4 (1625-1699م) الذي لقنه أسس الرياضة، وعرفه بالفلسفة الفيثاغورية والعلم الطبيعي والتفسير الميكانيكي السائدين في عصره. ويبدو أن المحاولات التي كان يبذلها «فايجل» للتوفيق بين فلسفة أرسطو والفلسفة الميكانيكية وتطبيق المنهج الرياضي على الأخلاق والميتافيزيقيا قد تركت أثرا لا يمحى من نفس ليبنتز. وانشغل بالرياضة والميكانيكا، ولكنه لم يستطع أن يتخلص تماما من الفلسفة المدرسية؛ إذ ظل يفكر في نزهاته الوحيدة في الغابة القريبة من ليبزج في «الصور الجوهرية» التي قال بها المدرسيون، وهل ينبغي عليه أن يتخلى عنها، أو يبقي عليها في مذهبه المقبل! وقد ظهرت آثارها في أول بحث دراسي وضعه في حياته عن مبدأ التفرد، الذي أشرت إليه، ولكنه استطاع على كل حال أن ينتزع نفسه منها؛ ليرجع إلى دراسة القانون التي أتمها في جامعة ألتدورف في سنة 1667م (إذ أبت عليه جامعة ليبزج أن يحصل على الدكتوراه لصغر سنه ).
وجذبته طبيعته المتطلعة لكل جديد وغريب إلى مدينة نورمبرج، فقضى فيها فترة قصيرة أشبع فيها شوقه إلى معرفة أسرار إحدى الجمعيات الروحية التي كانت تسمي نفسها جمعية «أصحاب الصليب الوردي»، وتمارس طقوسا خفية لاستجلاء أسرار الدين والطبيعة والمعادن والعثور على حجر الفلاسفة!
وتعرف ليبنتز بعد ذلك بقليل - أو ربما أثناء إقامته القصيرة في نورمبرج - على البارون يوهان كرستيان بوينبرج المستشار السابق لأمير «ماينس» وأسقفها يوهان فيليب فون شونبرج. وفطن المستشار إلى مواهب المحامي الشاب، وسعى له في العمل لدى الأمير، كما ساعده على الإلمام بمشكلات السياسة الأوروبية. وقد كانت المشكلة الكبرى التي تشغل عقول السياسيين وترجف قلوبهم في ذلك الحين هي حماية الإمبراطورية الجرمانية الممزقة من مطامع فرنسا وقوتها المتزايدة. وسافر ليبنتز في شهر مارس سنة 1672م في مهمة دبلوماسية إلى باريس، وفي جعبته مشروع مفصل لغزو مصر، يكشف عن علم غزير بأحوال مصر وثرواتها في ذلك الحين. وحاول أن يغري «الملك الشمس» (لويس الرابع عشر) على محاربة الإمبراطورية العثمانية لتحويل نظره عن أطماعه في الحدود الغربية المشتركة بين البلدين. غير أن الملك الشمس لم يأبه بهذا المشروع، ولعله لم يسمع به على الإطلاق. وأفهم وزراؤه المبعوث أن زمن الحروب المقدسة قد فات؛ فأخفقت المهمة الدبلوماسية إخفاقا ذريعا. (ويشاء القدر أن يكتشف نابليون هذا المشروع العجيب أثناء احتلاله لمدينة هانوفر بعد ذلك بأكثر من قرن كامل!) غير أن إقامته في باريس عوضته عن هذا الفشل السياسي؛ إذ أتاحت له فرصة الالتقاء بعدد كبير من رجال الدين والفلسفة والعلم الرياضي والطبيعي نذكر منهم على الترتيب: أنطوان آرنو، ومالبرانش، وكرستيان هيجنز، وآدم ماريوت، بل لقد أسعده الحظ بمشاهدة موليير في إحدى مسرحياته، ولا بد أنه شعر أثناء وجوده في باريس كأنه يعيش في بيته وبين أهله، فانطلق لسانه باللغة الفرنسية التي لم يلبث أن أتقنها، وساعده هذا على كتابة أهم أعماله بهذه اللغة التي كانت، إلى جانب اللاتينية، لغة العلم والعلماء.
