إن لأفلاطون - بغير شك - سلطته الطاغية وجبروته الفكري المهيمن على التراث الغربي كله وجانب لا يستهان به من التراث الشرقي والإسلامي. وهو - ككل مفكر ضخم - قلعة هائلة لها ألف باب وباب. وقد تراكمت شروح المفسرين «وإسقاطاتهم» عليه عبر العصور، وأغلب الظن أن الركام سيرتفع وتتكاثف طبقاته على مر الزمن. وستحتمل القلعة شتى الصور وتتعرض لغزوات من مختلف الفرسان. ولو حاولنا تتبع تفسيراتهم «من سياسية وأخلاقية ورياضية ودينية وصوفية ووجودية واشتراكية مثالية أو علمية ... إلخ»، لطال بنا الحديث وغاب عنا الأثر. يكفي القارئ أن ينظر قائمة الكتب التي وضعت في تفسير نظرية المثل ليعرف أنها شيء ليس له آخر ولن يكون ... هذا أمر طبيعي يحدث لأفلاطون كما يحدث لغيره من كبار المفكرين. وإذا لم يكن هناك مفر من اختلاف الرؤى والتفسيرات لاختلاف المفسرين والأجيال، فلا مفر أيضا من إعادة النظر في الشروط «القبلية» لدراسة أفلاطون أو غيره. ولا بد من أن يحاول كل من يقترب منه أن يخلصه من الشوائب الغريبة التي حجبت جوهره النقي. إن أفلاطون نفسه لن يعبد الطريق للسالكين، ولن يعدهم بدرب مفروش بالزهور والرياحين. فهو في صميمه باحث عن الحقيقة لا «يملكها» في نظرية أو مذهب. والبحث عن الحقيقة ينفي عنه صفة المفكر المتزمت التي يلصقها به الكثيرون. وأول كلمة ينبغي أن نتعلمها من كتاب حياته وأعماله هي كلمة «التطور». فقد ظل يعمل على تكوين أفكاره طوال حياته، ويتطور من مرحلة إلى مرحلة، ينقد نفسه باستمرار، يصلح ما في نظرياته من خطأ أو نقص أو غموض، يضيف إلى بوتقة فكره كل جديد ويحاول أن يتمثله ويعيد بناءه ويضمه إلى كيانه الحي. ولكنه بقي مفكرا «جدليا» قبل كل شيء، لا تقف جدليته عند الجدل الصاعد والنازل المعروفين، بل هو في حوار دائم مع نفسه، ومع الآخرين وضد الآخرين، وهمه الأول والأخير هو الدفاع عن ركن أركان فكره وكفاحه، وهو «جدلية» المثل والمشاركة التي يقوم عليها وجود الإنسان العادل الكامل في المجتمع العادل الكامل، كما أشرنا أكثر من مرة،
9
ولهذا اتجه بفكره وعاطفته إلى إصلاح فساد العالم والإنسان والقيم والنظم على صورة عالم معقول ثابت بسيط، ولم يكف أبدا عن المطالبة بالمشاركة فيه لتحقيق هذا الإصلاح بقدر الطاقة ...
هل أنصفت أفلاطون أم ظلمته؟ هل فهمته أم أسأت فهمه؟ أتراني أضفت تفسيرا جديدا إلى ركام التفسيرات القديمة والحاضرة، أم تراني نزعت قناعا واحدا من الأقنعة التي تحجب عنا وجهه؟ هل أسأت معاملة «كلمته المكتوبة» - وهي اليوم ضعيفة عاجزة عن الدفاع عن نفسها في غيبة «أبيها»؟! (فايدروس، 275 وبعدها). إن القارئ أقدر مني على الإجابة على هذه الأسئلة؛ فهي في النهاية رؤية محدودة بجهد صاحبها، مقيدة بالقيود الخفية التي تطوق ذاتيته وانعكاس مجتمعه وزمانه وعصره على نفسه، كما هي مقيدة ببعد نظره أو قصره ... ربما كان أهم ما في هذه الرؤية أنه حاول أن يجد الإنقاذ عند أفلاطون «ورسالة الإنقاذ لا تنفصل عن أي نظرية أو تفكير حقيقي في أي زمان أو مكان»، وأن يخلصه من شوائب العصر والبيئة والظروف التاريخية والتفسيرات المتعاقبة ليكشف عن صفاء معدنه. ثم حاول أن يخطو خطوة أخرى فحرر صوت المنقذ وصورته من خرافته السحرية، لكي يطرق سمع كل واحد منا ويحثه على تحرير نفسه بنفسه وإنقاذ نفسه بنفسه ليكون قادرا على المشاركة في إنقاذ مدينته ومجتمعه ... ولن يكون الإنقاذ في عصر العلم والمعرفة إلا تأكيدا جديدا لصوت المنقذ والمحرر الأول في حياة أفلاطون، ألا وهو صوت سقراط الذي لا يزال يردد نداءه لكل ضمير: اعرف نفسك بنفسك!
