كل فلسفة تستحق هذا الاسم أشبه بكائن عضوي حي، مثلها في هذا مثل كل عمل باق في الأدب والفن والعلم والحياة.
وقد حاولنا جهد الطاقة أن نتعرف على الخطوط العامة التي يتألف منها نسيج هذا الكائن، والأعمدة التي يقوم عليها هيكله. وعلينا الآن أن ننظر من الخارج، لعل الرؤية الكلية أن تكشف عن أبرز قسماته وملامحه.
ربما كانت «الوحدة» هي أول ما يلفت النظر في فلسفة ليبنتز. فهي فلسفة تحاول أن تضم الكثرة في مركز واحد أو بؤرة واحدة. صحيح أن التجربة تعلمنا كل لحظة أن الأشياء متعددة ومتنوعة، ولكن الفلاسفة يتساءلون منذ القدم: أهناك وحدة تضم هذه الكثرة الهائلة من الأشياء، وعلى أي نحو تتم؟ أم أن هذه الوحدة شيء من صنع العقل الذي يفرضها على الموجودات المتعددة بطبيعتها؟
أجاب أفلاطون على هذا السؤال، فافترض وجود «أيدوس»، أو مثال أو نموذج تشارك فيه أشياء مختلفة، ثم حاول بعد ذلك أن يوحد بين هذه المثل والنماذج العديدة في مثال أعلى ونموذج أشرف وأسمى، سماه «الله» حينا، والخير في معظم الأحيان. وقد تابع ليبنتز خطى أفلاطون في بحثه عن الوحدة التي تجمع الكثرة، ولكنه سلك منهجا يختلف عن منهج أفلاطون. فهو يتحدث مثله عن أفكار أبدية خالدة؛ أي عن مثل أو نماذج أولى لكل المخلوقات، وهذه المثل والنماذج كائنة في عقل الله. أن جميع الأشياء المتناهية على علاقة ببعضها البعض، وهذه العلاقة تؤلف بينها في وحدة حقيقية. ولهذه العلاقة نفسها وجهان؛ فهي تعبر من ناحية عن أن جميع الأشياء المتناهية إنما هي في نهاية الأمر مونادات؛ أي كائنات واحدة أو «أحادات»، كما تعبر من ناحية أخرى عن أن كل مونادة منها تعكس العالم كله، أي تعكس جميع المونادات الأخرى على صفحة العالم دون أن نضطر في نفس الوقت للكلام عن مبدأ لهذه الوحدة من خارج العالم، سواء أكان هذا المبدأ هو الله أم الأفكار، ولكنه يرى من ناحية أخرى أنه لا يمكن تفسير هذه الوحدة القائمة داخل العالم إلا بالرجوع إلى الله؛ لأن الله هو أصل جميع المونادات المخلوقة أو المتناهية، وعلة تجانسها واتساقها مع بعضها البعض.
لقد قيل بحق إن ليبنتز قد انزلق أثناء بحثه عن الوحدة التي تضم كثرة الموجودات إلى نوع من الواحدية النفسية أو الروحية التي تعبر عنها هذه الجملة: كل ما هو موجود، فهو من جوهر الروح أو العقل (المونادة). وقيل أيضا إن فكرته الصحيحة عن تعلق كل موجود له طابع الجسم بكل موجود له طابع الروح أو العقل قد بولغ فيها مبالغة كبيرة في فكرة أخرى خاطئة تقول بأن العقل أو الروح كما نجربها في أنفسنا هي الموجود الوحيد الممكن. ومع ذلك فقد نستطيع أن نرد على هذا الزعم، فنقول إنه إذا صح اتهام ليبنتز بأنه أقام نوعا من الواحدية فيما يتصل بعالم التجربة والخبرة، فإن من الخطأ البالغ أن تنسب إليه تلك الواحدية المطلقة التي ينتفي فيها الفارق بين الله والعالم؛ ذلك لأن ليبنتز يذهب بوضوح إلى أن الله متعال على العالم، وهو يعبر عن هذا الرأي على النحو التالي: إما أن كل مونادة تؤلف مع مونادات أخرى الجسم الذي تحكمه مونادة مركزية، وإما أن تكون هي نفسها مونادة ذلك الجسم، كما أن المونادة المركزية التي تقوم بوظيفة النفس أو الروح يمكنها، بالاشتراك مع مونادات أخرى، أن تؤلف الجسم المتعلق بشكل أعلى للروح. وبهذا نعتبر الله، وهو المونادة الأصلية، بمثابة الروح العليا كما نعتبر عالم المونادات المتناهية بمثابة جسم الله، ولكن هذا كله أبعد ما يكون عن تفكير ليبنتز الذي يرى أن الله لا يدخل في تكوين النسيج الذي يؤلف عالم المونادات المتناهية. فهذه المونادات المتناهية جميعا، حتى أسمى العقول وأعلى الأرواح، تعتمد دائما وبالضرورة على مونادات أخرى تكون الجسم الذي تتعلق به، أما الله، والله وحده، فهو مبرأ من الجسمية، منزه عنها كل التنزيه (المونادولوجيا 72) هكذا يصل تفكير ليبنتز في سعيه إلى الوحدة إلى الحد الذي يقف عنده. ومهما أغراه مذهبه بتخطي هذا الحد، أو أوحى به إليه، فإنه يظل على تمسكه به ولا يتعداه.
