في الحادية والعشرين أمسك سعد بالقلم ليكتب للناس، ولو أنه كان إنسانا من عرض المجتمع، أو شابا اعتياديا يريد أن يسلك في الحياة سبيلا ذللا، لجنح إلى ممالأة النظام القائم، ومشايعة السلطة الحاكمة، ولكنه كان مطبوعا على الثورة، مخلوقا لها، منتظرا لأوانها، وكان عظيما وهو صغير، قوي الروح وهو شاب، مترفع النفس وهو مبتدئ؛ فكان أول ما كتب للثورة وفي الثورة، وأول ما أرسل قلمه فيه محاربا مهاجما مكافحا هو الاستبداد والظلم والانحطاط والجمود.
لقد راح سعد يبشر للثورة ويوطئ لها، ويجمع الوقود اللازم لنارها، فكتب كثيرا في تأييد الشورى وحكم الدستور وسلطان الجماعة، ونقم كثيرا على الحكم الفردي والنظام المطلق والنزوع إلى الاستعباد.
هذا هو كل ما اشترك سعد به في الثورة الأولى؛ لأنه كان يومئذ حديث السن، قريب العهد بالقاهرة، بعيدا من الطبقة الكبيرة التي باشرت الثورة، غير متصل بالذين تغلغلوا فيها وأعدوا عدتها، وعاشوا في صميمها وتحت حرارتها؛ حتى لقد اتهم بعد الثورة بأنه كان سرا أحد المشتركين فيها، ولكن التهمة لم تلبث أن بدت كاذبة، فلم يصب منها غير مقاساة السجن في بداية حياته، وتجربة شيء مما يتعرض له أبطال النهضات وزعماء الحركات العامة بسبيل ما ينادون الناس إليه، ويدعون الجماعات إلى اعتناقه من الأفكار الجديدة والمبادئ الحديثة والتعاليم.
كان سعد قبيل الثورة العرابية المزمار المتغني بألحانها، والمعزف الصادح بأنغامها، بل كان المصور الصنع الراسم لمعانيها في أفخم ألوانها، وكان جماع الأحطاب الجزلة لنيرانها، ولكنه عند هذا الحد وقف؛ لأن دوره لم يكن قد حان، وأوان ظهوره في أحسنه وأروعه لم يكن آن، وإنما كان حضوره تلك الحركة الأولى في معاني الثورات لحكمة من حكم القدر، وهي أن يشهد شيئا كالثورة ليشاهد أساليبها، ويختبر مزاياها وعيوبها، ويعرف حسناتها وسيئاتها، ويبلو بنفسه وجوه صوابها ونواحي أغلاطها، ويعلم الصالحين لها والأوكال عليها، والخلقاء بالمساهمة فيها، وغير الأحرياء بالانضمام إلى هيئتها، وحتى يكون ذلك كله بمثابة دور تمرين، ومرحلة رياضية، وسياحة فرجة، وفرصة اختبار ومشاهدة؛ لأن الطبيعة كانت تمهد له دورا آخر يكون هو فيه قطبه ومداره، ومظهرا أكبر من ذلك يروح هو رمزه ومصباحه ومناره، فوفرته يومئذ حتى يستوفي حاجتها، وتركته حتى ينضج للظهور، ويستجمع أدوات الإعلان، ويبرز في الحين المناسب والأوان، فيغمر الساحة والميدان، ويكون في القضية المصرية رسول عهد جديد.
جاء سعد مع الثورة الأولى أو التجربة الفاشلة لها، متفرجا كما قلنا من ناحيتها؛ ولكنه جاء أيضا مع بداية الاحتلال ليكون حاضر أمره من مقدمته، مشاهدا لمناظر مصابه ونكبته، حتى لا يتكلم عن الاحتلال إذا ما نهض محاربا للاستقلال، عن طريق السماع ورواية الأقوال، فإن ذلك لا يعطي المتحدث القوة التي تهز القلوب وتضرب على الأوتار، بل لكي يتحدث عن مصاب كان هو أحد شهود رؤيته، وكاد يروح بعض فريسته، بشعور الحاضر الذي تألم، وإحساس الشاهد الذي ابتلي واختبر، واقتناع الذي لم يعد في نفسه أي خالجة ارتياب.
