والكلمة التي لا يعرف لها قائلا لا يتنازل إلى استعمالها ولو وردت في كل معجمات اللغة؛ بل كان من الأدباء ولا يزال منهم إلى اليوم من إذا أراد أن يستعمل كلمة بحث عن عمرها فإذا لم يرب على ألفي سنة أو ألف على الأقل فلا يستعملها؛ بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم من إذا جاء بكلمة أتبعها بمرادفاتها على غير اقتضاء ولا مناسبة؛ تبجحا بكثرة محفوظه وسعة معرفته. وقد وقع في يدي من عهد قصير كتاب لكاتب من أمثال هؤلاء الكتاب لم ترد فيه كلمة إلا ومرادفاتها معها، من ذلك قوله: «فلان قصي مدى البصر بعيد مرمى النظر»، وقوله: «لسنا بغاة نصفة ولا عفاة معدلة»، وقوله: «لم نر إلا رجلا مغشيا بالغل محنيا على الضغينة»، بحيث لو حذفت المترادفات منه لم يبق منه إلا الربع أو الخمس أو أقل، بل كان منهم ولا يزال كثيرون إلى اليوم من أولع بالغريب، فإذا رأى أن كلمة «ورق» مثلا شائعة معروفة استعمل كلمة «قرطاس»، فإذا شاعت استعمل كلمة «كاغد»، فإذا شاعت استعمل كلمة «مهرق»، فإذا شاعت ولم تبق لديه أو في اللغة كلمة غريبة بمعناها؛ تحاشى الكلام في موضوع له علاقة بالورق؛ بل قد يهجر الكتابة بتاتا إذا كلف أن يكتب بلغة الناس ... وقد بلغ من تهافت كاتب في مصر في الجيل العشرين على الغريب أنه قال في كتاب ترجمه عن الإفرنسية: «خريت سبروت هذه الفكرة هو فولتير» أي: صاحب هذه الفكرة هو فولتير.
أعوذ بالله وأعيذ اللغة العربية من مثل هذا، فأنت ترى أن الأديب كان أشبه بالناسخ بل بالماسخ منه بالأديب.
لم يكن الشاعر شاعرا إلا إذا قلد المتقدمين من الشعراء في المديح والهجاء والتشبيب والرثاء وغير ذلك من أبواب الشعر في ألفاظهم وأساليبهم، فكان أشبه بالوزان منه بالشاعر؛ بل بالصدى منه بالصائت المحكي.
وعلى الجملة لم يكن هناك علماء وأدباء وشعراء بل حفاظ ورواة ونساخ ووزانون، وكلهم مقلدون، والتقليد كما رأيت لا يكون في أوله إلا مشوشا ثم يصير إلى الإجادة والإتقان، وقد رأينا من الكتاب في العهد الأخير ولا تزال منهم طائفة إلى اليوم من إذا كتبوا أحسنوا التقليد وجروا على مناحي العرب، كأنهم من سلالة صاحب الأغاني أو العقد الفريد أو الكامل، أو كأنهم الجاحظ وابن المقفع والزمخشري وبديع الزمان الهمذاني والحريري بعثوا في هذا العصر.
ولكن التقليد تقليد؛ سواء أكان مشوشا أم متقنا، والمقلد مهما أجاد وأتقن فإنما هو غريب دخيل، وما زمن التقليد في حالتي التشويش والإتقان إلا زمن تعلم وتحصيل لا زمن ابتكار واستثمار.
وقد كان من فائدة هذا التقليد أن تجدد عهد الفصاحة، ولعمري إنها لفائدة عظيمة يستحق عليها كل من اشتغلوا باللغة الثناء الطيب ولو كانوا مقلدين، لم تكن للأمة لغة فصارت لها لغة، وإنها للغة غنية، ولم تكن لها أدبيات فصارت لها أدبيات، وإنها لأدبيات راقية، وما إحياء لغة انقطع عهد الألسنة بها منذ أمد بعيد، وما إحياء أدبيات كاد يعفيها الزمان؛ بالمطلب السهل الذي يتم في زمن قصير مثل هذا الزمن الذي مضى منذ أول هذه النهضة إلى اليوم، لولا همة أولئك الأبطال زعماء النهضة، وما رزقوا من الذكاء والجلد، وهيهات أن يجود الزمان بمثلهم، يكفيهم فضلا أنهم وصلوا ما انقطع من سلسلة نسبتنا إلى السلف الصالح، وأنزلونا منهم منزلة الأبناء من الآباء، بعد أن كنا أدعياء لا أصل لنا ولا فصل. ولم يبق لنا بعد أن اجتزنا دوري التقليد - أي دور التشويش ودور الإتقان - إلا أن ننزل من اللغة منزلة أبنائها منها.
فعالم اللغة اليوم لا تقاس معرفته بما وعى من ألفاظ اللغة وشواردها وغرائبها، ولكن بما عرف من أصولها وخصائصها، والأديب ليس ذلك الذي إذا كتب استعار ألفاظ غيره؛ سواء أرادها أم لم يردها، ناسبته أم لم تناسبه، ولكن هو الذي يتصرف بألفاظ اللغة كما كان يتصرف بها أبناؤها، فكل كلمة يقولها هي له تترجم عما في نفسه. والشاعر ليس ذلك المقلد الوزان، ولكنه هو الذي يصدر فيما يقوله عن وحي طبعه وإلهام خياله، يتحكم بلفظه لا يتحكم لفظه به ... ويسرنا أن نقول إن في مصر اليوم من أنصار هذا المذهب الجديد عددا ليس بقليل، ونمسك القلم عند هذا القدر ولعلنا أطلنا.
كتاب الكامل وبعض كتاب هذا العصر
قال ابن خلدون: «سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول الأدب وأركانه أربعة دواوين، وهي: كتاب الكامل للمبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفرع منها.»
لست أقصد أن أبين لك ما هو الأدب في عرف ابن خلدون وشيوخه، وإنما أقصد أن أبين لك أسلوب كتاب الكامل ثم ما بينه وبين صحفنا وكتبنا من شبه أو اختلاف.
صفحة غير معروفة