وبذلك نعود إلى تأكيد تلك العلاقة بين تطوّر التدوين وتطوّر الميزان النقدي، فلئن بيّنّا سابقًا ما بينهما من علاقة في المنشأ، تقتضي استمرار تلك العلاقة بينهما بعد النشأة فقد بيّنا هنا أيضًا حقيقةَ تلك العلاقة خلال مراحل التطوّر لكليهما، ممّا لا يدع مجالًا للشك في حصول تلك العلاقة بين التدوين والنقد في كل مراحل تطوّرهما.
فإذا انتهينا إلى اليقين من هذه النتيجة، وهي أن التدوين والميزان النقدي متلازمان نشأةً وتطوّرًا، تلازُمَ الروح بالجسد الحيّ، فهذا سيعني أن الزَّمنَ الذي يبلغُ التدوينُ فيه نهايتَه، بشموله لجميع المنقولات، وبعدم بقاء روايةٍ غير مدوّنةٍ ممّا كان يذكره الناقلون منذ نشأة الرواية إلى ذلك الزمن سيعني أيضًا أن النقد قد بلغ في ذلك الزمن نهايته، وأنه بعد بلوغه هذه النهاية سيكون قادرًا على تصفية المنقولات كُلِّها بلا استثناء، وأنه لم يعد فيه مجالٌ للتطوّر بعد ذلك.
إن هذه النتيجة، وهي أن اكتمال التدوين يعني اكتمال المنهج النقدي، لم يَعُدْ بحاجةٍ إلى استدلال بعدما سبق.
لكني أعود فأقول: إن المنهج النقدي إنما نشأ بسبب وجودِ رواياتٍ أصابتها آفةُ الأخبار (الخطأ والكذب)، وحصولُ هذا للأخبار إنما وقع بسبب عدم التدوين (كما سبق)، فكان ذلك المنهجُ النقديُّ قادرًا على تمييز الصواب من غيره خلال أزمنة الرواية الشفهيّة غير المدوّنة أفلا يكون هذا المنهجُ النقدي أقدَر على القيام بمَهمّته، بعد حصول ما كان من شأنه أن يُغنينا عنه لو أنه تمّ من حين نشوء النقل (ألا وهو التدوين)، وبعد أن سَهَّلَ له التدوينُ القيامَ بتلك المهمّة؟!
وبعبارة أخرى: إن منهجًا لنقد المنقولات كان قادرًا وكافيًا لنقدها يوم أن كانت بين رواية شفهيّة ورواية مدوّنة، ألن يكون قادرًا وكافيًا لنقد المنقولات بعد أن أصبحت مكتوبة فقط؟!!
1 / 10