تمهيد
الشخصيات
1 - بدء الكلام
2 - وحش البرية مع كاهنة الحب
3 - السفر لأرض الأحياء
4 - مصرع خمبابا في الغابة والجبل الأخضر
5 - لعنة عشتار على أوروك وقتل الثور
6 - الحمى تحرق إنكيدو ودخان الأحلام
7 - جلجاميش والرجل العقرب، وحوار مع سيدوري ساقية الحانة، وكذلك مع أورشنابي ملاح مياه الموت
8 - لقاء مع أوتنابشتيم وأخبار الطوفان عودة جلجاميش بالنبتة
9 - ضياع النبتة والعودة إلى أوروك
مسك الختام
ملاحظات
تمهيد
الشخصيات
1 - بدء الكلام
2 - وحش البرية مع كاهنة الحب
3 - السفر لأرض الأحياء
4 - مصرع خمبابا في الغابة والجبل الأخضر
5 - لعنة عشتار على أوروك وقتل الثور
6 - الحمى تحرق إنكيدو ودخان الأحلام
7 - جلجاميش والرجل العقرب، وحوار مع سيدوري ساقية الحانة، وكذلك مع أورشنابي ملاح مياه الموت
8 - لقاء مع أوتنابشتيم وأخبار الطوفان عودة جلجاميش بالنبتة
9 - ضياع النبتة والعودة إلى أوروك
مسك الختام
ملاحظات
هو الذي طغى
هو الذي طغى
محاكمة جلجاميش: في عشر لوحات درامية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
من أصعب الأمور على الكاتب أن يحدث قارئه - الذي ينتمي مثله إلى حضارة هذه المنطقة من العالم - عن درة ساطعة في تاج هذه الحضارة. ودرة الدرر التي أعنيها هي ملحمة جلجاميش، والحضارة التي أقصدها هي حضارة وادي الرافدين القديمة. ومع أن الفجوة الزمنية التي تفصلنا عنها منذ اكتمال نسختها الأخيرة في العصر الآشوري الحديث (على عهد آخر الملوك الآشوريين العظام، وهو آشور بانيبال من 668ق.م. إلى 627ق.م.) تزيد عن ألفين وخمسمائة عام، ولا تقل منذ بداية تدوين أجزاء منها في العصر البابلي القديم (من 1894-1595ق.م.) عما يقرب من أربعة آلاف سنة، بالإضافة إلى ما تراكم على الوعي بعد غروب شمس هذه الحضارة بانهيار الدولة الآشورية (609ق.م.)، وانتهاء السلالة الكلدانية (539ق.م.)، من طبقات بعد طبقات كونتها شعوب ونظم ودول أخرى مختلفة تعاقب حكمها على أرض النهرين حتى الفتح الإسلامي (من الفرس الأخيمينيين (538-331ق.م.)، إلى المقدونيين والسلوقيين (330-125ق.م.)، إلى الأرزاسيين أو الفرثيين (من حوالي 250ق.م. إلى حوالي 228ب.م.) إلى الساسانيين (من 224ب.م. إلى 651ب.م.))؛ فإن ذلك كله لم يمنعها من التأثير على ثقافات الشرق الأدنى القديم والانتشار وراء حدوده، ولم يمنع كذلك - بعد اكتشاف نصها السابق الذكر في منتصف القرن الماضي - من أن تصبح جزءا لا يتجزأ من الأدب العالمي، وعنصرا من أهم العناصر المكونة للوعي المثقف، ومادة للبحث والدراسة والترجمة إلى كل اللغات، ومنبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الأدب والفن.
1
والعمل الأدبي الذي بين يديك محاولة ل «قراءة» هذه الملحمة الجليلة الجميلة قراءة جديدة. ولا بد قبل الكلام عنه من نبذة مختصرة بقدر الإمكان عن النص الأصلي العريق من جوانب مختلفة: قصة تدوينه ونسخه، وشذرات ألواحه المشتتة في متاحف العالم، وقصة اكتشافه وترجمته إلى اللغات القديمة والحديثة، وأصوله السومرية التي يحتمل أن يكون الكاتب أو الكتاب البابليون قد اعتمدوا عليها - بجانب التراث الشفاهي القديم - في نسج ملحمتهم الخالدة، ثم مكانة جلجاميش من الأدب العالمي وأهميتها - كتراث إنساني - للوعي العربي الحاضر. •••
لم يكن القصيد الشعري الكبير الذي اشتهر باسم «ملحمة جلجاميش» هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين؛ ذلك أن جذور هذه الملحمة البابلية الأصيلة ممتدة في عروق الثقافة السومرية،
2
ولها تاريخ سابق يقوم على عدد من القصص السومرية التي تمكن العلماء من جمع شذراتها وحل معظم ألغازها خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، وسوف نعرض لهذه القصص بعد الحديث عن حياة جلجاميش، الذي يتفق العلماء اليوم على أنه قد عاش في الحقيقة والواقع، على الرغم من تأليه الكهنوت السومري له في زمن مبكر - شأنه في ذلك شأن ملوك سومر المبكرين الذين جمعوا بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية - ومن رفعه إلى مصاف الآلهة بعد موته وتنصيبه قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي.
كان جلجاميش ملكا ل «دولة مدينة» هي أوروك في جنوب بابل.
