ما معنى هذا الرمز؟ ماذا يقصد أفلاطون بهذه الحكاية؟ إنه يتولى الجواب بنفسه، يقوم بتفسيرها بعد الانتهاء من روايتها مباشرة (517أ، 8، إلى 517د، 7).
فالمسكن الذي يشبه الكهف هو صورة «المقر الذي يتبدى للنظر كل يوم»، والنار المتوهجة في الكهف، فوق رءوس سكانه، هي «صورة» الشمس، وقبة الكهف تمثل قبة السماء. تحت هذه القبة يعيش البشر مرتبطين بالأرض مقيدين بها، كل ما يحيط بهم ويشغلهم هو بالنسبة إليهم «الواقع» أو الموجود. في هذا المسكن الشبيه بالكهف يحسون أنهم «في العالم»، يشعرون أنهم «في بيتهم»، يجدون كل ما يثقون فيه ويعتمدون عليه.
هذه الأنواع المختلفة من التطابق بين الظلال والواقع الذي يجربه الإنسان كل يوم، بين انعكاس النار في الكهف والنور الساطع الذي يغمر الواقع القريب المألوف، بين الأشياء الموجودة خارج الكهف والمثل، بين الشمس ومثال المثل؛ هذه الأنواع المختلفة من التطابق لا تستنفد مضمون الرمز. فهو يروي لنا أحداثا ولا يقتصر على بيان الأماكن التي يقيم فيها الإنسان داخل الكهف وخارجه. والأحداث التي يصورها هي مراحل انتقال من ظلام الكهف إلى ضوء النهار يعقبها الرجوع من ضوء النهار إلى ظلام الكهف؛ هي في الواقع مراحل انتقال أو تحول من مستوى للمعرفة إلى مستوى أعلى منه، من مفهوم غامض عن الحقيقة إلى مفاهيم أخرى أكثر وضوحا.
في المستوى الأول يحيا البشر في الكهف مقيدين بالسلاسل والأغلال، أسارى التعود على القريب والمألوف. إنهم يعيشون في عالم «الكلمات»، وهو العالم الذي ينشأ فيه الإنسان بالطبيعة، ويقيد بالنظم والعلاقات الاجتماعية. هذا العالم يولد فيه الإنسان ويستسلم له. بل إن الناس جميعا تحيا فيه على نحو سلبي، أشبه بعبيد مغلولين، تحملهم سفن الرق إلى هدف مجهول. قيدوا من أعناقهم وسيقانهم بالسلاسل، طرحوا في كهف سفلي مظلم، لا يستطيعون أن يلتفتوا وراءهم، لا يرون إلا الظلال التي تتحرك على جدار مواجه لهم، لا يسمعون غير الأصداء التي تصل إلى آذانهم، لا يدرون أن هذه الظلال والأصداء ليست سوى ظلال وأصداء ... هم في مرحلة خداع الكلمات، مرحلة الظن أو التخمين «أيكازيا»،
3
يحيون فيها منذ الطفولة، وقد يعيشون فيها ويموتون ضحايا السفسطة والسفسطائيين، والجهال والدجالين ... هذا العالم هو نسخة كل النسخ على الإطلاق ...
في المستوى الثاني يحدثنا «الرمز» عن الخلاص من القيود والأغلال، فقد يتحرر أحد المسجونين أو يحرره أحد، سيمكنه أن يلتفت برأسه ويحرك رقبته وساقيه. وستؤلمه حركة أعضائه، لا سيما إذا نهض واقفا على قدميه ومشى على الطريق الذي كان مدخله يقع في ظهره وظهر زملائه المساجين «وهو الطريق المؤدي إلى أعلى وإلى خارج الكهف». وستؤلمه أيضا عيناه لأنه سيرى نارا صناعية مشتعلة وراء ظهورهم، وسيدرك أنها علة الظلال التي تسقط على الجدار المواجه لهم. وسيصبح «أكثر اقترابا من الموجود» (الجمهورية 515د، 2)؛ لأنه سيشاهد موكب الممثلين العابرين على الطريق الممتد بين النار والمساجين، ويعرف أن أشكال هؤلاء الممثلين وأدواتهم هي الظلال التي كان يراها معهم، وأن أصواتهم هي الأصداء التي كانوا يسمعونها. وسيفرح لأنه يرى الآن بشرا حقيقيين ومدركات واقعية، بدلا من رؤية الظلال «نسخ الأشياء» وسماع الأصداء «نسخ الكلمات».
أخذت الأشياء الأصلية الواقعية تعرض نفسها كما تعرض ظلالها على ضوء النار المشتعلة داخل الكهف. فإذا اتفق للعينين أن تقعا على الظلال، غشيت هذه الظلال على البصر وحجبت عنه رؤية الأشياء نفسها. عندئذ يمكن أن يعتبر أن ما كان يراه من قبل - أي الظلال - أكثر تكشفا ووضوحا أو أكثر حقيقة،
4
مما يظهر له الآن «نفس الموضع السابق من الجمهورية»، وربما حن للرجوع إلى حالته الأولى حيث لم تكن تؤلمه الحرية ولا كان نور المعرفة يعشى عينيه، بل كان سعيدا بتقبل أصداء الكلمات التي تصل إليه بغير مقاومة، قانعا بمشاهدة الأشباح والظلال، بل بمشاهدة نصفها الأعلى وحده! ولعل هذا الاحتمال الثاني - كما يقول أفلاطون - هو الأرجح. لأن معظم الناس لا يعرفون شيئا في حياتهم ولا يريدون أن يعرفوا شيئا؛ ولهذا قلما يتحرر واحد من كهف المسجونين، وأقل منهم من يقطع طريق المعرفة في مرحلته الثانية ...
صفحة غير معروفة