تأوه، وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه، وقال: لا تنزعج واسمعني، فأنا ملاك جريح لا يراني أحد. لا النور يراني ولا الريح، ولا زجاج النوافذ. نعم، ولا زجاج النوافذ. أسير كالميت في الشوارع بلا صوت ولا ظل. قلت أطل على مدينتكم التي تصاعدت منها الضوضاء والروائح الكريهة، وصرخات الجياع والمحرومين والضائعين. اخترقت الأبواب والجدران دون أن يحس بي أحد، حتى المرايا نفذت فيها ولم يرتسم وجهي على إحداها، ولم يرني صاح ولا نائم، لا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا شيخ. تجولت في مدينتكم العتيقة العريقة. دخلت أحياء كان من المفروض أن تندثر من زمن طويل، كما اندثرت مدن قديمة وانقرضت حيوانات لم تصلح للحياة. طفت بالمدارس والمستشفيات والأحياء العشوائية، ومسحت يدي على حياة المتعبين والنائمين على الأرصفة والمشردين العاطلين في الشوارع وعلى شاطئ النهر. رحت أقول لنفسي: يا إلهي! كل هذا العدد من المظلومين ... وكل هذا العدد من الظالمين! يا إلهي! كل هذا القبح ... هذه الضوضاء ... هذا الفقر! أنا ملاك الفقراء لا أملك أن أطعم جائعا أو أكسو عاريا أو أخفف بؤس أسرة مستورة وراء الجدران. ومع أني ملاك كما ترى، فقد أغمى علي بعد كل ما رأيت وسمعت ولمست بنفسي، ووقعت على الأرض مغشيا علي، فانكسر جناحي. لا مفر من أن أرجع مرة أخرى على رأس جيش من ملائكة الفقراء، ربما نستطيع أن نشفي جرحا أو نجفف دمعة أو نعيد البسمة إلى فم يتيم أو شيخ مطحون.
أما أنت يا صديقي الذي رآني وسمعني دون بقية الناس والكائنات فلا تحزن علي. بعد قليل سيحضر من يأخذني بين ذراعيه أو على جناحيه إلى الملأ الأعلى. بعد قليل تبلغ شكوى المظلومين والمنسيين الضائعين في مدينتكم العجوز البائسة إلى آذان الملائكة والقديسين والخالدين، وربما تحوم أصداؤها حول العرش العظيم.
انتبهت على يد تهزني من كتفي. فتحت عيني فوجدت رجلا في مثل سني يضحك بصوت عال: كلانا فاته الترام، ألا تنتظر مثلي الخط رقم ثلاثة عشر؟ فات آخر ترام يا صاحبي. يبدو عليك أنك تسكن في نفس الحي الذي أسكنه، هيا بنا نتسلى بالمشي معا إلى الحي الذي تطوي أرضه الكنوز وتحتفظ بأعجب آثار أبي الهول والأهرام ومراكب الشمس ... هيا بنا يا صاحبي ... هيا بنا.
1
الجزء
من نبع العمر
التوائم الثلاثة
لما جاءها الطلق بغتة، أطلقت صرخة دوت في أرجاء البيت كصليل جرس. كانت أختي الكبيرة تتوقع كل شيء قبلها بفترة كافية، جرت من فورها إلى جارتنا نجية الداية، وسرعان ما رجعت بها، وغابا معا في حجرة الوالدة. كانت أختي قد أعدت كل شيء وجهزت حتى اللفائف التي سيوضع فيها المولود. ولم يمض إلا القليل حتى جلجلت صيحة الوافد الجديد، وانطلقت أختي قافزة على السلم وهي تهتف: آبه! آبه ! كان يجلس كعادته في المندرة، متكئا على الكنبة والمصحف في حجره، وشفتاه تتحركان بلا صوت. دخلت أختي الكبيرة مسرعة وهي تردد هتافها: - آبه! آبه! جالك ولد. - فرجه قريب يا بنتي، يجعله قدم السعد عليك وعلى اخواتك. - تعرف يا آبه؟ المولود ما شاء الله سمين ومورد، تعرف ... - قولي الحمد لله وارجعي لأمك يا بنتي. - تقول بدر منور يا آبه ... سبحان الخالق الناطق ... كأنه صورة منك ... - قلت لك اطلعي لأمك، واقعدي تحت رجليها ...
لم تكد تتعثر في طريقها إلى الباب حتى استدارت قائلة: - لكن بطنها كبيرة يا آبه ... كبيرة ولا بطن جمل ... - ربنا يفك ضيقتها ويسترها على عبيده. قلت لك اطلعي لها وكله على الله ...
كان ذلك في ضحى يوم شتوي، امتلأت سماؤه بسحب سوداء ثقيلة تنذر بالمطر. بعد العصر بقليل، وقبل أن يؤذن لصلاة المغرب، دوت من غرفة السطوح صرخة أخرى، حاولت الأم - التي يعرف الجميع أنها كتوم وصابرة - أن تحبسها بقدر ما تستطيع، فأفلتت منها ورنت في أرجاء البيت. لم تحتج أختي الكبيرة أن تجري إليها؛ لأنها كانت مقيمة معها وتهدهد المولود الأول على ركبتها. أسرعت من نفسها إلى جارتنا التي لم تتوان لحظة عن الحضور ومعها كل ما يلزم الولادة والمولود. وبعد أقل من ساعة، ارتفعت صيحة المولود الثاني قوية وعفية، كأنه يهلل مرحبا بأهله بعد غياب طويل. وما أن وضعته أختي الكبيرة بجانب أخيه، حتى أسرعت تقفز السلالم إلى المندرة. - آبه! آبه! جاءك ولد ثاني ... - سبحانه يفعل ما يشاء يا بنتي، هو العاطي وهو العالم بالحال. - وجهه ولا البدر المنور في السماء، سبحان الخالق الناطق. - يا بنتي اعقلي وارجعي لأمك، قلت لك اقعدي معها ولا تتركيها. - حاضر يا آبه ... يتربوا في عزك يا قادر يا كريم ... - كله بأمره يا بنتي ... قلت لم اطلعي وشوفي طلباتها ... وإن كان على الداية لا تشغلي بالك ... حالا ربنا يساويها ويرضيها ... - انتظر يابه ... لا تستعجل ... ربما نحتاج إليها ... أمي تشكو من بطنها ... تقول فيه شيء يتحرك فيها! - قلت لك اعقلي واطلعي لها ... كل شيء بأمره وما فيه الخير يقدمه بإذن الله.
صفحة غير معروفة