3
ويذكر ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - أنه الملك الخامس في ترتيب حكام هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي «نزلت عليها نظم الملكية من السماء» بعد الطوفان، وآلت إليها السيادة على سائر المدن السومرية بعد انتصارها على مدينة «كيش» وإن لم يتوقف الصراع بعد ذلك بينهما. وقد نسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت بذكره الملحمة في بدايتها وخاتمتها بوصفه أحد أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للإنسان بعد إخفاقه المأساوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتنع في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر. وقد رجح العلماء، بعد فحص الأطلال الباقية من هذا السور والاطلاع على المأثور الغني عن شخصية جلجاميش، أنه قد عاش بين سنتي 2750 و2600 قبل الميلاد، وأنه كان أقوى الملوك السومريين في فترة حافلة بالصراعات الدامية بين دول المدينة التي أسسوها، وبالصراع بعد ذلك مع الأكديين الساميين الذين كانوا قد استقروا في شمال وادي النهرين قبل أن يتمكنوا بقيادة سرجون العظيم (من حوالي 2334ق.م. إلى حوالي 2279ق.م.) وحفيده نارام سين (2254-2288ق.م.) من توحيد البلاد بأجمعها تحت حكمهم.
تراكم حول شخصية جلجاميش مأثور ضخم من القصص والحكايات العجيبة عن استبداده بشعبه، وصداقته النادرة المؤثرة ل «وحش البرية» إنكيدو، ومغامراته معه وأسفاره التي انطلق إليها بعد موته بحثا عن سر الحياة والموت والخلود، ثم رجوعه إلى وطنه ومسقط رأسه بعد أن «تطهر» واقتنع بالحدود التي لا يجوز لإنسان أن يتخطاها، مهما صور له الكهنوت أن «ثلثيه إلهي، والثلث الباقي بشري فان».
ويبدو أن هذا المأثور الذي اختلطت فيه العناصر الأسطورية بالتاريخية قد نشأ في عصر مبكر، وربما سبق اكتشاف السومريين للكتابة بالخط المسماري على الألواح الطينية بزمن طويل؛ ولذلك يحتمل أن يكون الناس قد تناقلوه شفاها وشكل وجدانهم قبل البدء في تدوينه في العصر البابلي القديم خلال القرون الأولى من الألف الثانية قبل الميلاد. ولما كانت الشواهد القليلة المتبقية من الأدب السومري قبل سنة 2100ق.م. شديدة الغموض والتشوه، فلا نكاد نعرف شيئا عن ذلك المأثور قبل هذا التاريخ، غير أن هنالك ما يدل على نهضة متأخرة للثقافة السومرية في حدود هذا التاريخ ؛ أي في عهد ملوك سلالة أور الثالثة (من حوالي 2112ق.م. إلى حوالي 2004ق.م.)، كما يدل على نوع من الرخاء الاقتصادي الذي شجع على نمو هذه النهضة التي أثمرت معظم الأشكال الشعرية والأسطورية التي وصلتنا من أدب السومريين، وبدأ نسخها وتدوينها بلغتها الأصلية أو في ترجمتها الأكدية البابلية قبل سنة 1700 قبل الميلاد وبعدها. وقد كانت «جلجاميش» أشبه بواسطة العقد في هذا المأثور المجهول المؤلف، شأنها في ذلك شأن معظم ما وصلنا من التراث السومري والبابلي، والذي يهمنا من هذا المأثور هي القصص السومرية الخمس التي تدور حول شخصية جلجاميش.
4
وقد استطاع عالم السومريات صمويل كريمر - بمساعدة عدد من زملائه وتلاميذه مثل فلكنشتين وجاكوبسين - أن يجلو غوامضها ويترجم معظم شذراتها التي وضع لها هذه العناوين: جلجاميش وأرض الأحياء، جلجاميش وثور السماء، جلجاميش وأجا حاكم كيش، جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي، ثم موت جلجاميش. ومع أن العبقرية البابلية قد نسجت من هذه القصص المتفرقة ومن مأثورات أخرى عملا مبدعا متكاملا، فإن هذا لا يقلل من تأثيرها على كاتب الملحمة الشهيرة أو كتابها الذين أفادوا بغير شك من بعضها، وبخاصة القصص الأولى والثانية والرابعة، وأغفلوا الثالثة والخامسة تماما. ولا بد أنهم قد أخذوا أيضا من مأثورات سومرية أخرى لا نكاد نعرف عنها شيئا، أو من مأثورات وصلتنا في صورة مشوهة، كما فعلوا مع قصة الطوفان التي تؤلف اللوح الحادي عشر وأقحموها على الملحمة، ومع اللوح الثاني عشر الذي لا يخرج عن كونه ترجمة حرفية لجزء من إحدى القصص التي ذكرناها، وهي قصة جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي. وأيا كان الأمر فقد حان وقت التعريف القصير بمضمون القصص الثلاث التي تعد أحد الأصول الهامة التي تقوم عليها الملحمة. •••
