ومن السهل حساب زمن انتقال الضوء، إذا عرفنا سرعة الضوء والمسافة التي قطعها، غير أن المشكلة هي كيفية قياس سرعة الضوء. فلكي نقيس هذه السرعة علينا أن نرسل شعاعا ضوئيا من نقطة إلى نقطة بعيدة، ونلاحظ زمن قياسها وزمن وصولها؛ وبذلك نتأكد من زمن الانتقال. وبقسمة هذا الزمن على طول المسافة المقطوعة، نحصل على السرعة. غير أننا نحتاج، لقياس زمن القيام وزمن الوصول، إلى ساعتين، ما دامت هذه القياسات تحدث في نقطتين مكانيتين مختلفتين، ولا بد أن تكون هاتان الساعتان مضبوطتين سويا، أو متطابقتي التوقيت
synchronized ؛ أي إن من الضروري أن تكون القراءات فيهما واحدة بالنسبة إلى الأزمان الواحدة، وهذا يعني أن من الضروري أن يكون في استطاعتنا تحديد التزامن في نقاط متباعدة. وهكذا أدت بنا أبحاثنا هذه إلى أن ندور في حلقة مفرغة؛ فقد أردنا أن نقيس التزامن، ووجدنا أن علينا أن نعرف سرعة الضوء لكي نتمكن من هذا القياس، كما تبين لنا أنه لا بد لقياس سرعة الضوء من معرفة التزامن.
على أننا كنا نستطيع أن نجد مخرجا لو أمكننا قياس سرعة الضوء باستخدام ساعة واحدة؛ فبدلا من قياس زمن وصول الإشارة الضوئية في النقطة البعيدة مثلا، نستطيع أن نعكس الشعاع الضوئي بمرآة، بحيث يعود إلى النقطة الأولى؛ وبذلك يمكن قياس الفترة الزمنية التي استغرقتها رحلة الذهاب والإياب بساعة واحدة فقط؛ وعندئذ يكون علينا، لكي نحدد سرعة الضوء، أن نقسم زمن رحلة الذهاب والإياب على ضعف المسافة. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تبدو مبشرة بالخير، فإن الاختبار الدقيق كفيل بأن يكشف نواحي النقص فيها، فكيف نعلم أن الشعاع الضوئي ينتقل في رحلة الإياب بنفس سرعة انتقال في رحلة الذهاب؟ إن الرقم الذي نحصل عليه للسرعة لن يكون له معنى ما لم نكن نعرف أن هذه المساواة حقيقية، ولكن لا بد لنا، لكي نقارن السرعتين في الاتجاهين، من أن نقيس السرعة في كل اتجاه على حدة، ومثل هذا القياس يحتاج إلى ساعتين؛ وبذلك نعود إلى نفس الصعوبة السابقة.
وقد نحاول التأكد من التزامن عن طريق نقل الساعات؛ فنأخذ ساعتين مضبوطتين سويا، وتدلان على نفس الوقت ما دامتا باقيتين في نفس النقطة المكانية، ثم ننقل إحدى الساعتين إلى النقطة البعيدة، ولكن كيف نعلم أن الساعة المنقولة تظل متطابقة التوقيت خلال النقل؟ لا بد للتأكيد من تطابق التوقيت في الساعتين من أن نستخدم الإشارات الضوئية؛ وبذلك نصل إلى نفس المشكلة التي صادفناها من قبل. ولن يساعدنا على حل هذه الصعوبة أن نعيد الساعة الثانية إلى النقطة المكانية الأولى؛ لأن النتيجة التي نحصل عليها بهذه الطريقة لن تكون منطبقة إلا على حالة وجود الساعتين متجاورتين. والواقع أن هذه المشكلة شبيهة بمشكلة مقارنة قضيبي القياس في نقطتين مختلفتين، وهي المشكلة التي ناقشناها من قبل.
