أفرأيت كيف يذكرني مناظري بنفس الشيء الذي كنت قلته ليوهم الناس أنني مكابر فيه، ثم قال وهو من أغرب ما جاء في رده:
أما الشواهد التي جاء بها الأمير على ذمة راويها دليلا على أن أسلوبه عربي، فلست أظن أنه يجهل أني لا أعجز عن أن أورد له أضعاف أضعافها لا ترادف بها ولا تكرار من كلام من يوثق بعربيته.
كلا لا تعجز عن إيراد شواهد على الكلام الموجز الذي ليس فيه مترادف ولا تأكيد وأنا مع عجزي وتسميتي تلك الطبقة بلغاء وفصحاء، واعترافي بأنني لا أصلح أن أكون من تلاميذهم لا أعجز أيضا عن الإتيان بأضعاف الأضعاف التي وعدت بها من الشواهد أيها الأستاذ، ولكن لم أفهم معنى كلامك هذا؛ هل أنكرت أنا فضل الإيجاز وقلت لا بهاء لكلام موجز ولا مكان له عند العرب حتى تأتيني بتلك الشواهد التي تبطل دعواي؟ وهل ورد في كلامي شيء يدل على كون المترادف هو أصلا من أصول البلاغة لا غنى عنه جاء في محله أو في غير محله؟ متى وأين ادعيت ذلك؟
تحرير القضية أنك أنت تنكر المترادف مطلقا، وأنا أقول: بل له مواضع، وقد جاء في كلام أهل اللسان المقتدى بهم في البيان. ولا ينشأ من ذلك كما يفهم بالبديهة أنني أنكر بدائع الإيجاز أو أوجب الإطناب في كل مكان حتى تورد لي شواهد على ما لم تسبق لي دعوى بإنكاره وتتكثر هذا التكثر بدون سائق له.
أما قوله «على ذمة راويها» فتلك مسألة أخرى، يظهر أنه لا يعجزه شيء، وقد أخذ اللغة بالجسارة والقوة، فإذا استشهدت له بكلام أساطين العربية قال لك: أنت تراهم بلغاء، أما أنا فلا، أو: مذهبي غير مذهبهم، وإذا خاف أن ينكر عليه القراء كون الرسول
صلى الله عليه وسلم
لم يصب شاكلة البلاغة عندما قال عن علي: «أكره لفاطمة ميعة شبابه وحداثة سنه»، وكون أبي بكر تكلم بعربي فصيح عندما قال: «لم يدع أحدا من أصحابه إلا أبانه بفضيلة وخصه بمزية وأفرده بحالة» أو تذكر أن عليا صاحب «نهج البلاغة» لم يكن محتاجا أدباء آخر الزمان أن يردوه إلى العربية الصحيحة عندما قال: «لولا سالف عهد وسابق عقد»، وعند قوله: «استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها.» وأن معاوية أيضا كان لا بأس به في العربية، وهو القائل: «تواتر آلائكم علي وتظاهر نعمائكم لدي.» وأن الجاحظ كان أكتب مني ومن الأستاذ السكاكيني وأمثالنا، وهو الذي يقول: «أمنعها من الدروس وأبعدها من الدثور» عاد فقال لك: وما يدريك فلعلهم لم يقولوا ذلك وحاول جرح الرواية ولو كانت القضية قضية جملة أو جملتين أو مائة أو مائتين من هذا القبيل لكان الأمر سهلا، ولكن هناك ما لا يحصى ولا يعد (لا يحصى ولا يعد) هو أيضا من كلام العرب، وهو من باب التأكيد وإشباع المعنى؛ لأن «يعد» هو نفس «يحصى»، فماذا عسى صاحبنا يجرح من الروايات وماذا عساه يتحمل من الأجوبة على أقوال لم يختلف في روايتها اثنان.
ثم قال: «كان يجب - على رأيه - إذا قيل رأس الحكمة مخافة الله، أن يقال ودليل العقل تقوى الخالق وعنوان الفضل خشية الباري» إذا كنت استشهدت بأقوال العلماء عن مواطن الإيجاز ومواطن الإطناب وأوردت شواهد من الخطب والكتابات التي وقع فيها مترادف لنكتة مقصودة أو لمعنى قريب من معنى أو لتمكين صورة في ذهن أفتكون نتيجة ذلك أنني أوجب أن لا يقال رأس الحكمة مخافة الله حتى يقال ودليل العقل تقوى الخالق؟ أومثلي أنا ينكر جوامع الكلم وينكر مزايا الإيجاز؟ وهل هذا هو مبلغك من الإنصاف أيها الأديب؟!
