هذا هو المُمكن في التّوارد، واتفاق الخواطر. وحكى القيرواني قال: ثم أمرنا للوقت أن نعملَ فيه أيضًا على حرف الذال فعملنا على القاعدةِ الأولى، فكان ما عملتُه أنا:
هلْ لكَ في موزٍ إذا ... ذُقناهُ قُلنا حبّذا
فيه شَرابٌ وغِذا ... يُريكَ كالماء القَذا
لو ماتَ مَنْ تلذَّذا ... بهِ لَقيلَ ذا بِذا
وكان ما عملَهُ ابنُ رشيق:
للهِ موزٌ لذيذُ ... يُعيذُهُ المستَعيذُ
فواكِهٌ وشَرابٌ ... بهِ يُفيقُ الوقيذُ
يُرى قذى العينِ فيه ... كما يُريها النبيذُ
الشعرُ ضعيفٌ جدًا، وما أرَدْنا بإيراده إلا تمثيل الموارِد كيف تكون، وفي هذا التمثيل كفاية.
٣١ - وأما النقدُ فإنّه في الشعر يدلّ على فِطْنَة العالم وضياء حِسّه وتوقُّد ذَكائه. وللعُلماء في ذلك أقوالٌ حسنة وكلامٌ مفيد، وهو كثيرٌ غزير، وإنما نذكرُ منه اليسيرَ ونجعله دليلًا على الكثير.
قِيل: تنازعَ علقمةُ بن عَبَدة وامرؤ القيس في الشعر وأيُّهُما أشْعَر من الآخر، فقال علقمة: قد رضيتُ بزوجتكَ أمِّ جُنْدَبٍ حَكَمًا بيني وبينَك، فقالت أمّ جُندب: قولا شعرًا وصِفا فيه فرَسَيْكُما على قافيةٍ واحدة ورَويّ واحد. فقال امرؤ القيس:
خليليّ مُرّا بي على أمِّ جُندَبِ ... نُقَضِّ لُباناتِ الفؤادِ المُعذَّبِ
وقال علقمة:
ذهبتَ من الهجرانِ في غيرِ مَذْهَبِ ... ولم يكُ حقًا طولُ هذا التّجَنُّبِ
وأنشداها القصيدتَين فقالت لامرئ القيس: علقمةُ أشعر منك، قال لها: وكيف ذاك؟ فقالت: لأنك قلت:
فللزّجْرِ أُلهوبٌ وللساقِ دِرّةٌ ... وللسّوْطِ منهُ وقْعُ أخرجَ مُهْذِبِ
الأخرج: الظليمُ وهو ذَكَرُ النعام، والأنثى خرجاء. والأخرج: الرماد، ومنه شَبّه، ومُهْذِب أي مسرع في عَدْوِه. قالت: فجَهَدتَ فرسَكَ بزجرِكَ ومَرَيْتَه فأتعبتُه بساقِك وسوطِك، وقال علقمة:
فأدركَهُنَّ ثانيًا من عِنانِه ... يمُرُّ كمَرِّ الرّائحِ المتَحلِّبِ
فأدركَ فرسَهُ ثانيًا من عنانهِ ولم يضربْهُ بسَوْطٍ ولم يُتعبْهُ. فغضِبَ عليها امرؤ القيس وطلّقها، فتزوجَها علقمة فسُمّي الفحل لميزتِهِ في باقي الشُعراء كميزةِ الفحل على باقي الإبل.
وأنشد الأصمعي قولَ امرئ القيس:
رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... مُخْرِجٍ زَنديهِ من سُتَرِهْ
فقال: أما علِمَ أنّ الصائدَ أشدُ خَتْلًا من أن يُظهرَ شيئًا منه! ثمّ قال: فكفّيْه، إن كان لابدّ، أصلحُ. فترك الرُواة زَنْديهِ ورووا كفّيه على ما فيه. وقيل: كان النابغة الذبياني تُضرَب له قُبّةٌ حمراء من أدَم بسوقِ عُكاظ فتأتيه الشعراء فتعرِضُ عليه أشعارَها. فأوّلُ من أنشده الأعشى ميمون بن قيس، ثم أنشدَه حسّان بن ثابت الأنصاري قولَه:
لَنا الجَفَناتُ الغُرُّ يلمعنَ بالضُّحى ... وأسيافُنا يقْطُرنَ من نجْدَةٍ دَما
ولَدْنا بني العَنقاءِ وابْنَيْ مُحرِّقٍ ... فأكرِم بنا خالًا واكرِمْ بنا ابْنَما
فقال له النابغة: أنت شاعرٌ ولكنّك أقللْتَ جفانَك وأسيافَك وفخرت بمن ولدْتَ ولم تفخر بمَن ولدَك. هذا هو النقد الجليل الذي يدُلُّ عليه نقاء كلام النابغة. والمعنى أنّه قال له: أقللْتَ أسيافَك، وأسيافٌ جمْع لأدنى العدد، والكثير سُيوف، والجَفَنات لأدنى العدد، والكثيرُ جِفان. وقال: فخَرْتَ بمن ولَدتَ؛ لأنه ترك الفخرَ بآبائه وفخرَ بمن ولدَ نساؤه. وقيل في رواية غير موثوقٍ بها: إنه قال له: وقلت: لنا الجفناتُ الغُرّ، والغُرّة لُمْعَة بياضٍ في الجَفْنة، ولو قلت: لنا الجفناتُ البيضُ، كان أحسن لكثرة الدّسَم عليها، ولو قلت: يلمعنَ بالدُّجى، لكان أبلغَ، ولو قلت: وأسيافُنا يَجرينَ لكان أبلغَ من يقطرْنَ لأنّ الجريَ أعظم من القَطْر. وأقول إنّ هذه الزيادة عليها اعتراض. والصحيح ما قاله النابغة أولًا.
وذكر ابنُ عبّاد أبو القاسم رحمَهُ الله تعالى ورضيَ عنه أن أبا الفضل بن العميد كان يتجاوزُ نقدَ الأبيات الى نقد الحُروف والكلمات، ولا يرضى بتهذيب المعنى واللّفظِ حتى يُطالِبَ بتحبير القافية والوزن، وقال: أنشدتُ يومًا بحضرته كلمةَ أبي تمام التي أوّلها:
1 / 39