هذا البحث عن الوحدة وراء التنوع، وهذا الاقتناع بأن الفكر والوجود في صميمهما شيء واحد، يجعلان بغير شك من ليبنتز فيلسوفا أفلاطونيا.
16
والواقع أنه كان يميل إلى هذا الوصف ولا ينكره. غير أن هناك من الأسباب ما يدعونا في نفس الوقت إلى وصفه بالفيلسوف الأرسطي. صحيح أنه لم يكن ليرضى عن هذا الوصف الذي ربما أثار في نفسه ذكرى الفلسفة المدرسية الجافة التي شاعت في أيامه، وتجمدت فيها أفكار أرسطو الحية في صيغ ميتة. غير أن إحساس ليبنتز بقيمة الفرد يسوغ لنا إطلاق الصفة المهيبة عليه! فهو يتفق مع أرسطو في أننا نلتقي بالوجود الحقيقي في الموجودات المتعددة أو في الجواهر المفردة. والتنوع العجيب الذي نشاهده مع تنوع الأفراد واختلافها وكثرتها يعد من أهم خصائص العالم وأجلها قيمة. وهو لا يوافق أرسطو على هذا كله فحسب، بل يذهب إلى أن النظام الذي نراه في العالم لا ينبغي أن يزيد عما هو عليه، حتى لا يؤثر على التنوع الحافل فيه. إن الفرد المتميز المتوحد يحتفظ بقيمته في ذاته. وقيمته في تفرده وأصالته التي تجعله موجودا نسيج وحده، لا ثاني له في الوجود كله. ومن الواضح أن ليبنتز يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه أرسطو. فلم يكن في وسع مفكر يوناني أن يقدر فكرة التفرد كل التقدير؛ لأن هذا يعتمد إلى حد كبير على النظرة المسيحية إلى الشخصية والتاريخ. ولهذا يمكننا أن نقول إن ليبنتز يواصل السير على طريق التراث الفلسفي المسيحي حين يعتبر التفرد قيمة، وحين ينظر إلى العقل بوصفه أعلى صورة من صوره. وهو في الواقع لا يكتفي بتكرار هذه الفكرة القديمة، وإنما يعبر عنها تعبيرا جديدا يكشف بدوره عن أصالته. فهو يرى أن تفرد المونادة الفردة يمكن تفسيره من خلال علاقتها بالكل، أعني من خلال المنظور الذي تطل منه كل مونادة على العالم، وتعكسه على طريقتها ومن وجهة نظرها. فإذا طبقنا هذا على الإنسان أمكن القول بأن تفرده يعتمد على تفرد الصورة التي يلتقطها عن العالم وتميزه عن غيره من الناس. إن وجود الفرد يعتمد على وجود المجموع. وقد رأى ليبنتز هذا رؤية مثالية واضحة، ولكن فلسفته لم تتجاوز هذه الرؤية الهندسية المتجانسة. ولم تؤثر عليها فكرة العلاقة الشخصية بين الأفراد، ولا فكرة التأثير والتأثر المتبادل بينهم في الواقع والمجتمع. ولهذا ظلت الفردية والتفرد عنده بعيدين عن كل ما تحملانه اليوم من المعاني الوجودية والطاقات الانفعالية والبواعث الاجتماعية والنفسية.
ولهذا فقد يكون من الخير ألا نحمل فكرة التفرد عنده بأكثر مما تحتمل، ولا نستخرج منها نتائج لم يكن من الممكن أن ينتهي إليها. ومن يدري؟ فلعله كان يريد بها تأكيد فكرة «الواحدية»؛ أي تأكيد القول أن كل موجود واحد، وأننا مهما جردناه من كل صفاته فلن نستطيع أن نجرده من صفة أنه واحد إلى جانب أنه موجود، وهي الفكرة التي أكدها أفلوطين من قبله عن «الواحد» المختلف عن كل ما يصدر عنه. ثم أكدها هو من ناحية الصفات والخصائص التي ينفرد بها كل موجود عن كل ما عداه. ولا يجب بطبيعة الحال أن نفهم هذا من الناحية العددية فحسب؛ إذ إن هذا بعيد كل البعد عن تفكيره. بل يجب أن نفهم منه أنه يؤكد أن الفرد ليس فردا من ناحية العدد فحسب، وإنما هو فرد من ناحية الفاعلية والطاقة والطابع الشخصي، الذي يتميز به عن كل فرد (أو جوهر) سواه، وهي فكرة أساسية في مذهبه في الوجود والدين والأخلاق جميعا؛ إذ بغير هذا الطابع الشخصي والفردي لن يكون ثمة مجال للثواب والعقاب بعد الموت. •••
هكذا حرص ليبنتز على تأكيد فكرة التفرد والتوع حرصه على تأكيد فكرة الوحدة والشمول. وهذا يكشف لنا عن سمة أخرى من أبرز سمات فكره، وأعني بها ميله الدائم إلى التوفيق بين الآراء المتعارضة والتأليف بين الاتجاهات المتباينة في مركب واحد. تشهد على هذا محاولته التوفيق بين النظرة الغائية والنظرة الميكانيكية للعالم؛ أي بين أفلاطون وأرسطو من ناحية وبين ديكارت والعلماء الطبيعيين في عصره من ناحية أخرى.
صفحة غير معروفة