بل إن مشكلة الساعتين المنقولتين أعقد من مشكلة قضيبي القياس المنقولين ذاتها؛ ففي رأي أينشتين أن الساعة المنقولة تصبح بطيئة بعد رحلة الذهاب والإياب، إذا ما قورنت بالساعة التي تظل طوال الوقت في مكانها؛ ولهذا الرأي نتائج منطقية هامة؛ فهو ينطبق على جميع أنواع الساعات، وضمنها الذرات، التي تدل على فترة دورانها بلون الإشعاع الضوئي المنبعث عنها، وقد أيدت التجارب التي أجريت على ذرات سريعة التحرك تأخر دورانها على النحو الذي تنبأ به أيشتين. ولما كانت الكائنات العضوية الحية مؤلفة من ذرات، فإن أي تأخير في الحوادث الذرية التي تقع في داخله ينبغي أن ينجم عنه تأخير في عملية الشيخوخة التي يتعرض لها الكائن العضوي؛ ويترتب على ذلك أن الأشخاص الأحياء الذين يسافرون بسرعة كبيرة ينبغي أن تتأخر عملية شيخوختهم، وأنه لو ذهب واحد من شقيقين توءمين، مثلا، في رحلة كونية، لأصبح بعد عودته أصغر من توءمه الآخر (وإن كان سيصبح بدوره أكبر مما كان عندما بدأ رحلته). هذه النتيجة تتلو بمنطق لا جدال فيه من نظرية أينشتين التي ترتكز على أدلة قوية.
فإذا عدنا إلى مشكلة التزامن، لوصلنا إلى النتيجة القائلة إن الساعات المنقولة لا يمكن أن تستخدم في تعريف علاقة «الحدوث في نفس الوقت»، وعلينا أن نبحث عن إشارات مناسبة للوصول إلى هذا التعريف. ولما كانت الإشارات الضوئية على الرغم من سرعتها الشديدة، ذات سرعة محدودة، فإن مما يساعدنا أن نجد في متناول أيدينا إشارات أسرع من الضوء؛ ذلك لأننا عندما نريد قياس سرعة الصوت، نستطيع استخدام الإشارات الضوئية في مقارنة الزمن؛ لأن سرعة الضوء أكبر جدا من سرعة الصوت؛ وبذلك يكون الخطأ الذي نقع فيه ضئيلا من الوجهة العددية إلى حد يمكن تجاهله. وبالمثل، فلو كانت لدينا إشارة أسرع مليون مرة من الضوء، لأمكننا قياس سرعة الضوء بدقة كافية، وذلك بتجاهل زمن إرسال الإشارة الأسرع. على أن هذه نقطة أخرى تختلف فيها فيزياء أينشتين عن الفيزياء الكلاسيكية؛ ففي رأي أينشتين أنه لا توجد إشارة أسرع من الضوء، وهذا لا يعني فقط أننا لا نعرف إشارة أسرع منه، وإنما يرى أينشتين أن القضية القائلة إن الضوء أسرع الإشارات قانون طبيعي، يمكن أن يطلق عليه اسم مبدأ الطابع المحدود لسرعة الضوء، وقد قدم أينشتين أدلة قاطعة على هذا المبدأ، وليس لدينا من أسباب الشك فيه أكثر مما لدينا من أسباب الشك في قانون بقاء الطاقة.
فإذا ما جمعنا بين مبدأ أينشتين وبين التحليل السابق لمعنى التعاقب الزمني، لأدى بنا ذلك إلى نتائج غريبة بشأن التزامن. فلنفرض أن إشارة ضوئية أرسلت في الساعة 12 إلى كوكب المريخ وانعكست منه، وستعود هذه الإشارة بعد عشرين دقيقة مثلا، فأي زمن ينبغي أن نحدده للحظة وصول الإشارة إلى كوكب المريخ؟ إن تحديد هذا الزمن بأنه 12:10 يعني افتراض تساوي سرعة الضوء في الذهاب والإياب، غير أننا رأينا من قبل أنه لا يوجد سبب يدعو إلى افتراض هذا التساوي. والواقع أننا نستطيع تحديد لحظة وصول الإشارة الضوئية إلى المريخ بأي وقت يقع بين 12:00 و12:20؛ ففي استطاعتنا أن نقول مثلا إن الإشارة وصلت في الساعة 12:05، ويكون معنى ذلك أنها قطعت رحلة الذهاب في خمس دقائق، ورحلة العودة في خمس عشرة دقيقة، ولكن الأمر الذي يؤدي تعريفنا للتعاقب الزمني إلى استبعاده، هو القول بأن الضوء وصل إلى المريخ الساعة 11:55؛ لأن معنى تحديد هذا الوقت هو أن الإشارة وصلت قبل وقت مغادرتها؛ وبذلك تكون النتيجة سابقة على السبب، ولكنا ما دمنا نختار لوقت وصول الإشارة إلى المريخ رقما يقع في الفترة الواقعة بين 12:00 و12:20، فإننا نكون بذلك ملتزمين لشرط الترتيب الزمني. ولا بد أن يستبعد حدوث تأثير سببي متبادل بين أي حادث يقع في هذه الفترة الزمنية في موقعنا نحن، وبين الحادث الذي يقع في المريخ، والذي يدل عليه وصول الإشارة الضوئية. فلما كان التزامن يعني استبعاد إمكان وجود أي تأثير سببي متبادل، فإن أي حادث يقع خلال هذه الفترة الزمنية في مكاننا يمكن أن يوصف بأنه متزامن مع وصول الشعاع الضوئي إلى المريخ. وهذا هو ما يسميه أينشتين بنسبية التزامن.