هكذا ترتبط فكرة «الإنقاذ» عند أفلاطون بالمنقذ الفرد، كما يستحيل تصور المنقذ نفسه بغير الحرية التي تمكنه من اختيار مصيره والالتزام بنتيجة اختياره، وبغير الإيمان بقيمة المعرفة التي هي وسيلة إنقاذ نفسه وغيره. ولا تعني هذه المعرفة أن يكون المنقذ بطلا أسطوريا معصوما ولا متخصصا في فرع من فروع الفلسفة كالمنطق والجمال والأخلاق ونظرية العلم ... إلخ؛ لأنه في الحقيقة إنسان وبشر يريد أن ينقذ بشرا مثله. هذا هو المعنى العميق الذي يؤكده رمز الكهف كما سبق - أنه يعرف «الخير» - قيمة القيم ومصدر كل معرفة ووجود في عالم المثل والأشياء في آخر السلم الجدلي الخالص، ثم يهبط إلى ظلام الكهف ليحرر زملاءه، مع علمه بالخطر الذي يهدده كما هدد سقراط من قبل. فتحرير الذات هنا من أجل تحرير الغير هو قضية صراع في مواجهة المحن، وحرية مسئولة تهتم بالتحرر «من ...» بقدر ما تكافح للتحرر «لأجل ...» ولهذا تشغل النفس وتطهيرها من الشهوات وحركتها الذاتية ... إلخ مكانة هامة من تفكير أفلاطون وتتطور نظريته عنها مع تطور هذا التفكير؛ إذ إن الإنسان الفرد ونفسه الفردية هما في النهاية صورة مصغرة للمدينة (الجمهورية، 368-369)، ويضيق المجال عن تتبع هذا التطور منذ أن كان الجسد في رأيه هو قبر النفس وكانت ماهية الفلسفة هي تعلم الموت وكان هدف الفيلسوف يتجه للموت (فيدون، 64أ)، ومنذ أن كان كل همها أن تتحرر من تأثيره حتى تتشبه بالله بقدر الطاقة وتحقق ذاتها «الإلهية» الحقيقية وتصبح بارة وعادلة عن معرفة وإرادة (ثيآتيتوس 146، 174) إلى أن تصبح مبدأ تحديد ذاتها وحركتها الذاتية المنتظمة والوسيط وهمزة الوصل والمشاركة بين عالم الطبيعة وعالم العقل، لتكون أخيرا هي المسئولة عن «خلق» ذاتها وصنع «كونها الصغير» (فايدروس، 245-248، فيلييوس، 30ج ، طيماوس 35-37أ-ب، 43ب)، إنها إذا كانت غير مسئولة عن تكوينها ووجودها في الجسد، فهي مسئولة عن سقوطها وضياع حقيقتها الإلهية وفقدان حريتها، نتيجة انتصار الجزء الشهواني منها على الجزء العاقل وتسلطه عليه. من هنا اختلفت نفس الحكيم التي واجهت المحنة والصراع المستميت (فايدروس، 247ب)، حتى تشبهت بالله بقدر الطاقة وحققت ذاتها العادلة في مجتمع عادل، عن نفس الطاغية الذي استعبدته الشهوات ففقد حريته، مهما بدا في الظاهر حرا وشجاعا، ومهما حاول أن يجعل هذه النفس الشهوانية هي المبدأ العام للحكم وسياسة الناس. من هنا أيضا تفاجئنا هذه الكلمات الخاطفة التي ينهي بها أفلاطون محاورته الكبرى وكأنها وصيته للأجيال التالية التي لا تزال تواجه نفس المشكلة وتكافح للبحث لها عن حل ينبع من أعماق الفرد ومحنته في هذا العالم، هذا العالم الذي يجد فيه نفسه مع إخوته في البشرية - مسئولا عن مصيره واتجاهه نحو الدمار الشامل أو السعادة الممكنة:
أما الفضيلة فلا تعرف سيدا؛ فالمرء يحصل منها المزيد أو الأقل بقدر ما يكرمها أو يزدريها. واللوم إنما يقع على من يختاره، أما السماء فلا لوم عليها. (الجمهورية، 617)
لا عاصم بعد اليوم من الطوفان، يا بلدي، يا حظي العاثر، أنت الخاسر، إن لم تلجأ لسفينة نوح، يسلمها الموج الهادر والملاحون الفقراء إلى الشطآن، والربان؟ أطهر من أطهر إنسان، عين ترعى النجم الساهر، في أفق العدل يلوح، يا بلدي، ويرد إليك الروح، وحياة الروح حوار ...
في شتاء 1978
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
صفحة غير معروفة