذه العبارة قائم على أساس نفسي لا على أساس منطقي، أي أنهم يرونها عبارة ذات معنى، وكل ما في الأمر أن العقل الإنساني لا يتطاول إلى بلوغ ذلك المعنى، وربما استطاع الإنسان بلوغه بوسيلة أخرى غير العقل. أما «الوضعيون المنطقيون» فإذا سئلوا عن رأيهم في عبارة كهذه؛ رفضوها؛ لأن التحليل المنطقي لأجزائها وطريقة تركيبها يبين أنها بغير معنى، فلا يجوز قولها، لا لأنها فوق مستوى العقل، بل لأنها عبارة فارغة.

وخلاصة القول في إمكان المعرفة وحدودها هي أن «العقليين» و«التجريبيين» يرون إمكانها إلى غير حد تقف عنده، وأما «النقديون» و«الوضعيون» فيرون إمكانها بشرط أن تقف عند حدود الخبرة الإنسانية، وهنالك نفر قليل من الشكاك يرون استحالة أن يعرف الإنسان معرفة يقينية عن حقيقة العالم الذي يعيش فيه.

صفحة غير معروفة