تبدأ القصة الأولى - وهي جلجاميش وأرض الأحياء - بالقرار الذي اتخذه بطلنا المغامر بالسفر إلى أرض الأحياء «ليصنع له اسما عظيما». ويحدث «خادمه» إنكيدو - الذي أصبح في الملحمة البابلية رفيق دربه وأعز أصدقائه، بل صديقه الأوحد! - برغبته التي صمم عليها، فينصحه بأن يتوجه بالصلاة والدعاء لإله تلك الأرض ، وهو إله الشمس أوتو (الذي سيصبح إله الشمس والعدل البابلي شمش). ويقدم جلجاميش التضحية للإله، ويتضرع إليه أن يعينه في سفره ويشد أزره في الصراع المقبل عليه، ويبتهل إليه أن يساعده على أن يصنع لنفسه اسما يخلد ذكره، وينتشله من الفناء المحتوم على البشر. ويوافق «أوتو»، ويعده بحبس «الأبطال السبعة» الذين يحرسون تلك البلاد النائية في الكهوف. ويختار جلجاميش خمسين رجلا من شباب مدينته المتطوعين لمرافقته في رحلته، بعد أن يشترط عليهم ألا يكونوا قد كونوا أسرا بعد. ويبدأ البطل مغامرته بعد التزود بالسلاح الضروري من الحداد. وبعد اجتياز سبعة جبال وعرة يطوقه النوم العميق فلا يوقظه إنكيدو إلا بعد جهد جهيد، ويقسم جلجاميش بأمه نينسون وبأبيه لوجال بندا أنه لن يرجع أدراجه قبل قتل «الرجل»، ويحذره إنكيدو من سحر ذلك الرجل وقوته الشيطانية، ويلح عليه أن يرجع إلى وطنه، لكن جلجاميش يصر على القرار الذي صمم عليه. ولا يلبث حواوا (وهو نفسه المارد خمبابا الموكل بحراسة غابة الأرز في الملحمة) أن يلمح المتطفلين على أرض الأحياء، غير أنه لا يتخذ أي خطوة جادة لمنعهم من قطع أشجاره. ويفرغ الرجال الخمسون من قطع أشجار الأرز وإعدادها للنقل، ويصل جلجاميش إلى «حجرة» حواوا أو مأواه الذي يختبئ فيه، ويطلق منه تضرعاته لجلجاميش بأن يبقي على حياته. ويبدي هذا استعداده - كما في الملحمة تماما - للاستجابة شفقة عليه. غير أن إنكيدو يحذره من شر «نمتار» - وهو شيطان، أو إله من العالم السفلي مختص بالأوبئة - الذي يمكن أن يصيبهم أذاه. عندئذ يسب حواوا «الخادم» إنكيدو، ويصفه بأنه مرتزق أجير، وأنه قد تكلم ضده بالشر. وعندما قال هذا قطعا رأسه، وحملا جثته للإله إنليل الذي أقامه حارسا على أرضه ولزوجته ننليل (وإنليل هو إله العواصف الغضوب، ورب مدينة نيبور أو نفر السومرية القديمة التي عثر فيها على بعض ألواح الملحمة).
هنا يتوقف النص الأصلي لهذه القصة التي عبث الزمن بالألواح التي نقشت عليها وملأها بالثغرات والفجوات. والملاحظ على وجه المقارنة أن الملحمة البابلية تروي قصة الحملة على أرض الأحياء وغابة الأرز بمزيد من التفصيل في الثالث والرابع والخامس من ألواحها التي لم يرحمها الزمن كذلك من التشوه! ولا شك أن كاتب الملحمة قد تأثر بهذه القصة وبغيرها، وطور عناصرها في بناء محكم، وأبرز أهم هذه العناصر - وهو حرص جلجاميش على الشهرة وخلود الاسم - في أكثر من وضع، كما جعله كاتب هذه السطور أحد المفاتيح الهامة لفهم شخصية البطل الأناني المستبد، وتفسير طغيانه بشعبه وأهله، ولا سيما قبل موت صديقه الصدوق وانطلاقه بحثا عن الخلود لنفسه وشعبه والإنسان بوجه عام. •••
وتأتي القصة السومرية الثانية التي يناظر مضمونها في خطوطه العريضة مضمون اللوح السادس من الملحمة البابلية. ومن المؤسف أن النص الأصلي قد وصلنا في حالة تشوه شديد، بحيث لا نملك إلا الحدس بمضمون البقية الباقية التي تبدأ سطورها بعد فجوة كبيرة يبدو من سياق النص ومن الملحمة أيضا أنها كانت تدور حول العرض الذي تقدمت به ربة الحب والحرب إلى جلجاميش ليكون زوجها وزينة بيتها وعربتها المزدانة بالذهب واللازورد. وما إن تشرع إينانا (وهي نفسها ربة الحب السومرية التي سماها البابليون عشتار) في وصف المنح والهدايا التي تعد بها جلجاميش مقابل الزواج منها، حتى ينقطع النص مرة أخرى ويمتلئ بالثغرات، ولا نجد شيئا يدل دلالة واضحة على رفض جلجاميش للعرض المغري؛ ولذلك تتجه إلى أبيها آنو إله السماء لتشكو إليه وتلح عليه أن يسلمها الثور السماوي لتنتقم من جلجاميش. ونفهم من النص أن الأب يرفض طلبها، وأنها ستلجأ لكبار الآلهة في مجمعهم الخالد إن لم يستجب لدعائها. وعندئذ ينتابه الخوف (ولا نعرف من النص إن كان قد أشفق على مصير سكان أوروك من الثور الهائل كما نجد في الملحمة، أم على مصير الكون كله)، ويسمح لها بتسلم الثور والهبوط به إلى الأرض، فترسله إلى أوروك التي يلحق بها أفظع الكوارث (كالموت والقحط والجفاف التي اقترنت باسمه في تفسير بعض الباحثين).
