ولا يتردد ليبنتز في وصف النشاط العقلي للإنسان بأنه نشاط مبدع، فليست العلوم في رأيه مجرد انعكاس للعالم، وإنما هي نتيجة نشاط تلقائي خلاق يتم في نفس الإنسان وعقله، وليس العالم مجرد حيوان مثقف، وإنما هو في الحقيقة إله صغير. ولنستمع في النهاية إلى ما يقوله ليبنتز في تمجيد الإنسان المبدع، صورة الله وخليفته على الأرض: «إن النفوس على وجه الإجمال مرايا حية أو صور من عالم المخلوقات، أما العقول فهي بالإضافة إلى ذلك صور من الألوهية أو من مبدع الطبيعة ذاته، إنها تملك القدرة على معرفة نظام العالم ومحاكاة شيء منه في عينات (أو نماذج) معمارية خاصة؛ إذ إن كل عقل في مجاله أشبه بألوهية صغيرة» (المونادولوجيا 83). (ج) العالم والإنسان والله
لا زالت مشكلة الله من أهم المشكلات التي شغلت الفلاسفة، وسوف تشغلهم على الدوام، جعلها البعض تاج البحث الإنساني عن المعرفة، وعدها البعض الآخر خطرا يهدد الفلسفة في الصميم. ولكلا الفريقين وجهة نظره التي تستحق منا وقفة قصيرة. فقد يتفق للعقل البشري، بعد رحلة شاقة في مجاهل الفكر، أن ينفذ للمطلق (وهو ما نسميه الله)، فيرى فيه الهدف الأخير، وتبدو له الرحلة، وكل ما وجده على الطريق في ضوء غامر جديد. ولعل هذا أن يكون هو السبيل إلى بلوغ الوحدة العليا لكل ما هو كائن. فقد كانت الوحدة منذ البداية هي موضوع الفلسفة الأثير، إن لم تكن هي موضوعها الوحيد، غير أن هناك من يحرم على الفلسفة أن تبحث في مشكلة الله، وينكر على الفلاسفة أن يضعوا نظرية عنه أو دليلا على وجوده. فالفلاسفة في رأيهم يخرجون بذلك عن وظيفتهم، أو يتهربون من مواجهة المشكلات الفلسفية الحقيقية، أو يدارون كسلهم العقلي، أو يتحاشون الاعتراف بأنهم ساروا في طريق مسدود.
ولا شك أن التفرقة واجبة بين إنسان ينطلق من دوافع جادة، فيصل إلى معرفة الله عن طريق البحث النزيه، وبين إنسان يسيء استخدام فكرة الله للتخلص من المشكلات التي تواجهه، أو يسلك إليه طريق الفلسفة مدفوعا بدوافع غير فلسفية.
وقد عاصر ليبنتز فلاسفة أساءوا استخدام فكرة الله، أو أسندوا إليها وظيفة لا تسلم من النقد والاعتراض. فها هو ذا ديكارت يعتقد أن وجود العالم الخارجي رهن بوجود إله صادق لا يمكن أن يخدعنا، وها هم أصحاب مذهب المناسبة
Occasionalists ، وفي مقدمتهم أرنولد جيلنكس،
14
قد لجئوا إلى الله لكي يفسروا العلاقة بين النفس والجسم - التي لم يستطع ديكارت أن يقدم لها تفسيرا مرضيا. قالوا إن النفس كلما أرادت أن تحرك جسدها علم الله بمقصدها، فسبب الحركة على الفور. وقد عجز مالبرانش عن تفسير معرفة العقل البشري بالحقائق الأزلية؛ لعجزه عن إدراك القوى التلقائية للمعرفة التي تكمن في العقل نفسه، ولهذا لجأ أيضا إلى الله؛ فالله، وهو الحقيقة المطلقة، ماثل للعقل، وهذا العقل يدرك الحقائق الأزلية في الله مباشرة.
وقد وقف ليبنتز في وجه ديكارت وأصحاب مذهب المناسبة، ولم يقبل رأي مالبرانش بغير نقد وتمحيص، ولكن هذا لا ينفي أنه كثيرا ما لجأ لفكرة الله ليتغلب على المصاعب التي تواجه مذهبه، ويكفي أن نتذكر فكرته عن الاتساق المقدر. فالمونادات يستحيل عليها أن تؤثر على بعضها البعض تأثيرا سببيا، والتفاعل بين الأجسام والمونادات - وهي عقول هذه الأجسام وأرواحها - شيء لا يمكن تصوره. ومن ثم فلا يمكن تفسير الاتساق الظاهر في العالم إلا بالرجوع إلى الله الذي خلق المونادات، وأوجد الاتساق بينها منذ البداية. وقد رأى ليبنتز في ذلك دليلا جديدا على وجود الله لم يسبقه أحد إليه، ولكنه كما ترى دليل ضعيف لا يسلم من النقد، فقد استخدم فكرة الله أو بالأحرى أساء استخدامها ليجد مخرجا من طريق فلسفي مسدود.
قد نستطيع أن ننكر أدلة ليبنتز على وجود الله، أو نتشكك فيها من وجهة نظر مذهبية، ولكننا لا نستطيع أن ننكر الجهود المخلصة التي بذلها في حديثه عن الله، وتفكيره فيه تفكيرا منطقيا. ويتجلى هذا في نقده للدليل الديكارتي على وجود الله. فقد استنتج ديكارت وجود الله من فكرة الكائن المطلق الكمال؛ لأن الكائن الكامل إذا افتقر إلى الوجود، فلن يكون مطلق الكمال. ويعترض ليبنتز على هذا، فيقول إن ديكارت لم يثبت إمكان هذه الفكرة. فربما كانت فكرة «الكائن المطلق الكمال» فكرة متناقضة في ذاتها، مثلها مثل فكرة «العدد الأكبر». غير أن ليبنتز يعتقد أنها فكرة يمكن إثبات خلوها من التناقض، وعندئذ يكون الدليل الديكارتي مقنعا وحاسما. فمن إمكان وجود كائن مطلق الكمال يمكن استنتاج واقعية هذا الوجود بالفعل. إن وجود الله (كما تقول المونادولوجيا 40) - نتيجة بسيطة مترتبة على إمكان وجوده. وهكذا فإن الله وحده (أي الوجود الضروري) يتميز بأنه يجب أن يوجد إذا كان ممكنا. ولما لم يكن هناك شيء يمكنه أن يمنع إمكان ذلك الذي لا حدود له، ولا يتضمن سلبا ولا تناقضا، فإن هذا يجعلنا بالضرورة قادرين على معرفة الله معرفة قبلية
Apriori (المونادولوجيا 45)، ومنذ أن صاغ القديس أنسيلم (1033-1109م)، هذا الدليل الشهير في بداية العصر الوسيط والفلسفة المدرسية والآراء تختلف حوله بين الإعجاب والإنكار - وقد كان القديس توماس الأكويني كما كان كانت من أهم معارضيه. ومهما تكن وجاهة الأسباب التي يقدمها معارضوه، فسوف يعترفون بغير شك بأن الحجج التي يقدمها مؤيدوه لا تخلو من القوة - ولا بد على كل حال من فهم الدليل فهما يقوم على اعتبار الإطار الفلسفي الذي نشأ، ثم تجدد فيه. وقد كان هذا الإطار دائما هو الفلسفة المثالية التي تطمح أن تكون في نفس الوقت فلسفة واقعية؛ ومن ثم سميت بحق بالمثالية الواقعية. يصدق هذا على ليبنتز كما يصدق على القائلين به قبله.
صفحة غير معروفة