وجماع القول أن بلاد الفرس كانت مسرحا لكثير من التخرصات الدينية، حيث التقت فيها أخلاط من المذاهب المختلفة وأمشاج من النحل المتباينة، ووجدت في هذه البلاد حقلا خصبا لازدهارها.
وقد انتهت هذه المقدمات بالنتيجة الطبيعية المنتظرة فظهرت بينهم فئة آثرت تحكيم العقل، فأنكرت كل عقيدة، وظهرت فئة من الطبيعيين ، وهو دين قديم من أديان الفرس، وكان من تعاليمهم حب التعذيب، والدعوة إلى قهر النفس، وكبح جماح الشهوات والعمل على ترقية النفس الإنسانية ورياضتها على الصبر والجلد.
وكانوا يؤمنون - إلى ذلك - بكائن أعلى ويدينون بقدرة الله وخلود الروح بينما غيرهم لا يعتقد ذلك، وهم أحرار الفكر يبيحون لأنفسهم أقصى مدى من الحرية.
وعبثا حاول الملوك والكهنة مجتمعين أن يتألبوا على هدم هؤلاء المبتدعين الذين يروجون البدع الدينية، وأن يقضوا على أولئك المستبسلين الجرآء، ويبيدوهم بالسيف والنار.
فكانت نتيجة هذا الاضطهاد شبوب نار الثورة ضد رجال الدين والحكومة، وكانت هذه الثورة مما سهل على العرب غزو بلاد فارس التي كان قسم كبير منها تابعا للإمبراطورية الرومانية.
ومما ضاعف الخطر ووسع الهوة، انقسام الكنيسة نفسها، فإن أحد الفريقين وهم المجوس الذين كانوا أكبر قوة في القسم الغربي من الإمبراطورية، أي في «ميدي» وفي «فارس» تمسكوا بكتاب «أڤستا» وتشبثوا بنصوصه المقدسة.
وقام الفريق الثاني وهو فريق الزنادقة وسوادهم في «بكنزيان» وذهبوا إلى الأخذ بكتاب «الزند»، وهو التفسير المجازي لكتاب «أڤستا» المقدس.
وقد تمسك به كثيرون كما تمسك سواد الفرس - بعد ذلك - بالقرآن، فلم يبق في بلاد فارس من يدين بالمذهب الأول القديم إلا الأقلون عددا. •••
هكذا كانت حال البلاد الفارسية عندما فتحها العرب حيث ضاعت ديانة المجوسية - من جديد - ضياعا أبديا، فلم يتح لها القيام من كبوتها بعد هذا العصر، ولم يقدر لها أن تعود دينا للحكومة.
ولقد كان الفتح أكبر ضربة قضت على هذه الديانة، ولم يكن من ذلك بد؛ لأن الكنيسة والعرش كانا متحدين اتحادا وثيقا، وكان سقوط أحدهما رهنا بسقوط الآخر.
صفحة غير معروفة