وقد بقيت من النص أجزاء أخرى شحيحة، من أهمها قطعة تسجل جانبا من حديث إنكيدو مع جلجاميش. ولا شك أن القصة الأصلية قد روت مصرع الثور على يد البطلين، ولكننا لا نعلم إن كانت قد انتهت بهذا الخبر أو استمرت في رواية الأحداث التي نعرفها. والمرجح أن القصة لم تذكر الشتائم المهينة التي صبها كاتب الملحمة - على لسان جلجاميش - على رأس الربة الجميلة، كما أنها فيما يبدو لم تتطرق لغضب الآلهة - وبخاصة إنليل - على إنكيدو لتجديفه في حقهم، ولا لجرحه المهلك الذي تسبب في موته، وعبر بذلك عن عقدة الحبكة الدرامية التي أطلقت مأساة البطل المفزوع من «حظ البشر المحتوم»، والباحث عن الخلود لنفسه ثم للبشر المساكين. •••
ونصل إلى القصة الرابعة التي أثرت تأثيرا واضحا على اللوح الثاني عشر الذي يجمع العلماء، على أنه مقحم على الملحمة، ولا ينتمي إليها انتماء عضويا كما نقول اليوم. وعنوان هذه القصة هو «جلجاميش وإنكيدو والعالم السفلي»، وهي تبدأ - شأنها شأن كثير من القصص الشعرية والأساطير السومرية القديمة - بالتذكير بأسطورة الخلق أو التكوين السومرية؛ إذ نجدها تتحدث في البداية عن فصل السماء عن الأرض بقوة إله السماء آنو وإله الرياح إنليل، كما تتطرق باختصار للصراع بين إله المياه العذبة «إنكي» وإله العالم السفلي أو وحشه المخيف «كور»، ثم تحكي بعد ذلك عن شجرة ضخمة، لعلها كانت شجرة صفصاف على شاطئ الفرات، وكيف أوشك الطوفان والعواصف أن يقتلعاها من جذورها. ويتصادف مرور إلهة الحب إينانا بهذا المكان، فتشفق على الشجرة وتحملها معها لكي تغرسها في بستانها المقدس في مدينة أوروك. وتعنى الإلهة العطوف بالشجرة وتتعهدها بالرعاية، على أمل أن تصنع منها في المستقبل سريرا تنام عليه وكرسيا يليق بها. غير أن الأيام لم تشأ أن تحقق حلمها الجميل؛ إذ نمت الشجرة وصارت جذوعها مأوى لحية عظيمة لم ينفع السحر في إخراجها منه، كما أصبحت أطراف فروعها مسكنا لطائر العاصفة الإلهي الذي بنى عشه فوقها، وغدت ساقها القوية بيتا للشيطانة أو الروح الشريرة ليليت. تعذر على إلهة الحب الرقيقة أن تقطع الشجرة، فراحت تبكي بكاء مرا وهي تبث شقيقها إله الشمس أوتو حزنها، وتروي له المصير الذي آلت إليه شجرتها. ويبدو أن جلجاميش سمع شكاتها وقرر أن يمد لها يد العون، فأمر بتجهيز درع زنته خمسون رطلا، وبلطة زنتها أربعمائة رطل، وهجم على الحية الجبارة التي تربض في جذع الشجرة فقتلها. وكان أن طار طير العاصفة وهربت الشيطانة مذعورين، وتمكن جلجاميش وأتباعه من قطع الشجرة وتسليمها لإينانا لتصنع من خشبها الكرسي والسرير، وأرادت الإلهة المحبة أن تكافئ جلجاميش على صنيعه، فأعدت له طبلة وعصا يدق بها عليها (ويبدو أن البطل قد أساء استعمالهما - كما يعلمنا الكاتب البابلي - في استغلال شعب أوروك في أعمال السخرة وتأكيد سطوته عليهم، كما نرى في اللوح الثاني من ألواح الملحمة سطر 142 وبعده، وفي بداية اللوح الثاني عشر من سطر 1-20)، ثم تأتي هذه العبارة الدالة التي لا نشك في أن الشاعر البابلي قد اعتمد عليها في تصوير طغيان جلجاميش قبل أن «يتحول» بعد موت صديقه ذلك التحول الذي أدى به إلى «التطهر» في نهاية الملحمة: «وبسبب صراخ البنات الصغيرات سقطت الطبلة والعصا في العالم السفلي.»
يتفق العلماء الذين درسوا الملحمة على أن كاتبها قد ترجم القسم الثاني من هذه القصة عن السومرية ترجمة حرفية، وألحقها بالنسخة الأخيرة للملحمة لتكون هي اللوح الثاني عشر فيها (وهي المعروفة بنسخة نينوى - العاصمة الآشورية الثانية - التي وجدت كما سبق القول في مكتبة قصر الملك آشور بانيبال). ويبدأ هذا القسم في نصه الأصلي بشكوى جلجاميش من ضياع الطبلة والعصا (أو الباكو والماكو)، ومحاولته استدعاء روح إنكيدو التي تخرج من ثغرة في هذا العالم لتحدثه عن أهواله وظلماته، ويسألها عن مصير أرواح الموتى فيه. وهو كذلك القسم الذي حاولت استلهامه في وضع النهايتين اللتين افترضت أن الملحمة - في هذه القراءة أو الصياغة التي بين يديك - يمكن أن تختم بها، بعد أن ترك الكاتب الأصلي تلك النهاية مفتوحة. والمهم أن نهاية القصة السومرية لم تصل إلينا، ولم يخبرنا كاتبها بشيء عن نجاح جلجاميش أو فشله في استرداد أداتي استبداده العزيزتين على قلبه؛ ولهذا لم أستبعد أن يكون قد رجع إلى مسقط رأسه وقد تطهر من استبداده وأنانيته الفردية، وعقد العزم على مشاركة شعبه في صنع الخلود الوحيد المتاح للبشر في هذا العالم، ألا وهو بناء الحضارة وتأسيس ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. •••
وأخيرا فلا بد من كلمة قصيرة عن بقية القصص التي أغفلها الكاتب البابلي، وأفدت من بعضها بصورة غير مباشرة في هذه الصياغة؛ فالقصة الثالثة «جلجاميش وأجا حاكم كيش»
