117

مصطفى النحاس

تصانيف

إن كل نهضة وطنية نجحت في التاريخ كان فيها عنصر الدهماء أو الرعاع أو العامة، هو الذي يمثل الولاء والطاعة، وكان فيها عنصر القادة أو الخاصة هو الذي يمثل الإخلاص والوفاء، فمن غادر يوما إخلاصه سقط من موضعه؛ لأن العاطفة لم تعد تتبعه، وليس في الوطنية إكراه، كما لا إكراه في الدين، وقد تبين في الوطنية الرشد من الغي، ومن شأن هذا أن يصحح المقاييس ويضبط الموازين.

لقد أثبت الزمن أن الوفد عقيدة تتفانى فيها الأشخاص، وتختفي فيها الفردية، ويبرز فيها الإجماع، فكان ذلك كله إلى اليوم هو سر قوتها، وباعث جلالها وروعتها؛ إذ تبين بالتجربة والخبر أن الوفد هو شخصية العصر، وطابع الجيل، ومظهر الحياة المصرية. وحسبه هذا برهانا على صفته الطبيعية، ودليلا «ضمنيا» على شذوذ الآخرين.

الوفد هو الصخرة التي يقف من فوقها الشعب المصري بكل طبقاته ومعلميه ورعاعه، تتقاذف عليها الأمواج، وتترامى حولها اللجج، وتتكسر تحت سفحها الزوارق والمراكب، وهي قائمة عالية، تهزأ بالأعاصير والرياح العاتية؛ لأن كل إعصار سوف يهدأ، وكل عاتية إلى صحو وسكون.

واجتمعت للوفد يومئذ مئات الألوف من التواقيع، على رغم ما لقيت حركتها من المجاهدة والمغالبة، والمنع والمصادرة؛ فبادر سعد بمطالبة السلطة العسكرية بإعطائه هو وصحبه جوازات السفر إلى الخارج، وكانت السلطة تسوف وتتلكأ، وترجئ كلما ألح عليها سعد وردد طلبه، حتى كان أول ديسمبر فكتب سير ونجت إلى سعد يقول إنه على استعداد لقبول ما يقدم إليه من المقترحات بشأن نظام الحكم في مصر، بشرط ألا تكون غير متفقة مع نظام الحماية، فأجاب عليه سعد في الثالث من ديسمبر بأنه لا يسوغ لي ولا لأحد من أعضاء الوفد أن يطلب طلبات غير مطابقة لمشيئة الأمة التي عبرت عنها في توكيلها لنا.

ومن ذلك الحين بدأ الوفد يصدر الاحتجاجات، ويرفع المذكرات إلى رؤساء الحكومات وقناصل الدول بمطالب البلاد إلى مؤتمر السلام، حتى كان اليوم الثالث عشر من يناير سنة 1919، فوقف سعد في دار الباسل مناديا بحقوق البلاد، قائلا: «ليست فكرة الاستقلال جديدة في مصر، بل هي قديمة يتأجج الشوق في قلوب المصريين إلى تحقيقها كلما بدت بارقة أمل فيه، وتخبو ناره كلما استطاعت القوة أن تخمد أنفاس الحق، ولقد كان الوقت الحاضر أنسب فرصة لتحقيق هذه الفكرة ؛ لأن رابطة السيادة التركية أخذت تتضاءل حتى لم يبق شك في انقطاعها، وإن الاحتلال الفعلي لا يجد فرصة أنسب من هذه الفرصة لتحقيق كلمة لورد سالسبوري الذي قال في الثالث من نوفمبر سنة 1886: «نحن لا نبحث إلا عن الخروج من مصر بشرف!»

انقلب هذا الاحتلال الذي لم يكن له حق في البقاء إلى حماية في بادي رأي الإنكليز، ومن غير اتفاق مع مصر، ولكن الحماية هي أيضا أمر باطل بطلانا أصليا أمام القانون الدولي، ومخالف مخالفة صريحة للمبادئ الجديدة التي خرجت بها الإنسانية من هذه الحرب الهائلة؛ فنحن أمام القانون الإنساني قد أصبحنا أحرارا من كل حكم أجنبي، فلا ينقصنا إلا أن يقر مؤتمر السلام هذا الاستقلال، فتزول العوائق التي تقف بيننا وبين الاستمتاع به فعلا؛ ولهذا الغرض السامي المطابق لما في نفوس المصريين جميعا ألفت أنا وأصحابي الوفد المصري لنسعى في الوصول إلى الاعتراف بهذا الاستقلال، وتشرفنا بتوكيل الأمة إيانا في سبيل هذه الغاية السامية.»

وكان لهذا الخطاب دوي كبير وصدى متجاوب في البلاد، فقد كانت العاطفة مكبوحة، والآمال في الصدور محتجزة محتبسة، فلما ألقى سعد كلماته تلك، انبجست لها العاطفة، واستحمى الشعور، واضطرمت الصدور لهيبا.

وفي السابع من شهر فبراير عاد سعد فوقف وقفة أخرى، وقفة تاريخية رهيبة خالدة في جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع، وسط جمع جامع من الوطنيين والأجانب، وراح يهاجم الحماية مهاجمة علنية صريحة، مناديا بأنها حماية باطلة لا وجود لها قانونا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها، ولا يمكن أن تعيش بعد الحرب دقيقة واحدة!

وعلى هذا الصوت الداوي اهتزت مصر جميعا، وشاعت كلمته الخالدة في الندي والأوساط، وتناقلها الأجانب مقرونة بالتقدير والإعجاب بشجاعة سعد ووطنيته الصادقة الجريئة الباسلة.

وفي خلال ذلك قدمت وزارة رشدي باشا استقالتها أكثر من مرة احتجاجا على منع رئيسها وزميله عدلي باشا من السفر إلى الخارج للمفاوضة فيما عسى أن يكون عليه نظام الحكم في البلاد، وعلى منع وكلاء الأمة من السفر كذلك؛ فأخذت السلطات المختلفة تسوف في قبول الاستقالة، وحين تقبلتها في النهاية لم تستطع أن تؤلف غيرها، فبقيت كراسي الحكم خالية.

صفحة غير معروفة