وأرجو القارئ الكريم أن لا يكلفني أن أستشهد بأقوال أحد؛ فإني لا أحب أن أفتح علي باب الخصومة. •••
ومن آثار هذا التطور أن أصحاب المذهب القديم ينزعون إلى الأرستوقراطية في هذا الزمان الذي انتشرت فيه الديموقراطية، فصار الكتاب فيه يكتبون لا للخاصة، ولا لتسلية الأمراء والكبراء أو التملق لهم أو السخر منهم، ولا للتفصح أو التمدح؛ بل لعامة الناس فيما ينفعهم في هذه الحياة.
من تلك الأرستوقراطية أن الكاتب منهم لا يقول فيما يكتب «أنا قلت» «أنا رأيت» بصيغة المفرد؛ بل «نحن قلنا» «نحن رأينا» بصيغة الجمع؛ تعظيما لشأنه، ولولا شيء من الحياة لابتدءوا كلامهم بالثناء على أنفسهم والإشادة بفضلهم، وختموه بقولهم: «من يستطيع أن يأتي بمثل هذا؟» على الطريقة البحترية، تعزيزا لمكانتهم عند العامة، وما أدرانا أنهم يكلفون غيرهم أن يقرظوهم ويعظموهم.
ومنها أنهم يبالغون في التأنق وتخير الألفاظ ولو خرجوا إلى الكلفة بل السخافة، وقد قسموا الكلام إلى رصين ومبتذل أو سمين وهزيل، وما الرصين السمين في عرفهم إلا الغريب المهجور، وما المبتذل الهزيل إلا المفهوم المأنوس. ولا تشيع لفظة على ألسنة الناس إلا أصبحت عندهم مبتذلة هزيلة لا يليق بأمثالهم أن يتسفلوا إلى استعمالها، وربما امتنعوا عن الكتابة بتاتا إذا اضطروا أن يكتبوا بلغة الناس.
لا ننكر التأنق؛ فإنه فطرة في بعض الناس، فقد ترى زيدا على غناه ووجاهته يخرج من بيته في الصباح بدون أن يغسل وجهه، على حين ترى جاره - على فقره وخموله - لا يخرج من بيته إلا نظيف الجسم والثوب حسن الهندام مسرح الشعر. والتأنق دليل علو في النفس وسلامة في الذوق، وهو مدعاة إلى الرقي، ولكن على أن لا يظهر المتأنق أنه متأنق، وبعبارة أخرى أن لا يتأنق لأجل التأنق، وإلا كان دليلا على سخافة العقل وفساد الذوق، وكان مدعاة إلى التدني.
كما لا ننكر الابتذال، ولكن الابتذال يكون في الجملة لا في اللفظة، فقولهم: «فلان يصطاد في الماء العكر» من الجمل المبتذلة التي لاكتها الأفواه وملتها الأسماع. وأما كل لفظة في هذه الجملة فلا ابتذال فيها، وإلا فكل ألفاظ اللغة المستعملة مبتذلة.
يقول هؤلاء الكتاب الأرستوقراطيون إنهم يكتبون للخاصة لا للعامة، ومنهم من يبالغ في أرستوقراطيته فلا تفهمه العامة ولا الخاصة.
وقف خطيب في حفلة أقيمت لتكريم شاعر كبير، وبعد أن قرأ كلمته «المحبرة»، وقد جاء فيها بالغريب وغريب الغريب، التفت إلى الشاعر - وكان جالسا إلى جانبه - وقال له: «أظن أنه لم يفهم كلامي إلا أنت وأنا»، فقال له الشاعر: «ولا أنا يا سيدي.»
وتراهم إذا كتبوا اضطروا إلى تفسير ألفاظهم في ذيل كل صفحة، وقد يكون التفسير أطول من المتن وأغمض.
إذا كنتم - أيها السادة الأجلاء - إنما تكتبون للخاصة، فلا حاجة إلى هذا التفسير؛ بل لا حاجة إلى كل ما تكتبون. وإذا كنتم تكتبون للعامة فكلفوا خاطركم غير مأمورين واكتبوا بلغة الناس ولكم الأجر.
صفحة غير معروفة