5
تدور حول النزاع الذي ثار بين هذه المدينة وبين مدينة أوروك وأوشك أن يؤدي إلى اشتعال الحرب بينهما، وخلاصتها أن «أجا بن أنميبا راجاسي» بعث برسله إلى أوروك طالبا منها الاستسلام. وناقش جلجاميش هذا الطلب مع شيوخ المدينة، وختم كلامه بقوله لا نريد الخضوع لبيت كيش، بل سنسحقه بقوة السلاح. لكن الشيوخ لم يوافقوه على رأيه، وأعلنوا أنهم يفضلون الإذعان للحاكم المستفز على اللجوء للحرب. ولم يقتنع جلجاميش برأي مجلس الشيوخ، فاتجه إلى مجلس الشباب القادر على حمل السلاح؛ مما يدل على وجود نوع من الديمقراطية يستحق منا اليوم أن نتحسر عليه ونتمناه قائلا لهم: «لا تخضعوا لبيت كيش؛ فنحن نريد أن نسحقه بالسلاح.» وأقره الشباب على عزمه ففرح قلبه، وأمر إنكيدو أن يقلده أسلحته مؤكدا أنه (أي أجا) سيفزع منه بمجرد رؤيته، بحيث يضطرب فعله ويذهب عقله. ولم تمر عشرة أيام حتى زحف أجا بجيشه نحو أوروك التي اضطربت أمورها، فأخذ جلجاميش يبحث عن محارب يتطوع لقتال أجا أمام أسوار المدينة؛ مما يرجح أن الحروب في تلك العهود كانت تبدأ بالمبارزة بين الملوك والحكام أو من ينوب عنهم. وأعلن رجل اسمه «بيرشور توري» عن استعداده لمواجهة أجا، ومضى في طريقه واثقا من النصر. ولم يكد يغادر بوابة المدينة حتى أحاط به جنود العدو وأوسعوه ضربا وساقوه إلى قائدهم. وشاهد محارب آخر من فوق السور ما جرى لزميله، وسمع الكلمات التي قالها لأجا وأدت إلى تكرار ضربه ضربا مبرحا. ويبدو أن الخبر انتشر بين جنود جلجاميش فأصابهم الذعر؛ مما اضطره للصعود بنفسه فوق السور ، كما يبدو أن أجا قرر رفع الحصار عن المدينة إذا اعترف له جلجاميش بالتفوق والسيادة والرئاسة. ويلهج جلجاميش بشكر المعتدي على صنيعه، وتختم القصة بالثناء على ملك أوروك وفارسها الحكيم.
والواضح من النص أنه يصور واقعة تاريخية مجردة من كل ثوب أسطوري؛ فشخصية جلجاميش فيها شخصية ملك إنساني عاقل ومسالم، كما أن الآلهة لا تقوم فيها بأي دور. ولعل كاتب القصة أو ناسخها الذي سجل اعتراف جلجاميش بسيادة كيش قد حرص على تصوير هذه الحقيقة المهينة في صورة لا تقلل من شهرة بطل أوروك، ولا من مجد مدينته ذات الأسوار المنيعة. والواقع أن القتال بين المدن السومرية كان أمرا معروفا، كما أن بكاء شعرائها على مدنهم المخربة بأيدي أبناء المدن المجاورة أو غيرهم من الشعوب والقبائل الغازية يعد من أهم الأنواع الأدبية في التراث السومري؛
6
ولذلك سمحت لنفسي بأن أورد شكوى جوقة شيوخ أوروك من الخراب الذي حاق بمدينتهم بعد غزو إحدى المدن الأخرى لها أثناء غيبة «راعيها» عنها، وانشغاله بمغامراته لتحقيق مجده الشخصي. وأحسب أن هذا أمر يقع في دائرة الإمكان الأدبي والفني، وإن لم يتوفر عليه دليل مؤكد من الواقع والتاريخ. •••
أما القصة الخامسة وهي «موت جلجاميش»، فقد وصلت إلينا في حالة شديدة التشوه. ويبدو من بقايا النص المبتور أنه يبدأ بالكلام عن سعي جلجاميش إلى الحياة الخالدة، ثم يبين له إله لم يذكر اسمه أن إله الرياح إنليل لم يقدر له الخلود، وربما فعل ذلك تفسيرا لأحد الأحلام الكثيرة التي ظلت تعاود جلجاميش وتتدخل في تحريك الأحداث، ومع ذلك يطمئنه الإله المجهول ويؤكد له - كما سيفعل إنكيدو في مواضع عديدة من الملحمة ومن هذه الصياغة - أن ذلك ليس مدعاة للحزن أو اليأس؛ إذ ضمن له الإله الملك والمجد والانتصار على عدوه مدى الحياة؛ ثم لا نلبث أن نرى جلجاميش على فراش المرض الذي لن يقوم منه، ويموت الملك، وترتفع أصوات النواح عليه؛ ثم تفغر فاها الواسع فجوة كبيرة في النص، فنجد أنفسنا في العالم السفلي، كما نفهم أن جلجاميش رفع إلى صفوف الملوك الذين يحكمون ذلك العالم، وأصبح واحدا من آلهته الذين يسمون «الآنوناكي»، ويقضون قضاءهم في أرواح الموتى. وأخيرا يذكر النص أسماء أتباع جلجاميش وأفراد عائلته، والهدايا التي يقدمها باسمهم لآلهة العالم السفلي، ثم يختتم النص بترتيلة تتردد فيها أصوات البكاء على جلجاميش والثناء عليه. ويبدو من الحفائر التي قام بها «ليونارد وولي» في «أور»، وكشفت عن كنوز مقبرتها الشهيرة، أن معظم الملوك السومريين في تلك الفترة من منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد كانوا يصطحبون حاشيتهم معهم إلى مقرهم الأخير، ولا يستبعد أن يكون أتباعهم قد تطوعوا في بعض الأحوال على الأقل بدفن أنفسهم معهم أحياء وفقا لطقوس الموت. ومع ذلك فربما تأتي الأيام بالشواهد الأثرية واللغوية التي تؤيد هذا الاحتمال المخيف - الذي لا أفتي فيه عن غير علم - أو تنفيه. •••
