فهذه وجوهُ السّرِقاتِ قد حدَرْتُ لك لِثامَها، وألقيتُ إليك زمامَها، فقلّ أن تجِد من يعرفُ أقسامها، أو يستمطر غمامَها، ولا تجدُ إلا مَنْ إذا ظفِرَ ببيتٍ مسروقٍ لم يدْرِ أمِنَ المحمودِ هو أمْ من المذموم، وهلْ شاعرُهُ بالمعذورِ فيه أم بالمَلوم، فاعرفْهُ.
وأما التوارد فهو اتفاقُ الخواطرِ في البيتِ والبيتين، وإنّما سمّوهُ تواردًا أنفَةً من ذكرِ السّرقَةِ وتكبرًا عن السّمة بها. قال عَلقمةُ بن عَبَدَة:
أمْ هلْ كبيرٌ بَكى، لم يقْضِ عَبْرَتَهُ ... إثْرَ الأحبةِ، يومَ البيْنِ مَشكومُ
وقال أوس بن حَجَر:
أمْ هل كبيرٌ بكى لم يقْضِ عَبْرَتهُ ... إثرَ الأحبةِ يومَ البينِ معذورُ
وقال طرفة:
فلولا ثلاثٌ هُنّ من حاجةِ الفتى ... وجدِّكَ لم أحفِلْ متى قامَ عُوَّدي
وقال نُهَيك:
ولولا ثلاثٌ هُنّ من حاجةِ الفَتى ... وجَدِّكَ لمْ أحفِلْ متى قامَ رامسي
وقال مُزاحم العُقيلي:
تكادُ مَغانيها تقولُ من البِلى ... لسائِلها عن أهلِها لا تَعمَّلِ
وقال ضابئ:
تكادُ مغانيها تقولُ من البِلى ... لسائِلها عن أهلِها ولا تَعَمّلا
وقال عَديّ بن زَيْد:
وعاذلةٍ هبّتْ بليْلٍ تلومُني ... فلما غلَتْ في اللوْمِ قُلتُ لها اقصِدي
وقال عمرو بن شأس:
وعاذِلةٍ هبّتْ بليْلٍ تلومُني ... فلما غَلَتْ في اللّومِ قُلتُ لها مَها
وقال أوس بن حَجر:
حرْفٌ أخوها أبوها من مُهجّنَةٍ ... وعمُّها خالُها قوداءُ مِئشيرُ
وقال كعب بن زهير:
حرْفٌ أخوها أبوها من مُهجَّنةٍ ... وعمُّها خالُها قوداءُ شِمْليلُ
وقال كعب الأشقري:
لم يركبوا الخيلَ إلا بعدَما هَرِموا ... فهُمُ ثِقالٌ على أكتافِها مِيلُ
وقال جرير:
لم يركبوا الخيلَ إلا بعدَما هرِموا ... فهم ثِقالٌ على أكتافِها عُزُفُ
ومثلُ هذه الأبيات في أشعار العرب أكثرُ من أن تُحصى وأعظمُ من أن تُسْتَقصى، وأنا لا أعدُّ ذلك تواردًا اتفقَتْ عليه الخواطرُ، وتشابَهَتْ فيه الضمائر، بل أعُدُّه سرِقَةً مَحْضَة وإغارةً على الأشعارِ مُرفَضّة. وقد أوردَ ابنُ السِّكيت قولَ امرئ القيس: وقوفًا بها صحبي البيت، وقولَ طرفة في باب السَرِقات، والذي ذهب إليه هو الصحيح، وإنّما يتّفق للشاعرين معنىً ويلزمان أن يَنْظماهُ على قافيةٍ واحدة فربما تَواردا في بعض الكلام. من ذلك ما حكاه أبو القاسم الأندلسي وغيرُه في أشعار المَغارِبَة، قال: كان بين يدي محمد بن عبّاد صاحب الغَرب جاريةٌ في يدها كأسٌ وهي تَسقيه، فلمع البرق فارتاعتْ له فسقط الكأس من يدها فقال مُرتَجِلًا:
روّعها البرقُ وفي كفِّها ... برْقٌ من القهوةِ لمّاعُ
يا ليْتَ شِعري وهي شمسُ الضُحى ... كيفَ من الأنوارِ ترْتاعُ
ثم قال لبعض خدمه: مَنْ على باب القصر من الشعراء؟ فقال: عبد الجليل بن وهبون، فأمَه بإحضاره. فلمّا مثُلَ بين يديه قصّ عليه القصّة وأنشدَه البيتَ الأول وقال له: أجِزْه فأنشأ:
ولنْ ترى أعجبَ من آنِسٍ ... من مثلِها ما يُمْسِكُ يرتاعُ
ومثل هذا يمكن أن يقع ولا يُنكَر ولا يُدفَع.
وحكى الأندلسي قال: حدّثَني محمد بن شرف القيرواني قال: أمرَني المُعِز بن باديس وأمرَ حسنَ بنَ رشيق في وقت واحد أن نصِفَ الموزَ في شعرٍ على حرف الغَيْن، فجلس كل واحد منا بنَجْوَةٍ عن صاحبهِ بحيثُ لا يقفُ أحدُنا على ما يصنَعُهُ الآخر، فلمّا فرَغنا من الشعرِ عرَضْناه عليه، فكان الذي صنعتُه أنا:
يا حبّذا الموزُ وإسعادُه ... من قبل أن يَمْضغه الماضِغُ
لانَ فما نُدرِكُ جَسًّا لهُ ... فالفَمُ ملآنُ بهِ فارِغُ
سِيّانَ قُلنا مأكَلٌ طيّبٌ ... فيهِ وإلاّ مشْرَبٌ سائِغُ
وكان الذي صنعه ابنُ رشيق:
موزٌ سريعٌ سوْغُهُ ... من قَبلِ مضْغِ الماضِغِ
مأكلَةٌ لآكلِ ... ومشرَبٌ لسائِغِ
فالفمُ من لينٍ به ... ملآنُ مثلُ فارغِ
1 / 38