شهِدْتُ لقد أقْوَتْ مغانيكُمُ بعْدي ... ومحَّتْ كما محّتْ وشائِعُ من بُرْدِ
حتى انتهيتُ الى قوله:
كريمٌ متى أمدَحْهُ أمْدَحْه والوَرى ... معي ومتى ما لُمْتُه، لُمْتُه وحدي
فقال: هل تعرِفُ في هذا البيت عيبًا؟ قلت: نعم، قابلَ المدحَ باللّوم فلم يوفِ التطبيقَ حقَّهُ إذ حقُّ المدحِ أن يقابَلَ بالهجو والذّمِ، فقال: غيرَ هذا أردتُ، قلت: ما أعرفُ، قال: أحدُ ما يُحتاجُ إليه في الشعرِ سلامةُ حروفِ اللفظِ من الثِقل، وهذا التكريرُ في أمدحْهُ، أمدحْه مع الجمعِ بين الحاء والهء مرتين، وهُما من حُروف الحلْق، خارِجٌ عن حد الاعتدال، نافِر كلَّ النِفار. قلت: هذا لا يدركُه إلا من انقادَتْ وجوهُ العِلْمِ له وأنهضَهُ الى ذُراها طبعُه.
قيلَ: وسمعَ الأصمعي قولَ الأعشى:
كأنّ مِشيَتَها من بيتِ جارَتِها ... مرُّ السّحابةِ لا ريْثٌ ولا عجَلُ
فقال: لقد جعلها خَرّاجةً ولاّجَةً، هلاّ قال كما قال الآخر:
ويُكرِمُها جاراتُها فيَزُرْنَها ... وتعتلُّ عن إتيانِهنَّ فتُعذَرُ
وأقول: إنّ نقدَ الشعر صناعةٌ لا يعرفها حقَّ معرفتِها إلا مَنْ قد دُفع الى مضائِقِ القريض وتجرّع غُصَصَ اعتياصِه عليه، وعرَفَ كيف يتقحّمُ مهاويَهُ ويترامى إليه. قال أبو العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد: قال لي عُمارةُ بن عقيل بن بلال بن جرير قال لي مروان بن أبي حفصة: إنّ المأمونَ لا بصيرةَ له بالشعرِ، قلت له: وكيفَ ذاك، وإنّا لَنُنشدُهُ صدْرَ البيت فيسبقُنا الى عجُزِه ولم يكن قد سمِعَه من قبل؟ قال: إنّي قلت فيه شِعرًا جيدًا فلم يهتزَّ له، قال: فقلت له: وما الذي قلت فيه؟ فأنشدني:
أضْحى إمامُ الهُدى المأمونُ مُشتَغِلًا ... بالدينِ والناسُ بالدنيا مشاغيلُ
قال: فقلتُ له: ما صنعتَ شيئًا، وما زِدْتَ على أنْ جعلتَه عجوزًا في محرابها بيدِها سُبْحَتُها، فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان الخليفةُ مشغولًا عنها، وهو المطوَّقُ أمرَها؟ هلاّ قُلتَ كما قال عمُّك جرير في عبدِ العزيز بن الوليد بن عبد الملك:
فلا هُوَ في الدُنيا مُضيعٌ نصيبَهُ ... ولا عَرَض الدنيا عن الدينِ شاغِلُهْ
وهذا نقْدٌ حسَن.
وحكى أبو عثمان الجاحظ قال: طلبتُ علمَ الشعر عند الأصمعيّ فوجدتُه لا يعرفُ إلا غريبَه، فرجعتُ الى الأخفش فوجدته لا يتقنُ إلا إعرابَه، فعطفتُ على أبي عبيدة فرأيته لا ينفُذُ إلا فيما اتّصل بالأخبار وتعلّق بالأيام والأنساب، فلمْ أظفَر بما أردتُ، إلا عند أدباء الكتاب؛ كالحسَن بن وهْب ومحمد بن عبد الملك الزّيات، فلله درُّ أبي عثمان، لقد غاص على سرِّ الشّعر، واستخرجَ أدقَّ من السِّحر، والشاعرُ يُحكَم له على الشاعر ببَيت واحد، والبيتُ يُفضَّل على البيت بكلمة واحدة، ألا ترى الى قول امرئ القيس:
وقوفًا بها صَحْبي عليَّ مطيَّهمْ ... يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتَجمَّلِ
وقول طرَفة البيت بجملته، ثم ختمه بقوله: وتجَلَّدِ، وهما شاعران مُفْلِقان، وقدّرنا أنهما قد تواردا، ولم نحْكُم على طرَفَة بالسّرِقة، ودُعينا الى الحُكم بينهُما، وتفضيل أحد البيتَيْن على الآخر، وليس فيهما من الاختلاف سوى التجمّل والتجلُّد. فمن النَقْدِ الحسَن تفضيلُ التجمُّل على التجلّد، والحكم بالبيت لصاحبِه، لأنّ التجمل إبداءُ تحسُّنٍ عن قوة ومادة متصلة منَ المَكِنَة. والتجلّد إبداُ تحسُّنٍ عن ضعفٍ، ومادةٍ متصلةٍ من العجْزِ، وبين اللفظتين بوْنٌ بَعيد. ولو دُعينا الى الحُكم بين لَقيط بن زُرارة ومن حَذا حَذوَه في قوله:
فتىً يشتري حُسْنَ الثّناءِ بمالِه ... ليَبْقى وما أبقيتَ مثلَ المَحامِدِ
وقول الحكميّ:
فتىً يشْتري حُسْنَ الثّناءِ بمالِه ... ويعلمُ أنّ الدائراتِ تَدورُ
وقول الآخر:
فتىً يشتري حسنَ الثناءِ بمالِه ... إذا السَّنةُ الشهْباءُ قلّ قِطارُها
1 / 40