مرت هذه الخواطر بفكري، فبقيت حائرا بين روعة الشعور ورحمته، وظللت صامتا لا أبدي حراكا، فسألني سعد في صوت عميق لن أنساه: «ما لك ساكت يا مكرم؟! ألا تظن أنها أحسنت صنعا؟!» عندئذ لم أطق صمتا، بل أجبته في صوت يرتجف: «نعم أحسنت فعلا.» وقلت في نفسي إنها لعظيمة جديرة بعظيم!
بقي العامل الثاني، وهو أيضا ذو صلة حيوية بتكوين الوفد ومصيره، فقد اقترح على سعد باشا أن يضم ثلاثة من الحزب الوطني إلى الوفد، فأصر سعد، وكأن الأقدار الرحيمة كانت تلهمه هذا الإصرار إلهاما - أصر سعد على أن يكون أحدهم مصطفى بك النحاس. ويقول سعد في مذكراته إنه تفاوض مع كل من مصطفى بك النحاس، وحافظ بك عفيفي من الحزب الوطني، فقبلا الانضمام، وإنه استعمل حق الرياسة في ضمهما إلى الوفد.
ومنذ ذلك الحين بقي مصطفى مع سعد، فظل الزعيم في كنف الزعامة، يأخذ عنها ويتزود منها، حتى شاء الله أن نفقد سعدا، فوجدنا مصطفى.
السيدة الجليلة أم المصريين في سنة 1920.
ودخل الناس يومئذ أفواجا في عقيدة الوطن، ووجدوا في الوفد الناشئ رمزه العالي، وتجسيم فكرته المقدسة. فكان الوفد من تلك النشأة الرهيبة والمولد الجليل، وسط المقاومات المخيفة، والأخطار المحدقة المكتنفة، وطنية الفطرة، وكان سعد ومصطفى وزملاؤهما فيه هم أمثلتها وحراسها وثقاتها، والوفد عقيدة الطبيعة، وأولئك حملة رسالتها؛ لأنه في ناحية الفطرة، الغريزة المدافعة عن ذاتها، وفي ناحية الطبيعة، المكافح عن حقها بكل قوتها. ولقد خاض الوفد من ذلك الحين خطوبا ومكاره، وتغلب في مدار السنين على محن وأهوال، وانطلقت به الفلك في موج كالجبال، فلم يكن العجيب له أن يكافح، ولا الغريب في أمره أن ينتصر؛ لأنه بقوته الروحية الغزيرة فيه منيع، وبذهاب قواعده العميقة في أغور الأرض التي قام من أجل الذود عنها ، باذخ شاهق يرد الطرف وهو حسير.
لم يصطنع الوفد أحد، ولم يأت به من عند نفسه إنسان، ولكنه جاء من وحي الطبيعة، وصرخة الغريزة، ومضب الحياة، فإن كان الوفد في العرف نظاما سياسيا، فهو في عمل النواميس أيضا نظام طبيعي؛ وإذا كان الوفد ظاهرة طبيعية، فهو كذلك ظاهرة حيوية؛ لأنه دليل على الحياة المتنبهة في هذه البلاد، وميزان حرارة إحساسها، ومقياس شعورها، المتصل بالطبيعة، المدافع عن الكيان والحياة والوجود.
