عدم ... عدم
تشدد علي الممرضة السمينة الصغيرة الرأس، وهي ترفع سبابتها منبهة: دقيقتين فقط من فضلك، غيرك لا نسمح له بأكثر من دقيقة واحدة - لكن يبدو عليك أنك رجل طيب - تفضل يا حاج، دقيقتين فقط كما قلت ...
أكاد أضرب كفا على كف وأكاد أصرخ: أهكذا تختزل مئات الليالي والأيام التي قضيناها معا في لحظة خاطفة؟ وماذا أفعل في هاتين الدقيقتين يا صديقي الحبيب، وماذا أقول؟
دخلت من الباب المفتوح. هو على السرير الحديدي الأبيض ممدد ومغطى بملاءة بيضاء. تفاجئني الأجهزة الكثيرة اللامعة حوله ووراءه وفوقه كوحوش آلية ساكنة؛ جهاز كمبيوتر تتحرك شاشته بموجات متتالية من الخطوط المتعرجة والمستقيمة، دورق كبير يتدلى منه خرطوم أحمر طويل مغروس في فمه، جهاز التنفس كالكمامة الفضية موضوع على شفتيه. قبل أن أدخل إليه، أفهموني أنه لولا هذا الجهاز الصناعي لاختنق في الحال. النفس مطرود، شهيق يرتفع معه الصدر الضئيل وزفير ينخفض به، والصوت الخارج حشرجة تشبه شهقات طاحونة قديمة أو استغاثة قاطرة محمومة. أتأمل الوجه الأبيض الجميل الذي طالما أسرتني بشرته الناصعة وجبهته العريضة العالية، والشعر المتموج المائل إلى الشقرة تنسدل خصلة منه على الجبين المتحدي والمتأهب دائما للصراع والصدام. العينان الواسعتان مفتوحتان على آخرهما ومصوبتان إلى الأعلى، إنهما لا ترياني ولا تريان أي شيء، لكنهما مفتوحتان على اتساعهما وغارقتان في بحر الغيبوبة. ألمس يده وأمر على راحته وأصابعه البيضاء الرقيقة، لكن ما هذا؟ كيف صار الذراع الأيسر - من المعصم حتى المرفق - بهذا السواد؟ كيف صار فحمة سوداء مستطيلة تنتهي بيد بيضاء جميلة ونحيلة، كأنها جناح طائر محترق، أكل هذا من كثرة الإبر ووخزها الأليم؟
آه يا صديقي الحبيب! أيمكن أن يتحول البركان الثائر والفائر إلى شبح عظمي شاحب؟ أأنت مستغرق الآن في دوامتك السفلية، دائر كالريشة أو كورقة شجرة في خضم موجاتك الباطنة؟ ألا تنتبه لحظة واحدة لتكلمني أو توصيني أو تلقي علي نظرة واحدة أفهم منك أنك لمحتني وعرفتني؟
كنت أداعبك دائما وأؤكد لك أنني سأسبقك حتما على الطريق الذاهب بلا عودة، وكنت أقول لك إنني سأنتظرك لكي أقرئك وصيتي على أولادي وكتبي وحصادي الهشيم ... فحذار حذار أن تخذلني أو تسبقني! ... وها أنت تسبقني يا صديقي وتخذلني وأي خذلان ... أمر على يدك وأضغط عليها بلا استجابة، أثبت عيني فيك كأنني أراك الآن لأخر مرة، وبرغم الأمل الذي لا يموت، أربت على صدرك الصاعد الهابط المتحشرج كصفارة باخرة تقاوم الغرق وتتشبث ببقايا الحياة. آه يا صديق العمر! كلمة واحدة! نظرة واحدة! لماذا تستسلم لبحر الغياب وأنا على الشاطئ أمد إليك يدي وكياني كله بلا جدوى؟ وفجأة تدخل الممرضة السمينة ومعها صبية نحيلة كأنها ابنتها في ثياب الممرضات: يا الله يا أستاذ! يا الله يا حاج! قلنا دقيقتين فقط ...
أخرج من عندك لا أعرف لي اسما ولا هدفا ولا حاضرا أو مستقبلا، حتى الدموع تستعصي علي برغم الشلال الجياش في داخلي. ما الذي فعلته بنفسك وبي؟ ولماذا أنت ولست أنا؟ مع أن الحياة والفن والمجتمع والناس أحوج إليك مني ألف ألف مرة؟
تدخل بعدي الابنة والابن وعلى وجهيهما صفرة وفي عيونهما دموع متحجرة. إن هي لحظات ويرجع الابن مناديا علي: تعال يا عمي، بابا أفاق على صوتنا وعرف أنك كنت عنده. نادى عليك أيضا وتكلم كلاما لم نفهم منه إلا كلمات الدراما والمسرح والقصة ... تعال بسرعة قبل أن يدخل في الغيبوبة ...
وأسارع بالدخول غير مصدق، أقبلك على خدك وجبينك وأقبل يدك وأصابع يدك وأربت على صدرك. يخرج من أعماق الطاحونة الخربة صوت واحد بكلمة واحدة ووحيدة: عدم ... عدم ... عدم. أحاول تدليك يدك وأصابعك وتقبيل خديك وعينيك ويديك ... يأخذني الذهول والحيرة والخجل من وجودي حيا أمامك وأتجمد وأتصلب كحجر. ويطرد النفس المتحشرج ومعه الدمدمات والآهات المضغومة والآهات المتوالية والمكتومة كبخار هائج ينفلت من وعاء يغلي بالماء، الذي يدمدم ويدوم بلا انقطاع. أناديك ولا ترد - أكلمك بالصوت المختنق الذي يرتفع قليلا قليلا ولكن بلا فائدة - تنفتح العينان أكثر مما كانتا قبل لحظات، تغيب عنا وعن نفسك وتسقط في الدوامة العاصفة في الأعماق. أفيق على صوت الابن الذي يربت على ظهري وكتفي: خلاص يا عمي ... رجع للغيبوبة من جديد. وتستعجلنا الممرضة ومساعدتها الصغيرة: يا الله! يا الله! الدكتور الكبير يمر الآن، وموعد الزيارة انتهى.
أطل عليك الإطالة الأخيرة؛ العينان مفتوحتان والصدر - الطاحونة - يشهق يتحشرج، يعلو يهبط بالصوت الرتيب المخنوق. وأنا خارج من عندك ترن في سمعي دمدمتك المضغمة الغامضة: عدم ... عدم ... عدم ... كما يتردد صوت مهيب ورهيب يخيل إلي أنه يخرج مدويا من أعماقي:
صفحة غير معروفة