مختصر تفسير ابن كثير

الصابوني ت. 1450 هجري
61

مختصر تفسير ابن كثير

الناشر

دار القرآن الكريم

رقم الإصدار

السابعة

سنة النشر

١٤٠٢ هـ - ١٩٨١ م

مكان النشر

بيروت - لبنان

تصانيف

- ٨١ - بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - ٨٢ - وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا تَمَنَّيْتُمْ وَلَا كَمَا تَشْتَهُونَ، بَلِ الْأَمْرُ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ وَهُوَ من وافى يوم القيامة وليست له حسنة، بل جميع أعماله سَيِّئَاتٌ، فَهَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَعَمِلُواْ الصَالِحَاتِ مِن الْعَمَلِ الْمُوَافِقِ لِلشَّرِيعَةِ، فَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا الْمَقَامُ شبيهٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يعملْ سُوءًا يُجز بِهِ وَلاَ يجدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَالِحَاتِ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ أَيْ عَمِلَ مِثْلَ أَعْمَالِكُمْ، وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ، حَتَّى يُحِيطَ بِهِ كُفْرُهُ فَمَا لَهُ مِنْ حَسَنَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: الشركُ. وقال الحسن: السيئة الكبيرة من الكبائر، وقال عطاء والحسن: ﴿وأحااطت به خطيئته﴾ أحاط به شركه، وقال الأعمش: ﴿وَأَحَاطَتْ به خطيئته﴾ الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إيَّاكم ومحقراتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرجُل حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَرَبَ لهم مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وأجَّجوا نارًا فأنضجوا ما قذفوا فيها (رواه الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ مرفوعًا) وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ فيه خَالِدُونَ﴾ أي من آمن بما كفرتم وَعَمَلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ فَلَهُمُ الْجَنَّةُ خَالِدِينَ فِيهَا، يُخْبِرُهُمْ أَنَّ الثَّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مقيم على أهله أبدًا لا انقطاع له.
- ٨٣ - وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ⦗٨٤⦘ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ يُذَكِّرُ ﵎ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أمرهم به من الأوامر، وأخذه مِيثَاقَهَمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَأَعْرَضُوا قَصْدًا وَعَمْدًا، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ، فأمرهم تعالى أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَبِهَذَا أَمَرَ جَمِيعَ خَلْقِهِ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾، وَهَذَا هُوَ أَعْلَى الْحُقُوقِ وَأَعْظَمُهَا، وَهُوَ حَقُّ الله ﵎ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ثُمَّ بَعْدَهُ حَقُّ الْمَخْلُوقِينَ وَآكَدُهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِذَلِكَ حَقُّ الوالدين، ولهذا يقرن ﵎ بَيْنَ حَقِّهِ وَحَقِّ الْوَالِدَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إليَّ المصير﴾ وقال ﵎: ﴿وقضى ربك أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إحسانًا﴾ إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السبيل﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن أَبِرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَن؟ قَالَ: «أُمَّكَ»، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبَاكَ؟ ثُمَّ أدناك ثم أدناك» وقوله تعالى: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ﴾ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَهُوَ آكَدُ. وَقِيلَ: كَانَ أَصْلُهُ ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إلا الله﴾ فحذفت (أن) فارتفع ﴿وَالْيَتَامَى﴾ وَهُمُ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَا كَاسِبَ لَهُمْ من الآباء، و﴿المساكين﴾ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وأهليهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ أَيْ كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قال الحسن البصري أن يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللَّهُ، وهو كل خلق حسن رضيه الله. كما روي عَنْ أَبِي ذَرٍّ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تحقرَّن مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَإِنْ لَمْ تجد فالق أخاك بوجه منطلق (أخرجه أَحْمَدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ ﵁ ورواه مسلم والترمذي)» يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، بَعْدَ مَا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ، فَجَمَعَ بَيْنَ طَرَفَيِ الإحسان (الفعلي) و(القولي) ثُمَّ أَكَّدَ الْأَمْرَ بِعِبَادَتِهِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ بالمتعين مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، فَقَالَ: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، أَيْ تَرَكُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَلَى عَمْدٍ، بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ إِلَّا القليل منهم، وقد أمر الله هَذِهِ الْأُمَّةَ بِنَظِيرِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين﴾ الآية.

1 / 83