1
وعلى الرغم من هذه العيوب الفنية، فإن اليونانيين قد وضعوا أسس نظرية الأعداد، وأدركوا أهمية الأعداد الأولية، وكشفوا وجود الأعداد الصماء؛ أي الأعداد التي لا يمكن كتابتها على أنها معامل لعددين صحيحين. ولقد كان أعظم ما أسهموا به في ميدان الرياضيات هو بناء الهندسة على أساس نظام البديهيات، وهو البناء الذي توصل إليه إقليدس، ذلك الرياضي اليوناني الأصل، الذي جعل من الإسكندرية مركزا للحضارة اليونانية في حوالي عام 300ق.م، وكان نظام إقليدس يعد على الدوام دليلا قاطعا على قدرة الاستدلال الاستنباطي .
ولقد كان نجاح اليونانيين في ميدان العلوم التجريبية مقتصرا على تلك العلوم التي يمكن استخدام المناهج الرياضية فيها؛ فقد كانت نظرية بطليموس، وهو عالم سكندري عاش في القرن الثاني الميلادي، هي أعظم تنظيم شامل لعلم الفلك اليوناني؛ إذ أثبت بطليموس، مستعينا بنتائج سابقة للملاحظة الفلكية والاستدلال الهندسي، أن الأرض كروية الشكل. ومع ذلك فقد كان يرى أن من المؤكد أن الأرض ساكنة، وأن قبة السماء تتحرك حولها، حاملة معها النجوم والشمس والقمر، وهناك أيضا حركات في داخل هذه القبة؛ فالشمس والقمر ليسا مثبتين في موقع محدد بين النجوم، وإنما يتحركان في مسارات دائرية خاصة بهما، والكواكب ترسم أقواسا ذات أشكال غريبة، أدرك بطليموس أنها نتيجة لحركتين دائريتين تتمان في نفس الوقت، مثل مسار شخص جالس في أرجوحة تدور في داخل أرجوحة أخرى أكبر منها. وما زال نظام بطليموس الفلكي، الذي يعرف أيضا باسم نظام مركزية الأرض
geocentric system ، يستخدم اليوم في الإجابة على جميع الأسئلة الفلكية التي تقتصر على الإشارة إلى الجانب الذي يرى من الأرض في النجوم، ولا سيما الأسئلة المتعلقة بالملاحة. ويدل إمكان تطبيق هذا النظام عمليا على هذا النحو على أن في نظام بطليموس قدرا كبيرا من الصواب.
على أن الفكرة القائلة إن الشمس ساكنة والأرض والكواكب تتحرك حولها، لم تكن مجهولة لليونانيين؛ فقد اقترح أرسطرخس الساموسي
Aristarchus of Samos
النظام المتمركز حول الشمس في حوالي عام 200ق.م، ولكنه لم يتمكن من إقناع معاصريه بصوابه، ولم يكن في استطاعة الفلكيين اليونانيين أن يأخذوا برأي أرسطرخس نظرا إلى أن علم الميكانيكا كان في ذلك الحين في حالة تأخر. مثال ذلك أن بطليموس اعترض على أرسطرخس بالقول إن الأرض ينبغي أن تكون ساكنة لأنها لو لم تكن كذلك لما سقط الحجر الذي يقع على الأرض في خط رأسي، ولظلت الطيور في الهواء متخلفة عن الأرض المتحركة، وهبطت إلى جزء مختلف من سطح الأرض.
ولم تجر تجربة لإثبات خطأ بطليموس إلا في القرن السابع عشر؛ فقد أجرى الأب جاسندي
Gassendi ، وهو عالم وفيلسوف فرنسي كان معاصرا لديكارت وخصما له، تجربة على سفينة متحركة؛ فأسقط حجرا من قمة الصاري، ورأى أنه وصل إلى أسفل الصاري تماما. ولو كانت ميكانيكا بطليموس صحيحة، لوجب أن يتخلف الحجر عن حركة السفينة، وأن يصل إلى سطح السفينة عند نقطة تقع في اتجاه مؤخرتها. وهكذا أيد جاسندي قانون جاليليو، الذي كان قد اكتشف قبل ذلك بوقت قصير، والذي يقول إن الحجر الهابط يحمل في ذاته حركة السفينة ويحتفظ بها وهو يسقط.
فلماذا لم يقم بطليموس بتجربة جاسندي؟ ذلك لأن فكرة التجربة العلمية، متميزة من القياس والملاحظة المجردة، لم تكن مألوفة لليونانيين. إن التجربة إنما هي سؤال يوجه إلى الطبيعة، وباستخدام الأدوات المناسبة يحدث العالم واقعة فيزيائية تؤدي نتيجتها إلى الإجابة ب «نعم» أو «لا» على هذا السؤال. وطالما كنا نعتمد على ملاحظة الحوادث التي لا نتدخل نحن فيها، فإن الأحداث القابلة للملاحظة تكون عادة نتاجا لعوامل تبلغ من الكثرة حدا لا نستطيع معه تحديد الدور الذي يسهم به كل عامل منفرد في النتيجة الكلية. أما التجربة العلمية فإنها تعزل العوامل بعضها عن البعض، ويؤدي تدخل الإنسان إلى إيجاد ظروف يتبدى فيها تأثير عامل واحد دون إقحام العوامل الأخرى فيه؛ وبذلك يكشف عن العملية الداخلية التي تتم في الحوادث المعقدة التي تحدث دون تدخل الإنسان. مثال ذلك أن سقوط ورقة من شجرة هو حادث معقد تتنافس فيها قوى الجاذبية مع القوى الهوائية الدنيامية الناتجة عن حركة الهواء تحت الورقة المنزلقة، التي تتحرك إلى أسفل في اتجاه متعرج؛ فإذا استبعدنا، من جهة، تأثير الهواء بأن نجعل الورقة تسقط في ساحة مفرغة من الهواء، لرأينا أن سقوطها هو، من حيث الجاذبية، مماثل لسقط الحجر؛ وإذا قمنا من جهة أخرى بإمرار تيار هوائي على سطح ثابت عبر نفق للهواء، لكشف لنا عن قوانين حركة الهواء. وهكذا فإن الحادث الطبيعي المعقد يحلل إلى عناصره المكونة له عن طريق القيام بتجارب مرسومة مخططة؛ ولهذا السبب أصبحت التجربة أداة للعلم الحديث. أما عدم التجاء اليونانيين إلى التجارب على أي نطاق واسع فيدل على مدى صعوبة التحول من الاستدلال العقلي إلى العلم التجريبي.
صفحة غير معروفة