ثم قال: «أعيذ اللغة العربية من مثل هذا» أي يعيذ العربية من مثل كلام الجاحظ ومن سبق ذكره ... ويظهر أنه أحس بكونه لا مخرج له من تبعة قوله أن هذا الأسلوب غير عربي، فقال: «ثم ما باله اهتم كثيرا بقولي إن أسلوبه غير عربي ولم يهتم بقولي إنه غير طبيعي أو على الأقل لا يستمرئه ذوق هذا العصر» أي إنه قد يكون عربيا ولكنه غير طبيعي، فكأن العرب ينقصهم في دولة فصاحتهم هذه صفاء القرائح وتجويد المنطق، فجاءوا بما يخالف الطبيعة، وجاء هو يبين لهم أن أسلوبهم هذا غير طبيعي، فليطبقوا أسلوبهم على الطبيعة، ثم نزل عن ذلك العموم إلى دائرة أضيق فقال: «لا يستمرئه ذوق هذا العصر» فجعل نفسه ممثلا لذوق العصر، وظن أنه بقوله: «هذا مذهب جديد» انقطعت الحجة وارتفع النزاع، ونسي أن الطبيعة البشرية في هذا العصر وفي كل عصر واحدة تميل إلى الإيجاز في محل الإيجاز، وتهتف بالمترادف في محل التأكيد، وأن الذي قرره من ذلك علماء الأدب هو المنطقي المعقول الملازم للبشرية الذي ليس فيه قديم وجديد؛ لأن العقل ليس فيه قديم وجديد، وأن ذوق هذا العصر أيضا وذوق أدباء أوروبا هو الإيجاز في محله والإطناب في محله، وأن وضع الواحد موضع الآخر مخالف للذوق. وأما أنه لو أراد الإنسان ترجمة المترادف إلى لغة أجنبية للزم تكرار اللفظ بعينه فليس بوارد لأن كل لغة لها روح. ولا يقال إن هذا الفرنساوي ليس بفصيح؛ لأننا عندما ترجمناه إلى العربي بنصه لم يكن له طعم، ولا أن هذا العربي غير بليغ، أفلا ترى أننا عندما جعلناه فرنسويا ظهرت فيه كلمات مكررة فمن البديهيات أن معيار فصاحة اللغة لا يكون إلا في نفس اللغة. خذ «فكتور هوغو» وترجمه إلى العربية فماذا تجد فيه مما يستحق كل هذا الإعجاب؟ مع أنه في لغته هو السنام الأعلى.
ويقول: «إن الأمير لم يغضب لأن انتقادي جاء مباينا لوجه الصواب، وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» ثم ما مضى سطران حتى عاد فقال: «نعم لم يغضب لأنني انتقدت وإنما غضب لأنني استشهدت بأقواله» بالله عليك أيها القارئ اللبيب هل تجد في هذه الجملة الثانية معنى جديدا لم يكن في الأولى؟ فلماذا أجاز هذا التكرار أستاذ المذهب الجديد؟ أم يحلونه عاما ويحرمونه عاما؟! ثم أطال في تبيين سبب غضبي وانحصاره في انتقاده لكلامي يريد أنني لولا ذلك لكنت استحسنت جرأته على أرباب اللغة وما علمت من أين جاءه نبأ هذا السبب؛ إذ ليس في جوابي ما يدل على شيء مما قال، فكيف اطلع على سريرتي من القدس إلى لوزان، أبمناجاة الأرواح أم بقراءة الأفكار، فعلم أنني كنت موافقه على ما قاله لولا كونه تعرض لي؟! بل والله ما غضبت لنفسي مثلما غضبت لأساطين اللغة وسلاطين البلاغة أن يقوم اليوم واحد مثلي أو أعجز مني فيقول إن بلاغتهم صارت قديمة بالية وإنه هو سيغنينا عنهم بأسلوب جديد.
صفحة غير معروفة