أما عن قصة الطوفان السومرية، والتي يستند إليها اللوح الحادي عشر من الملحمة، فقد وصلت إلينا في حالة لا تسمح حتى الآن بفهم سياقها المتكامل، كما أن الرواية للقصة نفسها من العهد البابلي القديم لا تساعد على ذلك أيضا. وتبدأ القطع الخمس المتبقية من النص بحديث أحد الآلهة عن الخدمات المفروضة على البشر تجاه الآلهة، ثم تستطرد إلى الكلام عن خلق البشر بواسطة الآلهة الكبار آنو وإنليل وإنكي والإلهة الأم ننخور ساج، وإلى نزول الملكية من السماء وتأسيس أقدم المدن في وادي الرافدين (مثل أريدو ولاراك وسيباد، بجانب مدينة الطوفان شورباك التي تعرف اليوم باسم فارة). ويبدو أن القصة الأصلية ذكرت قرار الآلهة بإفناء البشر بسبب إزعاجهم لهم؛ إذ نفهم من بعض سطورها الباقية أن بعض الآلهة قد أسفوا على اتخاذ هذا القرار، وراحوا يدبرون الحيل للوقوف بجانب البشر، ثم يرد ذكر بطل الطوفان السومري، وهو زيوسودرا - أي الذي رأى الحياة - ملك مدينة شورباك، الذي يسر إليه أحد الآلهة (ولعله أن يكون هو إله الماء والحكمة إنكي الذي أصبح اسمه آيا عند البابليين، كما قام بنفس الدور في الملحمة) بخطة الآلهة في خطابه الهامس للجدار . ولا بد أن الفجوات الكثيرة في النص قد سردت قصة بناء الفلك وانهمار الأمطار من السماء؛ إذ توحي السطور التي جاءت بعدها بهبوب الأعاصير المدمرة، وإغراق الطوفان للأرض سبعة أيام وسبع ليال: «ثم طلع إله الشمس أوتو وغمر بنوره السماء والأرض. وفتح زيوسودرا نافذة - أو كوة - في السفينة الجبارة التي أضاءها البطل أوتو. وركع الملك زيوسودرا أمام أوتو، وذبح ثورا وخروفا.» وبعد فجوة أخرى كبيرة نفاجأ بأن الإلهين آنو وإنليل قد ندما على ما فعلا، وأشفقا على البشر، فأرسلا عليهم ريحا سماوية وريحا أرضية بعثتا الحياة في مملكة النبات. ويلقي بطل الطوفان بنفسه أمام الإلهين اللذين يمنحانه الحياة الخالدة، ويقرران له العيش في جزيرة الخلود ديلمون (أو تيلمون)،
7
التي تصور السومريون أنها تقع شرقي وادي النهرين، وربما كانت هي البحرين الحالية. وينتهي نص القصة عند هذا الحد، وهو يكفي على كل حال لبيان مدى استفادة الشاعر البابلي منه ومن النص البابلي القديم الذي لم يكن أحسن حالا. ولا شك أن هذا الشاعر الموهوب قد أضاف تفصيلات أخرى من خياله الخلاق، أو من مأثورات شفاهية لم تبلغ إلى علمنا حتى الآن في صورة مدونة، وربما تكشف عنها الحفائر في مستقبل الأيام، ثم صنع من هذه الخيوط كلها نسيجا عبقريا أصيلا هو الذي يعرف اليوم باسم ملحمة جلجاميش، أو باسم أول سطر في أول لوح فيها، وهو: «هو الذي رأى». •••
لم تكن هذه القصص السومرية هي المصدر الوحيد الذي غزل منه البابليون ملحمتهم الفريدة؛ فمنذ أن تولى الأكديون الساميون زمام السلطة في بلاد الرافدين، ووحدوها تحت قيادتهم، واختلطوا بالسومريين؛ أخذوا عنهم معظم تراثهم الثقافي، وشرعوا في العصر البابلي القديم
8 (أي منذ حوالي سنة 1800ق.م.) في نسخه وترجمة بعض أجزائه إلى الأكدية قبل أن يصوغوه بعد ذلك في أشكال جديدة ناضجة. ولا بد أنهم عرفوا الكثير من القصص والأساطير التي دارت حول حياة جلجاميش ومغامراته، وإن كانت المعلومات القليلة التي لدينا عن الأدب البابلي في تلك الفترة - وبخاصة من القرن الثامن عشر إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد - لا تسمح بالقول بأنهم تمكنوا في ذلك الوقت من صياغة الملحمة في بناء موحد متكامل. ومع ذلك فقد عثر على ألواح مختلفة ترجع للعهد البابلي القديم، وعليها أجزاء متفرقة مما سمي بعد ذلك بقصيدة جلجاميش أو ملحمته، وهي ألواح عثر عليها في أماكن مختلفة، وأصابها التلف الذي شوه الكثير من سطورها، وإن لم يمنع هذا معظم مترجمي الملحمة من الاستعانة بشذراتها لتكملة نواقص أحدث النصوص عهدا وأكملها، وهو النص الآشوري الذي عثر عليه في نينوى كما سبق القول.
9
مهما يكن الأمر فقد استطاع شاعر موهوب عاش حوالي سنة 1200ق.م. أن يبدع هذا العمل الأدبي الرائع الذي نسميه جلجاميش، معتمدا على ما سبق أن ذكرناه من التراث السومري والبابلي القديم ومتحررا منه في آن واحد. وقد حفظ لنا أحد المأثورات المتأخرة التي لم تتأكد صحتها اسم هذا الشاعر، وهو «سين-ليكي-أونيني»، ولا نكاد نعرف عنه إلا أن إحدى الأسر التي كانت تشتغل بالكهنوت في وقت متأخر في مدينة أوروك قد ذكرت اسمه كأحد أسلافها، ومع ذلك يظل الاسم أمرا غير ذي بال؛ لأن الشعراء والكتاب السومريين لم يحرصوا أبدا على ذكر أسمائهم، ولم يهتموا بأنفسهم كما نفعل اليوم للأسف إلى حد مرضي فظيع، ولأن موهبة هذا الشاعر أقدر على التعريف به وتخليده من كل الأسماء (التي لا تعدو أن تكون ضجيجا ودخانا يحجب وهج السماء، على حد تعبير جوته على لسان فاوست).
