وقد كان هذا التطور في العصور العريقة في القدم، أيام كانت الأمة الواحدة تنقسم إلى قبائل متعادية، تعيش في أقاليم مختلفة في الخصب والجدب، والاعتدال والانحراف، والشدة والرخاء، وما إلى ذلك من اختلاف المجاورات والحالات الروحية والعقلية والاجتماعية والسياسية، سببا لتفرع اللغات بعضها من بعض. تنقسم به اللغة إلى لهجات، ثم تستقل كل لهجة لغة بنفسها. كما ترى آثار هذا الاختلاف لعهدنا هذا في اللغتين المحكية والمكتوبة، فإن لكل إقليم من الأقاليم العربية لغة محكية ولغة مكتوبة تخالفان ما لغيره كثيرا أو قليلا، واللغتان خاضعتان للتطور المستمر، فلغتا مصر المحكية والمكتوبة اليوم غيرهما قبله، وكلتاهما غير لغتي سوريا، من أمثلة ذلك في اللغة المحكية أنهم يسألون في فلسطين إذا لقي الواحد الآخر عن حاله، وفي دمشق عن لونه، وفي مصر عن زيه، وفي لبنان عن خاطره. وقد كان الناس قبل هذه النهضة الأخيرة، قبل انتشار لغة المدرسة، ولغة الصحافة، ولغة التمثيل، ولغة الغناء، لو سار السوري في مصر، أو المصري في سوريا، لسار بترجمان؛ بل لو تغيب السوري أو المصري عن بلاده إلى بلاد لا يسمع فيها لغته لعشرين سنة أو أقل، ثم رجع إلى بلاده لرأى من تطور اللغتين المحكية والمكتوبة فيها ما لم يكن له به عهد، وما يحس معه أنه أصبح غريبا في قومه.
ومن أمثلة ذلك في اللغة المكتوبة أن السوريين يجمعون لفظة «ميل» بمعنى «الهوى» على «أميال» ك «سيف» و«أسياف»، وقد شاع هذا الجمع في سوريا ومصر دهرا طويلا، ثم رأينا أن المصريين أخذوا يجمعون هذه اللفظة على «ميول» ك «سيف» و«سيوف»، وكلا الجمعين صحيح. ولعل السوريين يعدلون مع الأيام عن «أميال» إلى «ميول» بحكم التقليد.
ومن ذلك أن السوريين يقولون: «بحث عن الأمر أو في الأمر»، ولكن رأينا كثيرين من كتاب مصر يقولون: «بحث الأمر» بدون حرف جر.
ومن ذلك أن السوريين يقولون: «سمى فلان ولده كذا» على وزن «فعل» بتشديد العين، ولكن المصريين عدلوا في الزمن الأخير عن وزن «فعل» إلى وزن «أفعل»؛ فهم يقولون: «أسمى فلان ولده كذا»، وكلا الوزنين صحيح، وقد استعمل المتنبي وزن «أفعل» في قوله:
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جل أن يسمى
ولكن وزن «فعل» أشهر.
ومن ذلك لفظة «فحسب»
2
فإنها درجت في هذه الأيام على ألسنة المصريين فتابعهم في استعمالها بعض السوريين، وقد كانوا يستعملون لفظة «فقط».
صفحة غير معروفة