وانطفأت الشعلة التي التهبت قليلا ثم خبت، فأين يذهب سعد وفيم يصح أن يكون؟ فكان جواب الأقدار أنه قد مر دور التجربة، وبدأ دور الاستعداد. وأول شيء يحتاج الرجل المخلوق للثورة هو الصوت الداوي، والجرس المرنان، واستكمال أفانين الكلام، ومعاني البيان؛ ليكون الخطيب المؤثر في العقول، المستحوذ على الآذان، الجياش الصوت يسمع الصفوف، ويصغي إليه الزحام، ويقود الجماهير وفي يده الزمام، ويوحي إليهم اليقين ويشرب أرواحهم الإيمان.
وكان سعد من الأزهر، ومع قوة الاستعداد قد تمكن في وقت قصير من اللغة وتملك ناصية البيان، وقام بنصيبه من الثورة فمثل فيها دور «الكاتب»، وبقي بعد فشلها والاستعداد لغيرها أن يستكمل لوازم «الخطيب»، ولم يكن استعداده الأزهري يؤهله يومئذ لأكثر من أن يكون «معلما» في المدارس للصغار والناشئين، وهذا ما لم ييسر له، ولم يكن صالحا لمثله؛ أو يكون «فقيها» على غرار الأزهريين والمجاورين أنفسهم، وهذا ما لم يتهيأ ليكونه؛ لأنه كان في الواقع «عصريا» حتى في ذلك الدور المحافظ، والبيئة المتشددة في الجمود، بل كان كل تفكيره يومئذ جديدا، وكل منزعه إلى التجديد، وكل مجانحه نحو تهيئة الأذهان لقبول النظريات الحديثة في الحضارة والاجتماع.
أين كان يمكن أن يذهب سعد ليتهيأ لدوره القابل ويتجهز للغد المنتظر، ولم يعد يستطيع أن يواصل شأنه «ككاتب» بعد فشل الثورة ومنزل الاحتلال بالبلاد، إلا إذا كتب في الفشل ذاته وأرسل قلمه في مديح الخيبة نفسها؟ وهذا ما لم يكن شأن سعد، ولا من مثل سعد يكون، ولا هو على طباعه بالجائز، ولا وجد الاحتلال في بدايته أحدا يتطوع له بمديح، أو يسخر قلمه في خدمته، ولا كانت ثم صحف مهيأة كأدواته إلا قليلا، ولكن لغير المصريين.
لقد كان هناك طريق واحد يتناسب وأزهرية سعد وبيان سعد، ويصلح أن يكون مجالا لتمرنه على الخطابة، وفسحة لرياضته على المنابر، وميدانا لتجربة قوة الجدل فيه، ومظهر العارضة البادهة التي أوتيها، وبلاغة الأسلوب التي انماز يومئذ بها، ورصانة المنطق التي كانت بارزة فيه ... وذلك أن يكون «محاميا»؛ ليخرج منها بعد ذلك «خطيبا»، ويكون له في الخطابة ذلك الشأو البعيد.
كذلك كان سعد في المطالع «محاميا»، يدافع عن الحق بالنسبة للفرد، كتدريب له على الدفاع عنه فيما بعد بالنسبة للجماعة، وقد دخل يومئذ على المحاماة وهي صغيرة فكبرت به، قليلة الشأن فعظمت بنباغته وحسن مسلكه وطهارة تصرفه، ومنذ ذلك الحين والمحاماة مصدر النوابغ، ومعين الشخصيات البارزة، ومنبت الصالحين للجهاد والدافعين إلى الثورة، وكبار المشتركين في الحركة الوطنية، والطريق إلى الوزارة، والمعوان على البروز في صفوف المدافعين عن بلادهم والمكافحين.
صفحة غير معروفة