وجملة القول أن جميع النسخ المتسقة أو المجتزأة التي وصلتنا من الملحمة ترجع إلى ما بعد القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ولكن القدر الأكبر من النص يرجع إلى القرن السابع قبل الميلاد، وقد عثر عليه كما ذكرت أكثر من مرة بين الألوف المؤلفة من الألواح الطينية التي اكتشفت في مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال؛ هذا الملك العجيب الذي نهب مصر وخرب سوسة (عاصمة مملكة عيلام القديمة في الجنوب الغربي من إيران)، وجسد التناقض الصارخ بين حرص العالم المثقف على جمع تراث أجداده، وقسوة الوحش الفظيع على أعدائه (إذ كان يتسلى بتقطيع أطرافهم وصلم آذانهم وسمل عيونهم أثناء استمتاعه بالأكل والرقص والموسيقى !) ومن حسن حظ المعرفة والتاريخ أنه أرسل رسله إلى كل مراكز الثقافة القديمة في وادي الرافدين (مثل أوروك وبابل ونيبور وسيبار) لينسخوا القصائد والتراتيل والوثائق التاريخية والمدونات «العلمية» والقواميس ... إلخ، ويترجموا كل ما استطاعوا ترجمته من السومرية إلى الأكدية السامية، ويحفظوا الألوف من ألواحها في مكتبة قصره في العاصمة الآشورية المتأخرة نينوى.
10
وقد كان من بينها الألواح التي تضم هذا القصيد الملحمي الذي «دون وفق الأصل، وجمع في قصر آشور بانيبال، ملك العالم وملك آشور»، وهو القصيد الذي نسميه اليوم ملحمة جلجاميش، والذي ما زال العلماء من مختلف بلاد العالم يتبارون في دراسته وملء فجواته، وتفسير إشاراته ولمحاته ودلالاته من كل الجوانب والأبعاد، وترجمة ما يجد اكتشافه من ألواح أو كسر تتصل به، كما يتنافس الأدباء في ترجمته واستلهامه وصياغته في أشكال أدبية وفنية متنوعة. •••
انتشر تأثير الملحمة منذ العصور القديمة، ولا يزال حيا وفعالا إلى يومنا الحاضر. ولا يرجع هذا فحسب إلى القيم الجمالية والدينية والتاريخية والاجتماعية ... إلخ التي تنطوي عليها، وإنما يرجع إلى أنها تخاطب «الإنسان» فينا قبل كل شيء، وتذكي نيران أسئلته الكبرى التي لا يجد عنها إجابة شافية، ولا يملك مع ذلك - على حد تعبير كانط (1724-1804م) في مقدمته لنقد العقل الخالص - أن يتوقف عن طرحها. ولا نريد أن ندخل في تفصيلات التأثير والتأثر التي لم تزل موضع التخمين والجدل والخلاف الشديد بين العلماء المجتهدين؛ إذ يكفي أن نشير إلى بعض مظاهر الاهتمام بترجمتها إلى اللغات القديمة والحديثة، ومحاولات صياغتها واستلهامها، واحتمالات التشابه بين بعض «تيماتها» أو موضوعاتها الأساسية وشخصياتها وبين نظائرها في الأدب القديم والوسيط، بشرط أن نتذكر أن مكتبة جلجاميش و«الأدبيات» التي ألفت عنه قد أصبحت تفوق الحصر، وفجرت أمواجها المتلاحقة كل الحدود.
لقد ترجمت أجزاء من النص - كما ذكرنا في هامش سابق - إلى أربع لغات كانت تكتب بالخط المسماري في الفترة الزمنية الواقعة بين القرنين الواحد والعشرين والقرن السادس قبل الميلاد، وفي حدود المنطقة الواقعة بين جنوب بابل في أرض النهرين وبين عاصمة الحيثيين في آسيا الصغرى. وتغلغل المأثور الشفاهي عن جلجاميش وراء تلك الحدود، فانتشرت بعض موضوعاته، وتشكلت على صور مختلفة في أساطير وحكايات شعبية، وقصص عجائب وخوارق أثرت من العصور القديمة حتى العصر الحديث على شعوب أخرى عديدة، وأصبح بعضها جزءا من الأدب العالمي. وقد رجح بعض الباحثين أن تكون بعض «موتيفات» جلجاميش قد تسربت إلى عدد من الحكايات الشعبية الفارسية، مثلما حدث الشيء نفسه مع بعض الحكايات الخرافية البابلية على لسان الحيوان والنبات، وثبت أنها أثرت تأثيرا واضحا على بعض الحكايات الخرافية الفارسية وبعض حكايات إيزوب. وربما يعود أحد أسباب ذلك إلى أن الفرس ظلوا يستعملون الخط المسماري في كتابتهم لفترة طويلة بعد إهماله في بلاده نفسها. وما برحت الآراء متأرجحة بين مؤيد ومعارض لتأثير اللوح الحادي عشر من الملحمة (الذي تروى فيه قصة الطوفان) على سفر التكوين في العهد القديم، ولاحتمال تأثر شاعر الإلياذة والأوديسة
11
