وهناك جبال النوشادر، فإذا كان في الصيف رؤيت في الليل نيران قد ارتفعت من تلك الجبال من نحو مائة فرسخ بالنهار يظهر منها الدخان لغلبة شعاع الشمس وضوء النهار، ومن هناك يحمل النوشادر، فإذا كان في أول الشتاء فمن أراد من بلاد خراسان أن يسلك إلى بلاد الصين صار إلى ما هنالك وهنالك واد بين تلك الجبال طوله أربعون ميلا أو خمسون فيأتي إلى أناس هنالك على فم الوادي فيرغبهم في الأجرة النفيسة فيحملون ما معه على أكتافهم، وبأيديهم العصي يضربون جنبيه خوفا أن يبلح أو يقف فيموت من كرب الواعي وهوله، حتى يخرجوا إلى ذلك الرأس من الوادي، وهنالك غابات ومستنقعات للماء، فيطرحون أنفسهم في ذلك الماء، لما قد نالهم من شدة الكرب وحر النوشادر، ولا يسلك ذلك الطريق شيء من البهائم، لأن النوشادريلتهب نارا في الصيف، فلا يسلك ذلك الوادي داع ولا مجيب، فإذا كان الشتاء وكثرت الثلوج والأنداء وقع في ذلك الموضع فأطفأ حر النوشادر ولهيبه، فسلك الناس حينئذ ذلك الوادي، والبهائم لا صبر لها على ما ذكرناه من حره، وكذلك من ورد من بلاد الصين فعل به من الضرب ما فعل بالمار، والمسافة من بلاد خراسان على الموضع الذي ذكرناه إلى بلاد الصين نحو من أربعين يوما بين عامروغير عامر ودماس ورمل، وفي غير هذه الطريق مما يسلكه البهائم نحو من أربعة أشهر، إلا أن ذلك في خفارات أنواع من الترك.
وصف بلاد التبت
وقد رأيت بمدينة بلخ شيخا جميلا ذا رأي وفهم وقد دخل الصين مرارا كثيرة ولم يركب البحر قط، ورأيت عدة من الناس ممن سلك من بلاد الصغد على جبال النوشادر إلى ارض التبت والصين ببلاد خراسان وبلاد الهند متصل ببلاد خراسان والسند مما يلي بلاد المنصورة والمولتان، والقوافل متصلة من السند إلى خراسان، وكذلك إلى الهند، إلى أن تتصل هذه الديار ببلاد زابلستان، وهي بلاد واسعة تعرف بمملكة فيروز بن كبك، وفيها قلاع عجيبة ممتنعة، ولغات مختلفة، وامم كثيرة، وقد تنازع الناس في أنسابهم: فمنهم من ألحقهم بولد يافث بن نوح، ومنهم من ألحقهم بالفرس الأولى في نسب طويل، وبلاد التبت مملكة متميزة من بلاد الصين، والغالب عليهم حمير، وفيهم بعض التبابعة على حسب ما ذكرنا من أخبار ملوك اليمن فيما يرد من هذا الكتاب، وذلك موجود في أخبار التبابعة، ولهم حضر وبحو، وبواديهم ترك لا تدرك كثرة، ولا يقاومهم أحد من بوادي الأتراك، وهم معظمون في سائر أجناس الترك ة لأن الملك كان منهم في قديم الزمان، وعند سائر أجناس الترك أن الملك سيعود إليهم ويرجع فيهم ولبلاد التبت خواص عجيبة في هوائها وسهلها ومائها وجبلها، ولا يزال الإنسان أبدا ضاحكا بها فرحا مسرورا، لا تعرض له الأحزان ولا الغموم ولا الأفكار، ولا تحصى عجائب ثمارها وزهرها . ومروجها وهوائها وأنهارها، وهي بلاد تقوى فيها طبيعة الدم على الحيوان الناطق وغيره، ولا يكاد يرى في هذا البلد شيخ حزين ولا عجوز، بل الطرب في الشيوخ والكهول والشباب والأحداث عام، وفي أهلها رقة طبع وبشاشة وأريحية تبعث على كثرة استعمال الملاهي والمعاقرة وأنواع إيقاع الرقص، حتى إن الميت إذا مات لا يكاد يداخل أهله عليه كثير من الحزن مما يلحق غيرهم من سائر الناس عند فقد محبوب أو فت مطلوب، ولهم تحنن كثيرمن بعضهم على بعض، والتتيم فيهم عام، وكذلك يظهر في سائر بلادهم، وهذه البلاد تسمى بمن ثبت فيها ورتب من رجالى حمير فقيل تبت لثبوتهم فيها، وقيل: لمعاني غير ذلك، والأشهر ما وصفنا، وقد افتخر دعبل بن علي الخزاعي بذلك في قصيدته التي يناقض فيها الكميت ويفخر بقحطان على نزار، فقال:
وهم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الصين كانوا الكاتبينا
صفحة ٦٤