والوفد منيع ... لأن نواميس الحياة معه، وقوات الأمة كلها تتبعه، ومظهر إجماع الشعب ضاف عليه، وما خلا الوفد شذوذ عن الطبيعة، وهيئات مصنوعة، والذين يزعمون أن «الحزبية» تجمع «الكل» ومساويها شركة بين الجميع، يكذبون على الواقع، ويتجنون على الحق والاختبار؛ لأن الصفة «الحزبية» وما تقتضيه من عدوان بغير حق، وظلم بلا جريرة، وبغي بلا إثم، وتحيز بلا سبب، لم تلابس الوفد يوما في أمر من أموره، ولم تشتمل على حركة من حركاته، وإنما هي أبدا شأن الأحزاب الموضوعة، وصفة الهيئات المصنوعة، وديدن الجماعات الصغيرة غير الطبيعية، ولم يتألف الوفد على نحو ما تتألف الأحزاب، ولكنه نبت نباتا، ونشأ ولم يدر أحد كيف نشأ، وإنما رآه الناس قد جاء عند الحاجة القصوى إليه، وتمخضت أكبر الحوادث عنه، وبما مع الحياة التي طلبت وجوده، ولم تجتمع على أحد من الأحزاب من الخطوب ما اجتمع عليه، فما ونت الشدائد عن خدمته، كشأن كل شيء طبيعي ينتفع بها، وأحسنت الخطوب إليه ككل نظام فطري تحسن إليه. ولقد نما لأن ملء نفسه شباب، وسناده قوة الحياة، ولم يثبت غيره ولم يأخذ في نماء؛ لأنه يمثل شيخوخة الحياة وجزءها البالي، ونفايتها الطريحة الملقاة. وكل ما يجيء زائدا عن الحاجة أو دون حاجة تدعو إليه، محتوم عليه الفناء، مقدور له التلاشي على الدهر والعفاء.
الوفد فكرة طبيعية قديمة لا حدود لقدمها، كما هي كذلك فكرة شابة دائمة لا يذبل شبابها. في عهد الرومان، وفي عهد الفرس، وفي عهد المماليك، وفي كل زمن كانت مصر أسيرة فيه غير مطلقة ، كان «الوفد» قائما، ولكن باسم غير هذا الاسم، ومظهر مغاير لهذا المظهر، وقوة متفاوتة وهذه القوة؛ لأنه التعبير الطبيعي عن حاجة الجيل ونهضة العصر، ظل متنقلا في قطار الحياة، ومواكب الأجيال؛ لأن الطبيعة تكره الشيخوخة، وتنزع أبدا إلى التجديد، تحرص دائما على الشباب.
وكل فكرة طبيعية كالوفد لا تلبث أن تجد أنصارها، ولما كانت مسايرة للحياة، كان من الطبيعي أن تتقدم الحياة كلها إليها بكل طبقاتها ومجاميعها، وهذا هو مظهر روعتها ومقياس طبيعتها وصدقها وصحتها؛ فالذين يدركون سائر كلياتها وجزئياتها يقومون حراسا عليها، وثقات حفظة معلمين مرشدين إليها، والذين يدركون مغزاها الطبيعي لأنه متغلغل في طبيعتهم، متجاوب مع فطرتهم، يتبعونها ويطيعون معناها، ويلبون نداءها، ويعطونها احترامها وولاءها. فالتابع فيها إذن والمتبوع سواء؛ لأنها شاملتهم جميعا، وهم حولها بمختلف جموعهم وطبقاتهم؛ فعند الحراس عليها إخلاص ووفاء، وعند التابعين لها طاعة وولاء، والفكرة نفسها هي فوق الجميع قادة وجندا، وزعامة وحشدا؛ لأنها سائرة بهم إلى الانتصار.
هذا هو الوفد إذن قادته وجنوده، ومن أكبر فخاره ومحمدته، وأسطع دليل على طبيعيته، أن يجتمع حوله المتعلمون والعامة، الذين يدعوهم الكارهون «رعاعا» تهوينا من شأنهم، وتهانفا بوصفهم، فكذلك هي الفكرات الاجتماعية، بل هذا هو في الواقع مقياس صوابها، وميزان صدقها وصحة النزوع إليها؛ لأن الوطنية ليست مسألة تعليمية، ولكنها مظهر عاطفة إنسانية، ومجال غرائز عليا، وفي مثل هذا يتماثل الناس متعلمين و«رعاعا» وخواص وعوام، وما قامت في الدنيا نهضة وطنية إلا ومن حولها «الرعاع» وغير الرعاع؛ لأن الأمم والرعاع مترادفان، والشعوب والجماهير معنيان متحدان، بل الرعاع هم في الواقع الذين أنجحوا النهضات؛ إذ كانوا أبدا روحها ووجدانها، وعصبها وكيانها، وهيكلها وبنيانها، ولم يتبعوها على وسواس العقل، وإنما تبعوها على إيمان العاطفة، وصوت الإيمان أغلب أبدا على وساوس الأذهان.
صفحة غير معروفة