وهكذا نرى أن التعريف السببي للترتيب الزمني يؤدي إلى عدم التحدد فيما يتعلق بالمقارنة الزمنية بين الحوادث التي تقع في نقاط متباعدة، وهو يؤدي إلى ذلك نظرا إلى الطابع المحدود لسرعة الضوء. ولا يمكن أن يوجد زمان مطلق، أي تزامن لا شك ولا غموض فيه، إلا في عالم لا يكون فيه لسرعة الإشارات حد أعلى، ولكن لما كانت سرعة الانتقال السببي محدودة في عالمنا هذا، فلا يمكن أن يكون هناك تزامن مطلق. والواقع أن النظرية السببية في الزمان تفسر معنى التعاقب الزمني والتزامن على نحو من شأنه أن يكون التفسير قابلا للانطباق على عالم الفيزياء الكلاسيكية مثلما ينطبق على عالمنا، الذي تكون فيه سرعة الانتقال السببي خاضعة لحد أعلى، ولا يمكن فيه تعريف التزامن بطريقة قاطعة لا غموض فيها.
وبهذه النتائج نكون قد وصلنا إلى حد لمشكلة الزمان مماثل لذلك الذي وصلنا إليه لمشكلة المكان؛ فالزمان، كالمكان، ليس كيانا مثاليا أو فكريا له وجود أفلاطوني يدرك بنوع من التبصر، وليس نوعا ذاتيا من الترتيب يفرضه الملاحظ البشري على العالم، كما اعتقد «كانت»، بل إن في استطاعة الذهن البشري أن يدرك نظما مختلفة للترتيب الزمني، يعد الزمان الكلاسيكي نظاما واحدا منها، وزمان أينشتين، بما يفرضه من حدود على الانتقال السببي، نظاما آخر. أما اختيار الترتيب الزمني الذي ينطبق على عالمنا، من بين هذه الكثرة من النظم الممكنة، فهو مسألة تجريبية؛ فالترتيب الزمني يمثل صفة عامة للكون الذي نعيش فيه، والزمان حقيقي بنفس المعنى الذي يكون به المكان حقيقيا، ومعرفتنا للزمان ليست أولية، وإنما هي نتيجة ملاحظة؛ أي إن النتيجة التي تؤدي إليها فلسفة الزمان هي أن تحديد التركيب الفعلي للزمان إنما هو عمل من أعمال علم الفيزياء.
وعلى الرغم من أن نسبية التزامن تبدو فكرة تدعو إلى الاستغراب، فإنها منطقية ويمكن تخيلها عينيا. وإن الغرابة في آراء أينشتين لتختفي في عالم تصبح فيه قيود الانتقال السببي أكثر وضوحا. فإذا ما أمكن في وقت ما إقامة تليفون لاسلكي مع المريخ، وكان علينا أن ننتظر عشرين دقيقة للإجابة على أي سؤال نوجهه بالتليفون، لاعتدنا عندئذ فكرة نسبية التزامن، ونظرنا إليها على أنها طبيعية تماما، مثلما أننا لا نجد اليوم أية غرابة في اختلاف معايير التوقيت في مختلف المناطق الزمنية التي ينقسم إليها سطح الأرض. وإذا ما أمكن السفر بين الكواكب يوما ما،
صفحة غير معروفة