ها أنا ذا جالس إلى جوار مكتبي، الورق أمامي والقلم في يدي، وعلى المكتب مصباح يضيء وساعة تدق، وإلى يميني كتب أربعة، وإلى يساري نافذة أنظر خلالها فأرى سماء زرقاء، ونباتا أخضر، وأسمع صوت المارة وجلبة العربات في الطريق. وهكذا كلما شخصت ببصري هنا أو هناك أو أصخت بسمعي؛ رأيت شيئا أو سمعت صوتا، فأزداد علما بما يحيط بي. ثم ها أنا ذا أسند رأسي إلى ظهر مقعدي صارفا نظري وسمعي عما يحيط بي الآن، مستعيدا بعض خبرات الماضي؛ فترتسم في ذهني صور مما قد رأيت، وترد على خاطري معلومات كثيرة مما قد عرفت. فأنا مزود بحصيلة من معارف جمعتها على مر الزمن من مشاهداتي المباشرة أو مما سمعته من الناس أو ما قرأته، أو من استدلالات استنتجتها من تلك المشاهدات والقراءات. ولو وضعت مكاني قطعة من حجر فيحيط بها ما كان يحيط بي من أشياء؛ لما أدركت أمامها ورقا أو أحست بسطحها قلما، ولا رأت مصباحا يضيء، ولا سمعت ساعة تدق، ولما كان في مستطاعها أن تستعيد شيئا من خبرات ماضيها؛ فقطعة الحجر، وإن تكن قد مرت بها أحداث كما تمر بي الأحداث، وربما تركت فيها أحداثها آثارا كما تترك أحداثي في آثارا، إلا أنني «أعرف» ما يحيط بي وما مر في خبرتي. وقطعة الحجر لا «تعرف». وسؤالنا الآن هو: ما طبيعة هذه المعرفة؟ ما سبيل الإنسان إلى اكتسابها؟ وهل في وسعه أن يعرف كل شيء؟ أم أن لمعرفته تلك حدودا تقف عندها، ولا تجاوزها؟
فنظرية المعرفة عند الفيلسوف هي رأيه في تفسير المعرفة أيا ما كانت الحقيقة المعروفة؛ فقد تكون الحقيقة المعروفة هي أن هذه الورقة التي أمامي لونها أبيض، أو أن القاهرة تقع على خط عرض 30، أو أن شعاع الضوء إذا سقط على سطح مستو لامع فإن زاوية سقوطه تساوي زاوية انعكاسه، أو أن سبعة مضروبة في ستة تساوي اثنين وأربعين. لكن هذه الحقائق على اختلافها وتنوعها كلها تشترك في كونها أجزاء مما أعرف أو مما يعرف سواي، فماذا يحدث في كل هذه الحالات على السواء بحيث يجعلها جميعا أجزاء من مجموعة واحدة هي مجموعة معارفي؟ ما هي العناصر والشروط التي تتوافر في كل حالة من هذه الحالات التي أقول عن نفسي فيها أنني «أعرف» كذا أو كيت، بغض النظر عن نوع الحقيقة الجزئية التي أعرفها في هذه الحالة أو تلك؟ وإن كانت «المعرفة» في كل حالاتها هي علاقة تقوم بين الإنسان الذي يعرف والشيء المعروف، فما تحليل هذه العلاقة وما تحديدها؟ ماذا يصلني بهذه الورقة التي أمامي حين أقول: إنني «أعرف» أنها ورقة بيضاء؟ ماذا حدث خارجي وماذا حدث داخلي بحيث عرفت عن الورقة البيضاء ما عرفت؟ إنني إذا حددت العلاقة القائمة بيني وبين الورقة البيضاء حين أعرف عنها أنها ورقة بيضاء، فربما أكون بذلك قد انتهيت إلى تحديد العلاقة التي تقوم بين الشخص العارف والشيء المعروف كائنا من كان ذلك الشخص كائنا ما كان هذا الشيء، أو ربما وجدت أن نوع العلاقة القائمة بين العارف والمعروف يختلف باختلاف أنواع المعرفة؛ فقد تكون هذه العلاقة في حالة معرفتي لحقيقة رياضية مختلفة عن العلاقة في حالة معرفتي لحقيقة طبيعية: فمن ذا يكشف لنا عن هذا كله؟ هو الفيلسوف حين يجعل «المعرفة» موضوع بحثه ...
وطبيعي أن يختلف الفلاسفة في الرأي عندما يدلون بآرائهم في طبيعة «المعرفة» ومصدرها وحدودها. وسنحاول فيما يلي من صفحات أن نوجز لك أهم المشكلات التي تنشب عند النظر في تحليل «المعرفة» وتفسيرها، وأهم الاتجاهات الفكرية إزاء تلك المشكلات.
وأهم المسائل التي يحاول الفيلسوف أن يعالجها في مشكلة المعرفة يمكن حصرها في هذه الأسئلة الثلاثة: (1)
ما طبيعة المعرفة بصفة عامة، بغض النظر عن نوع الحقيقة المعروفة؟ (2)
ما هو المصدر الذي يستقي منه الإنسان معرفته؟ (3)
هل في مستطاع الإنسان أن يتناول بمعرفته كل شيء بغير تحديد؟ أم أن لوسعه حدودا؟
وسنفرد لكل من هذه الأسئلة الثلاثة بابا نتتبع فيه الإجابات المختلفة التي أجاب بها الفلاسفة عن السؤال كل حسب اتجاهه ومذهبه.
الباب الأول
طبيعة المعرفة
صفحة غير معروفة