45- أخبرنا محمد بن محمد بن المسلمة، قنا عبد الملك بن محمد بن بشران الواعظ، إملاء، أنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، قنا أبو القاسم عبد الله بن محمد العطشي، قنا عمر بن محمد بن عبد الحكم، حدثني محمد بن أحمد الأزدي، عن سليمان ابن يزيد الداري، قال: حدثني محمد بن ميسرة الطائي -وكان من العابدين- قال:
خرجت يوما أطلب قلبي في بعض الأودية، فبينا أنا أجول في قفر مهول، إذا أنا برجل عليه ثياب الرهبان، جالس إلى جنب صخرة، باهت كأنه يخاطب قلبه، فدنوت منه، فقلت: إني لأرجو أن أدرك اليوم مع هذا ما خرجت له، فسلمت عليه.
فرد علي السلام، ثم أطلق كهيئة المهموم.
قال: فجلست، فلما رآني قد استويت جالسا قام، فلما رأيته قد قام، قلت: رحمك الله! أسألك عن شيء؟
فقال: يا هذا إن المسائل قد فرغ منها من كان قبلنا، وخلفوا العمل عليها، فلسنا نحتاج إلى سائل، ولا نفتقر إلى مسئول، أفلا تستدل بقليل الموعظة على كثيرها، وترضى باليسير منها مع الشغل فيها؟
قلت: بلى. ولكن فكيف بموعظة من ميراث حكمة، وكيف بحكمة من ميراث عمل صالح من فساده.
قال: فتغير لونه، وقال: كيف قلت؟ أعد على ما قلت.
فأعدت عليه، فتنفس، ثم قال:
إلهي لولا ما أؤمل من صفحك عن كثير التخليط، وتجاوزك عن عظيم الجرائم، لظننت أني سأموت حزنا وكمدا في الدنيا، لما سمعت من وعيدك الذي أزعج قلوب الصديقين، فلم تعد إلى مستقرها حتى علمت أين محلها، ثم قال: تعس عبد ادعى محبة سيده، وهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا وأمسى، ثم قال: أستغفر الله، لقد أكثرنا القول، وإنه لمن أسباب القواطع وحالات الفراغ، ثم قال: ألك حاجة؟
قلت: فأوصني.
فقال: أوصيك بما أوصي به نفسي، وأدعو إليه قلبي، وأسأل فيه ربي، أوصيك بطاعته فيما افترض عليك، وأنهاك عن معصيته فيما نهاك عنه، وإذا عملت الحسنة فردها إليه تجده القائم بثوابها، وإذا عملت السيئة، فاستكن له عندها، وتضرع إليه في الصفح عنها تجده في الموضع الذي تؤمله، وإذا رأيت السراء قد أحاطت بك فدعها تجري بما أمرت فيك، وخذ أنت في الشكر عليها، وإذا رأيت الضراء قد أقبلت إليك، فاستقبلها بالاستكانة إلى الله عز وجل فيها فإنه المأمول لكشفها، وإياك وأخذ الأمور من نفسك، فلا تغني عنك شيئا، وكن في جميع أمورك تخاف الله عز وجل.
قال: ثم مضى، فجعلت أنظر إليه حاسدا له على ما وهب الله من السياحة والراحة.
صفحة ٤٨