77

مصطفى النحاس

تصانيف

وقد مرت بسعد مرحلة من مراحل حياته كان فيها ذلك الأزهري القروي الجديد في الذروة من هذه الصناعة، كما كان كثير من قواد الثورات وزعماء الحركات الفردية في التاريخ هم كذلك في طليعة المحامين.

سعد زغلول.

وكان لا يزال ينقص سعدا شيء آخر من باب الاستعداد للدور الذي قدر له القيام به وإن تقدمت سنه وجاوز كهولته، وهو أن يتحدث عن سوء ما صنع الاحتلال ببلاده، ومبلغ تدخله في إدارة شئون الحكم في قومه، ومدى سيطرته، ونواحي الفساد الذي أحدثه في المصالح العامة، ووجوه الاستغلال الجشع السيئ الذي عمد إليه بالنسبة للمرافق وسائر أجزاء الدولة، حديث الخبرة والتجربة، والمباشرة الفعلية، وكان ذلك يقتضي أن يكون «موظفا» قريبا من ممثلي الاحتلال ورجاله، مشاهدا عن كثب أساليبه ووسائله، مصطدما بمساويه ومفاسده، محتكا بجناياته وآثامه، مختبرا لأسراره وأغراضه ومراميه؛ لكي يستعين بذلك كله في دور التمرين على جمع الحقائق، وفهم الخفايا وإدراك السياسة واتجاهاتها ومجاريها وتياراتها، فوق الأديم ومن المسارب الخافية.

كذلك أرادت الأقدار لسعد أن يدخل وظائف الحكومة، وأن يتقلب في مناصبها، ويتنقل في كبارها وخطيرها؛ حتى بلغ مكان «الوزير» فيها، فإذا ما تحدث بعد ذلك عن سيئات الاحتلال ومناكره وجرائمه وكبره، كان لكلامه قيمة، ولحديثه خطر، ولنقده أثر ؛ لأنه كلام وزير جرب واختبر، ومثلت له العظات والعبر، وشهد كل ذلك السوء من قريب.

وكانت مباشرة سعد للوظائف مقتضية منه كذلك أن يستكمل ما نقصه، ويستوفي ما لم يكن أصابه، ويضيف إلى قوة أزهريته لوازم عصريته، وثقافة جيله وعلوم بيئته، فلما دخل القضاء الأهلي حيث المرجع فيه للقوانين الفرنسية، احتاج الأزهري الذي لم يدرس غير لغة دينه أن يدرس لغة قوانينه؛ فتعلم الفرنسية، وأعانه تعلمها والإكباب على دراستها والانكماش في استيعاب دقائقها ومطالبها على توسيع دائرة قراءته، إذ فتح أمامه آفاقا جديدة من العلم، وكشف حياله عن أفكار بكر من المعرفة وأفانين من الثقافة، وندحات مترامية للبحث والاستخلاص، والاقتباس والاستقراء.

كان سعد جديدا في كل ما سلك نفسه فيه، كان جديدا كأزهري؛ لأنه نبغ كاتبا، وأندر ما يكون الأزهريون كتابا. وكان جديدا كمحام؛ لأنه دخل هذه الصناعة وهي منحطة المستوى يومئذ قليلة الشأن سيئة السمعة فرفع مستواها، وعظم شأنها وأحسن سمعتها، فلما عطف على القضاء زانه وسما به، وصان كرامته، وحرص على استقلاله، وله فيه أحكام جديدة ومواقف مشهودة، ليس هذا الكتاب مجال ذكرها، فكان ذلك كله جديدا في القضاء، فانتبه العصر له، وأحسه الجيل الذي يعيش فيه، والتفتت الدولة نحوه لترى من هذا الرجل الجديد الذي برز على مسرح الحياة، واستحوذ على الاحترام في وسطه والإعجاب! فلم تستطع إلا أن تعجب هي أيضا به، ولم تتمالك هي كذلك من احترامه؛ فرفعت وظيفته في القضاء، ثم لم يبق أمامه إلا كرسي الوزارة فبلغه بعد بضع سنين.

وكان سعد جديدا كوزير، إذ عهد إلى «الأزهري» القديم بوزارة المعارف الحديثة، فإذا هو في العلم رجل عصري مجدد، ووزير مبتكر مستحدث، وإذا هو وطني جديد كذلك، وسياسي من طراز آخر غير ما ألفت الدولة من قبله، فإن أزهريته القديمة لم تمنع أن ينادي بجانب جامعة الأزهر إلى تأسيس جامعة حديثة للعلم الجديد، حتى يتحول بالغرض الذي رمى إليه الاحتلال من التعليم بجعله أداة للوظائف، وإقامة المدارس معامل لتفريخ الموظفين، إلى غرض جديد وهو التفوق في العلم للمنفعة العامة، والاستزادة من الدراسة لخير الشعب ومصلحة المجموع وخدمة البلاد.

كان سعد وزيرا مرهوبا، متكبرا كبرياء المقدرة لا كبرياء الغرور، وطنيا حريصا على حقوقه كوزير، محافظا على مكانه كمصري، مستقل الإرادة كرئيس، ممسكا بكرامته لا ينزل بها يوما إلى الإنكليز، فرأى في المعارف دنلوب المستشار يريد أن يسير معه كمسيرته مع الذين من قبله وزراء، له هو السلطان الفعلي ولهم هم البصمة والإمضاء، وهو كل شيء وهم ليسوا شيئا بجانبه، وعنده هو كل السلطان وعندهم هم الخور والتسليم والإذعان؛ فوقفه سعد حيث ينبغي أن يقف، واسترد منه المزيد من سلطانه، وقصره على ما ينبغي لمثله في حدود الاختصاص، ونطاق الواجب، ودائرة القانون.

وهكذا كان سعد في الوظائف جديدا، أدخل عليها في شخصه ومسلكه وتصرفه العناصر الخليقة بها، والمطالب التي كانت تنقصها، فراع الإنكليز أن يروا فيه هذه الشخصية الجديدة، فقال قائلهم - وهو لورد كرومر - في خطاب وداعه بدار الأوبرا في سنة 1907 كلمته المشهورة: «إني لأذكر - أيها السادة - اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، ولكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احتراما عظيما، وإذا أصاب ظني ولم أخطئ، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعد زغلول باشا مستقبل عظيم في سبيل خدمة هذه البلاد؛ لأنه قد أوتي جميع الصفات اللازمة لخدمتها، فهو رجل صادق، كفء، مستقيم، مقتدر، بل هو رجل شجاع فيما هو مقتنع به.»

لقد كانت تلك الكلمة اعترافا ونبوءة من رجل سياسي يعرف أقدار الرجال حتى في خصومه، ويزن الناس بأدق الموازين حتى وإن كانوا أعداءه؛ بل تلك كلمة أكرهته شخصية سعد على النطق بها إكراها، وشهادة أجبره هذا الوزير الأزهري الجديد على المصارحة بها إجبارا، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقد رأى كرومر حياله عنصرا جديدا في الوظائف العليا؛ عنصر شجاعة لم تكن للذين جربهم من أيام الثورة الماضية، شجاعة الرأي إذا ما اقتنع به صاحبه، فما هو بمردود عنه، بل عنصر احترام للذات وحرص على الكرامة، يأبى فيها التفريط ، وينأى عن التساهل بسبيلها، وكبرياء وترفع لا يعرفان الملق ويكرهان الازدلاف، ويحتفظان بمركز الوزير في بلاده، فلا ينظران إلى الاحتلال إلا النظرة إلى الغاصب المستلب، لا السيد المالك صاحب السلطان.

صفحة غير معروفة