من السهل أن نرى أن الموقف يظل غير مقطوع به، تماما كما كان من قبل؛ فقد تشككنا في مسار الأشعة الضوئية، واختبرناه بقياسات استخدمنا فيها قضبانا صلبة، غير أن قياس مسافة ما لا يكون أمرا موثوقا منه، إلا إذا لم يكن طول القضيب يتغير حين ينقل، ولكننا نستطيع أن نفترض أن القضيب الذي نقل على طول مسار الشعاع الضوئي قد تمدد بفعل قوة مجهولة، وعندئذ يكون عدد القضبان التي يمكن وضعها على طول المسار أقل، وتكون القيمة العددية التي نصل إليها بشأن هذه المسافة أقل بدورها. وهكذا نتصور أن مسار الشعاع الضوئي أقصر من المسارات الأخرى، على حين أنه أطول في الواقع. وإذن فالبحث فيما إذا كان المستقيم أقصر مسافة يتوقف على مسلك قضبان القياس، فكيف إذن نعلم إن كان القضيب الصلب صلبا بحق؛ أي إنه لا يتمدد ولا ينكمش؟
في هذه الحالة ننقل القضيب الصلب من مكان إلى مكان بعيد، فهل يظل على طوله السابق؟ إن علينا، لكي نختبر طوله، أن نستخدم قضيبا ثانيا. ولنفرض أن طول القضيبين كان متساويا في المكان الأول عندما وضع أحدهما فوق الآخر، ثم نقل أحدهما إلى مكان مختلف، فهل يظل طول القضيبين متساويا؟ إننا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال. فلكي نقارن بين القضيبين، ينبغي إما أن ننقل القضيب الأول ثانية إلى المكان الأول، أو القضيب الثاني إلى المكان الثاني، ما دامت المقارنة بين الطولين لا تكون ممكنة إلا عندما يكون أحد القضيبين فوق الآخر. وعلى هذا النحو نجد أن طولهما متساو أيضا عندما يكونان معا في المكان الثاني، ولكن لا سبيل إلى معرفة ما إذا كان القضيبان متساويين عندما يكونان في مكانين مختلفين.
وقد يعترض على ذلك بأن هناك وسائل أخرى للمقارنة. مثال ذلك أنه إذا كان طول القضيب يتغير عند نقله، فلا بد أن نكتشف التغير إذا قارنا القضيب بطول أذرعتنا، ولكنا نستطيع أن نفترض، من أجل استبعاد هذا الاعتراض، أن القوى التي تؤدي إلى تمدد الأجسام المنقولة أو انكماشها قوى شاملة؛ أي إن كل الأجسام المادية، وضمنها الأجسام البشرية، يتغير طولها على نفس النحو. ومن الواضح أن أي تغير كهذا لا يمكن ملاحظته.
إن المشكلة موضوع البحث هي مشكلة التطابق
congruence ؛ فينبغي أن ندرك أنه لا سبيل إلى اختبار التطابق والتحقق منه. فلنفرض أن كل الأشياء المادية، وضمنها أجسامنا، قد تضاعف حجمها عشر مرات أثناء نومنا في الليل؛ فعندما نستيقظ في الصباح لا نكون في وضع يسمح لنا باختبار هذا الافتراض، بل إننا لن نتمكن أبدا من التحقق منه؛ فنتائج هذا التغير لا يمكن ملاحظتها، بناء على الشروط الموضوعة. ومن هنا فليس في وسعنا الاهتداء إلى أدلة تؤيدها أو تفندها، فمن الجائز أننا جميعا أطول عشر مرات مما كنا بالأمس.
وليس هناك إلا مخرج واحد من هذه الإشكالات، هو أن ننظر إلى مسألة التطابق، لا على أنها مسألة ملاحظة، بل على أنها مسألة تعريف؛ فينبغي ألا نقول «إن القضيبين الموضوعين في مكانين مختلفين هما بالفعل متساويان»، وإنما الواجب أن تقول إننا نسميهما قضيبين متساويين، ونقل القضبان الصلبة هو الذي يحدد تعريف التطابق. هذا التفسير يؤدي إلى استبعاد المشكلات غير المعقولة التي ذكرت من قبل؛ إذ لا يعود السؤال عما إذا كنا اليوم أطول مما كنا بالأمس عشر مرات سؤالا ذا معنى؛ فنحن نسمي طولنا اليوم مساويا لطولنا بالأمس، ولا معنى للسؤال عما إذا كان هو في الواقع نفس الطول. ويسمى هذا النوع من التعريفات ب «التعريفات الإحداثية
coordinative definitions »، وهي تربط (أو تكون إحداثيا) بين موضوع فيزيائي كالقضيب الصلب، وبين تصور «الطول المتساوي»؛ وبذلك تحدد مفهومه، وهذه الصفة هي التي تفسر الاسم.
وعلى ذلك فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق؛ فإذا غيرنا التعريف الإحداثي للتطابق نتجت هندسة جديدة. هذه الحقيقة يطلق عليها اسم: نسبية الهندسة. ولكي نوضح معنى هذه النتيجة، فلنفرض مرة أخرى أن قياس جاوس أثبت وجود انحراف لمجموع الزوايا عن 180 درجة، وأن القياسات التي تمت بقضبان صلبة أيدت أن الأشعة الضوئية هي أقصر مسافة، ومع ذلك فلن يظل شيء يحول بيننا وبين النظر إلى هندسة المكان على أنها إقليدية. فلنقل بعد ذلك إن الأشعة الضوئية منحنية، وإن القضبان تتمدد، وعندئذ نستطيع أن نحسب مقدار هذه الانحرافات على نحو من شأنه أن يؤدي التطابق «المصحح» إلى هندسة إقليدية. فمن الممكن النظر إلى الانحرافات على أنها نتيجة لقوى تتفاوت من مكان إلى آخر، ولكنها متماثلة بالنسبة إلى جميع الأجسام والأشعة الضوئية، وهي بالتالي قوى كونية؛ أي إن كل ما يعنيه افتراض هذه القوى هو تغير في التعريف الإحداثي للتطابق. هذه الفكرة تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكل من هذه الأوصاف صحيح، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تصاغ بها فحسب.
هذه النتيجة تبدو لأول وهلة كأنها تأييد لنظرية «كانت» في المكان. فإذا أمكن تطبيق كل هندسة على العالم الفيزيائي، فيبدو عندئذ أن الهندسة لا تعبر عن صفة في العالم الفيزيائي، وما هي إلا إضافة ذاتية صادرة عن الملاحظ البشري، الذي يضع على هذا النحو نظاما بين موضوعات إدراكه الحسى. وقد استخدم الكانتيون الجدد هذه الحجة في الدفاع عن فلسفتهم، كما أنها استخدمت في موقف فلسفي يسمى ب «المذهب الاصطلاحي
conventionalism »، استحدثه الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه
صفحة غير معروفة