وسافر ليبنتز في شهر يناير سنة 1673م في بعثة أرسلها أمير ماينس إلى لندن، وكانت إذ ذاك مركزا هاما للبحوث الرياضية والعلمية. وقد اغتنم فرصة إقامته في العاصمة الإنجليزية، فكتب رسالة إلى هوبز الذي كان معجبا بفلسفته الطبيعية، ولكنه لم يتلق ردا عليها، فاتصل بأعضاء الجمعية الملكية، وتوثقت أواصر المودة الروحية والعلمية بينه وبين العالم الكيماوي الشهير روبرت بويل، غير أن إقامته في لندن لم تدم طويلا، فلم يلبث أن غادرها في شهر مارس من نفس السنة عائدا إلى باريس على أثر الأنباء التي بلغته عن وفاة أمير ماينس. وأذن له الأمير الجديد في الاحتفاظ بلقب مستشاره القانوني، ولكنه حرمه راتبه وجرده من بعثته الدبلوماسية! ومع ذلك فقد تمكن من مد فترة إقامته في باريس ثلاث سنوات أخرى، قضاها متفرغا للدراسات العلمية، عاكفا على البحث والاطلاع، وتبادل الأفكار مع العلماء في عاصمة النور، وكسب عيشه من الاستشارات القانونية (إذ كان خبيرا في شئون الطلاق!) والإشراف على تربية ابن بوينبرج المستشار السابق الذكر.
كانت أهم كتاباته وبحوثه في تلك الفترة في الرياضة «فتعرف إلى أعمال باسكال وطور الآلة الحاسبة»، وفتح له هيجنز باب الدراسات الرياضية العالية التي سرعان ما تفوق فيها على أستاذه! وكان أعظم ما أدت إليه هو اكتشافه لحساب اللامتناهي في الصغر (التفاضل) الذي أتمه سنة 1676م، وكان نيوتن قد سبقه إليه سنة 1665م دون أن يعلم. وقد بين البحث بعد ذلك أنهما توصلا إليه بطرق مختلفة، وفي استقلال تام عن بعضهما البعض، وإن كان هذا لم يمنع من نشوب خلافات مؤسفة حول أسبقية أحدهما الآخر.
وغادر باريس في سنة 1676م عائدا إلى بلاده، بعد زيارة قصيرة للندن ولاهاي، حيث لقي إسبينوزا واستمرت المناقشات الفلسفية بينهما عدة أيام. وقد ظلت هذه الزيارة مثارا للجدل، كما أحاط الغموض بعلاقة الفيلسوفين، ولكن يبدو أن ليبنتز لم يقتنع بآراء إسبينوزا، وعارض نظريته عن الله ونقده للأديان، وإن لم يكن هناك شك في أنه سعى للاطلاع على مخطوطاته التي جاهد الفيلسوف الهولندي المنطوي على نفسه لحجبها عنه! ويظهر أن ليبنتز قد اتجه إلى إسبينوزا والأمل يداعبه في أن يجد لديه الحل الذي ينقذه من أخطاء ديكارت! فلما لم يجد هذا الحل يئس منه وسخط عليه! ولكنه لم يخل مع ذلك من التأثر به إذ أقنعته النتائج التي توصل إليها إسبينوزا بأن التفسير الميكانيكي للعالم تفسير غير كاف، كما تأثر بغير شك بفكرته عن النزوع
Conatus
التي أخذت شكلا آخر لديه، ولعله أن يكون كذلك قد تأثر قليلا أو كثيرا بفكرته عن الجوهر الكلي الذي أصبح لديه قوة دينامية فردية متميزة بعد أن أدار وجهه ناحية أفلاطون وأرسطو والمشائين!
مهما يكن من شيء، فقد مات إسبينوزا بعد ذلك بشهور قليلة. وكتب ليبنتز رسالة إلى القس جالوا يقول فيها هذه العبارة العجيبة: «مات إسبينوزا في هذا الشتاء، إن له ميتافيزيقا غريبة، مليئة بالمتناقضات ...»
وصل ليبنتز إلى هانوفر في شهر ديسمبر سنة 1676م. وقبل وظيفة مستشار في بلاط الدوق يوهان فريدريش وأمين مكتبته. وأظهر الدوق عطفه الشديد على ليبنتز وتفهمه لمشروعاته السياسية والدينية ومنجزاته العلمية، وبقيت العلاقة بينهما أقرب ما تكون إلى العلاقة بين الأصدقاء، حتى مات الدوق في سنة 1679م، فأحس ليبنتز بخسارته الفادحة، التي زاد من وقعها على نفسه أن خلفاءه لم يفهموه أو يقدروه. فقد خلف الدوق شقيقه أرنست أوجست، ثم جاء بعده ابنه جورج لودفيج، ولم يكن لهما نصيب من ذكاء العقل أو رقة القلب، ومع ذلك فقد شاءت العناية الإلهية أن تعزي الفيلسوف الوحيد عن خسارته بالقرب من سيدة مثقفة نبيلة لم تبخل عليه هي ولا ابنتها بمودتها ورعايتها.
صفحة غير معروفة