البخل (4)
الكبر
فكانت ثروته - على الحقيقة - لا تقع تحت حصر، وقد قدروها بما يربو على خمس مئة ألف دوكا.
4
وكان قصره - لفخامته - كقصر ملك مؤثثا بأفخر الأثاث والرياش غاصا بالخول والعبيد، فيه نحو خمس مئة قينة جميعهن ذوات جمال رائع نادر، ومما هو خليق بالإعجاب في قصره هذا مكتبته الفاخرة التي كانت تحوي عدا الكراسات المنفصلة زهاء أربع مئة ألف مجلد، وقد تمت السعادة لهذا الرجل فلم يعد ينقصها شيء، فقد كان بهي الطلعة جميلا شابا، قد أوفت سنه على الثلاثين، ينحدر نسبه من أسرة عريقة، يرجع أصلها إلى بعض قبائل العرب التي نصرت النبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد كان لكثرة الثراء يسبح في بحر من الذهب، ولما كان عليما بفنون الأدب قديرا على التعبير عن آرائه في عذوبة ولطف ورقة، ذاعت شهرته الأدبية وتردد ذكره في المحافل والأندية، وتوافر الناس على محبته وتقديره. ولكن مما يؤسف له أن شيئا من الخوف والارتباك قد ملأ فؤاده، وتملك عليه مشاعره، وأصبح ينتابه من الوساوس والشكوك والاضطرابات المفزعة ما لا حد له، ومن جراء ذلك كثر أعداؤه، وقل أولياؤه، وكان أهل قرطبة من أشد الناس نقمة عليه - لكبريائه وغطرسته - فقد حدث مرة أن زار مدينتهم مع زهير، فواجه بكل احتقار وزراية أكبر رجل من عظماء قرطبة الممتازين بأصل أرومتهم وبمواهبهم الخلقية والعلمية، وكان مما جبه به ذلك العظيم قوله: «إني لا أرى في مدينتكم هذه سوى صعلوك سائل، أو مأفون جاهل.»
وفي الواقع كانت أوهام هذا الرجل ودعواه الجوفاء قد وصلت إلى حد السفه والجنون، وقد جاء في شعره من الغلو والإغراق في القول ما معناه: «لئن كانوا قد أصبحوا كلهم عبيدي، فإن نفسي لن يقنعها ذلك ولن تسكن إليه.»
ومن أبياته التي كان يرددها في كل مجلس وعند كل مناسبة، وبخاصة إذا كان يلعب الشطرنج ما مضمونه: «قد أمن الشقاء جانبي، وهو ممنوع البتة أن يحوم حولي، أو ينزل بساحتي.»
وهذه القحة التي كان يواجه بها القضاء، ويجبه بها القدر، كانت مبعث إثارة النفوس والخواطر ضده، مما حمل شاعرا جريئا على أن يجهر بما يعبر به عن الرأي العام، فأحال الشطر الثاني إلى ضد معناه، وذلك حيث يقول: «ولكن القدر الذي لا ينام سيوقظ راقد الشقاء.»
صفحة غير معروفة