self-explanatory .
والآن ينبغي أن نناقش مسألة الطريقة التي يمكننا بها أن نعرف إن كان اللزوم العام صحيحا؛ فبالنسبة إلى اللزوم التحليلي يكون الجواب على هذا السؤال يسيرا؛ إذ إن اللزوم «كل أعزب غير متزوج» يتلو من معنى لفظ «أعزب». أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ ذلك لأن معنى لفظي «معدن» و«ساخن» لا ينطوي على أية إشارة إلى «التمدد»؛ ولذا لم يكن من الممكن التحقق من هذا اللزوم إلا بالملاحظة؛ فقد اتضح لنا في جميع تجاربنا السابقة أن المعادن تتمدد عندما تسخن؛ لذلك نشعر بأن من حقنا أن نقول بهذا اللزوم العام.
غير أن هذا التفسير يبدو عاجزا إزاء أمثلة اللزوم الهندسي. فهل عرفنا من التجارب الماضية أن مجموع زوايا المثلث 180 درجة؟ إن بعض التفكير في المنهج الهندسي كفيل باستبعاد الجواب بالإيجاب؛ فنحن نعلم أن لدى الرياضي برهانا على النظرية المتعلقة بمجموع زوايا المثلث. في هذا البرهان يرسم خطوطا على الورق، ويوضح لنا علاقات معينة بالنسبة إلى الشكل المرسوم، ولكنه لا يقيس الزوايا؛ أي إنه يلجأ إلى حقائق عامة معينة تسمى بالبديهيات ، يستخلص منها النظرية بطريقة منطقية. مثل ذلك أنه يشير إلى البديهية القائلة: إنه لم كان لدينا خط مستقيم ونقطة خارجة ، فهناك خط واحد، وواحد فقط، يمكن أن يرسم موازيا للخط الأول من هذه النقطة. هذه البديهية تظهر في الشكل الذي يرسمه، ولكنه لا يثبتها بقياسات، ولا يقيس المسافات بين الخطوط لكي يبين أن المستقيمين متوازيان.
بل إنه قد يعترف بأن الشكل الذي يرسمه رديء، ولا يقدم مثلا جيدا لمثلث ومتوازيات، ولكنه يظل يؤكد أن برهانه دقيق على الرغم من ذلك؛ فهو يقول: إن المعرفة الهندسية تنبع من الذهن، لا من الملاحظة. أما المثلثات المرسومة على الورق فقد تفيد في إيضاح ما نتحدث عنه، ولكنها لا تمدنا ببرهان؛ إذ إن البرهان مسألة استدلال، لا ملاحظة. ولكي نقوم باستدلال كهذا نتصور العلامات الهندسية، «ونرى» - بمعنى «أرفع» لهذه الكلمة - أن النتيجة الهندسية محتومة؛ وبالتالي فهي صحيحة بالمعنى الدقيق. فالحقيقة الهندسية نتاج للعقل، وهذا يجعلها أرفع من الحقيقة التجريبية، التي يهتدى إليها عن طريق التعميم من عدد كبير من الأمثلة.
ونتيجة هذا التحليل هي أن العقل يبدو قادرا على كشف الخصائص العامة للموضوعات المادية. وتلك في الواقع نتيجة تدعو إلى الاستغراب؛ إذ لن تكون هناك مشكلة إن كانت حقيقة العقل مقتصرة على الحقيقة التحليلية؛ فمن الممكن أن يعرف العقل وحده أن الأعزب غير متزوج، ولكن لما كانت هذه العبارة فارغة، فإنها لا تثير مشكلات فلسفية. أما القضايا التركيبية فأمرها مختلف؛ إذ كيف يتسنى للعقل كشف الحقيقة التركيبية؟
على هذه الصورة وجه «كانت» هذا السؤال، بعدما يربو على ألفي عام من عصر أفلاطون. ولم يكن أفلاطون قد صاغ السؤال بهذا القدر من الوضوح، ولكن لا بد أنه أدرك المشكلة بطريقة مماثلة لهذه. ونحن نستدل على هذا التفسير من الإجابة التي قدمها للسؤال؛ أي من الطريقة التي تكلم بها عن أصل المعرفة الهندسية.
فأفلاطون ينبئنا أن هناك، إلى جانب الأشياء المادية، نوعا ثانيا من الأشياء يسميه ب «المثل»
ldeas ؛ فهناك مثال المثلث، ومثال المتوازي، والدائرة، إلى جانب الأشكال المناظرة لها، المرسومة على الورق. والمثل تعلو على الأشياء المادية؛ إذ تتبدى فيها خصائص هذه الأشياء على النحو الكامل ، بحيث إن ما نعرفه عن الموضوعات المادية بالتطلع إلى مثلها يزيد على ما نعرفه بالتطلع إلى هذه الموضوعات ذاتها. ويتضح ما يعنيه أفلاطون، مرة أخرى، بالإشارة إلى الأشكال الهندسية؛ فللخطوط المستقيمة التي نرسمها سمك معين؛ ومن هنا لم تكن خطوطا بالمعنى الذي يقصده عالم الهندسة، الذي لا يكون لخطوطه سمك. وأركان المثلث الذي نرسمه في التراب هي في الواقع مساحات صغيرة؛ وبالتالي فهي ليست نقطا مثالية. وقد أدى التباين بين معاني المفاهيم الهندسية وبين تحققها من خلال الموضوعات المادية، أدى بأفلاطون إلى الاعتقاد بأن من الضروري أن تكون هناك موضوعات مثالية أو عناصر مثالية تمثل هذه المعاني. وهكذا وصل أفلاطون إلى عالم ذي حقيقة أعلى من عالم الأشياء المادية الذي نعرفه، ووصف هذه الأخيرة بأنها تشارك في الأشياء المثالية على نحو من شأنه أن يبين خصائص الأشياء المثالية بطريقة غير كاملة.
غير أن الموضوعات الرياضية ليست هي الأشياء الوحيدة التي توجد بصورة مثالية؛ ففي رأي أفلاطون أن هناك مثلا من شتى الأنواع، كمثال القط، والإنسان، أو البيت. وبالاختصار، فكل اسم يدل على فئة (أي اسم لنوع من الموضوعات، أو اسم كلي)، يدل على وجود مثال مناظر، وتتميز مثل الأشياء الأخرى، شأنها شأن المثل الرياضية، بأنها كاملة، بالقياس إلى نسخها الناقصة في العالم الواقعي. وهكذا فإن مثال القط تتبدى فيه كل الصفات «القططية» بصورة كاملة، ومثال الرياضي يسمو على كل رياضي فعلي من جميع الأوجه؛ فهو مثلا يتميز بقوام جسمي مثالي. وبهذه المناسبة فإن كلمة «مثالي»، بالمعنى الذي نستخدمه حاليا لهذه الكلمة، مستمدة من نظرية أفلاطون.
وعلى الرغم مما قد تبدو عليه نظرية المثل من غرابة في نظر الذهن الحديث، فينبغي أن ننظر إليها، في إطار المعرفة المتوافرة في عصر أفلاطون، على أنها محاولة للتفسير؛ أي محاولة لتفسير الطبيعة التي تبدو تركيبية للحقيقة الرياضية. فنحن نرى خواص الأشياء الفكرية (أو المثالية ) بواسطة أفعال رؤية؛ وبذلك نكتسب معرفة بالأشياء الحقيقية. وهكذا تعد رؤية الأفكار (المثل) مصدرا للمعرفة يشبه ملاحظة الموضوعات الواقعية، ولكنه أرفع منه؛ لأنه يكشف من خصائص ضرورية لموضوعاته. فالملاحظة الحسية لا تستطيع أن تنبئنا بحقيقة معصومة من الخطأ، أما الرؤية فتستطيع. ونحن نرى «بعين العقل» أنه لا يمكن، بالنسبة إلى مستقيم معين، أن نرسم من نقطة خارجة إلا مستقيما واحدا موازيا له. ولما كانت هذه المصادرة
صفحة غير معروفة