أو شعرائها بالتراث الشفاهي المأثور عن جلجاميش، وانعكاس هذا التأثير غير المباشر على تصوير بعض شخصياتها التي تتشابه صفاتها من بعض الوجوه تشابها لا شك فيه مع بعض شخصيات الملحمة البابلية (ففي أخيل وهيكتور وأوديسيوس ملامح من جلجاميش، والساحرة كيريكة في الأوديسة فيها قسمات من وجه عشتار وعنف حبها وغضبها، وربما أمكن التقريب بين مينيلاوس الذي أرسل إلى جنات الإليزيوم ليعيش مع أبطال الإغريق العظام وبين أوتنابشتيم البعيد الخالد في جزيرة الخلود، وكذلك بين بعض أبطال الأساطير اليونانية المشهورين بمغامراتهم وانتصاراتهم على القوى الخارقة - مثل هرقل وبرسيوس وثيسيوس - وبين جلجاميش في صراعه مع الأسود والمردة والثور السماوي). وإذا كان جلجاميش قد ذكر عند بعض الكتاب الإغريق المتأخرين (مثل إليانوس من أواخر القرن الثاني بعد الميلاد وأوائل القرن الثالث في كتابه عن طبائع الحيوان وحكاياتهم، الكتاب الثاني عشر، الفصل الحادي والعشرون)، فيحتمل كذلك أن تكون قصته (أي جلجاميش) قد تسربت إلى شعوب البحر الأبيض المتوسط، مثلها مثل العديد من عناصر السحر والتنجيم والفلك البابلي (وبخاصة الكلداني) والآشوري التي دخلت في مذاهب الغنوص الروحانية وفي الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة (نسبة إلى أفلوطين المصري السكندري آخر فلاسفة اليونان العظام ومجدد الأفلاطونية، عاش من سنة 205 بعد الميلاد إلى سنة 270م)، وهنالك احتمالات أخرى - تحتاج إلى دراسات مقارنة مستفيضة لم يبلغ إلى علمي شيء منها - عن تأثير شخصية جلجاميش على الروايات الشعبية العربية عن ذي القرنين، كما وردت في كتاب التيجان وأخبار ملوك اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي، وحكايات العجائب والخوارق التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر، وعلى شخصيات كثيرة من الملاحم الأوروبية في العصور الوسطى وروايات الفرسان في أواخرها. وربما تستحق مسألة تأثيره على بعض أبطال السير الشعبية العربية أو على بعض حكايات ألف ليلة وليلة شيئا من عناية الباحثين في الأدب الشعبي العربي وعلاقته بالآداب السامية القديمة. أضف إلى هذا أن مؤرخي الفن لم يغفلوا عن النقوش التي صورت جلجاميش في صراعه مع الوحوش الكاسرة على الأختام الأسطوانية، ولا عن مجسماته بالنحت البارز في قصور الملوك الآشوريين، وبخاصة قصر خورساباد.
وأما عن الترجمات والاستلهامات الأدبية فأكتفي بذكر ما اطلعت عليه منها، أو قرأت أجزاء منه فيما قرأت من دراسات، وهو قليل من كثير؛ فمن الترجمات ما حافظ على روح الملحمة وهيكلها دون التقيد بالترجمة الحرفية التي تشوبها كثرة الثغرات والفجوات بما يتعذر معه متابعة السياق، مثل ترجمة فيلهيلم فندلانت (برلين 1927م)، وجورج بورخارت (فرانكفورت 1958م)، والأستاذة ن. ك. ساندرز (سلسلة بنجوين 1972م، ولها ترجمة عربية للأستاذين محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، القاهرة 1970م)، ومنها ما التزم بالترجمة الدقيقة مع استكمال الفجوات الأصلية من الشذرات البابلية القديمة أو الترجمات الحيثية، مثل ترجمة ألبيرت شوت التي سبق ذكرها، وترجمات ألكزندر هايديل، شيكاغو 1963م؛ وجاردنر ومير، نيويورك 1985م؛ وي. س. طومسون، أكسفورد 1930م؛ وأ. أ. شبايزر، ضمن كتاب بريتشارد المعروف: «نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم»، برينستون 1955م، 1975م؛ والترجمتين العربيتين عن الأكدية للمرحوم الأستاذ طه باقر، بغداد 1980م؛ والدكتور سامي سعيد الأحمد، بغداد 1984م؛ وترجمة الأستاذ فراس السواح التي وفقت بين ترجمات إنجليزية مختلفة، دمشق 1987م؛ والترجمة الشعرية البديعة للشاعر العراقي الكبير عبد الحق فاضل بعنوان: «هو الذي رأى »، بيروت 1972م؛ وكل ذلك بجانب نصوص من الملحمة وردت في دراسات قيمة، من أهمها في العربية كتاب هنري فرانكفورت وزملائه: «ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى»، من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بيروت 1980م؛ والأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، دراسة في ملحمة جلجاميش، للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، بغداد 1988م. حتى إذا تركت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية وبحوث علماء الآشوريات في كتبهم ومقالاتهم في مجلة «سومر» وغيرها من الدوريات المتخصصة، أحزنك ألا تجد في العربية عملا أدبيا واحدا استوحى هذا الأثر الخالد باستثناء مسرحية شعرية متواضعة للشاعر العراقي يوسف أمين قصير، بعنوان: «جلجاميش في العالم السفلي»، بغداد 1973م، ومعالجة مسرحية شائقة من نوع «المونودراما» للعرائس التي يحركها وينطقها ممثل واحد هو الفنان العراقي سعدي يونس (وقد أسعدني الحظ بمشاهدتها، ولم يسعدني بالاطلاع على نصها). ولا شك أن هذا دليل كاف على أن الملحمة لم تصل بعد إلى الوعي العام، ولم تحرك وجدان المبدع العربي، وهو أولى الناس بالاهتمام بإرثه وامتلاك ميراثه؛ لعله أن يتصرف فيه تصرف الحر، ويدرك مدى تغلغل «نموذجه الأصلي» في شعوره أو لاشعوره الفردي والجمعي عبر العصور والأجيال. •••
ربما تثير الصفحات السابقة قدرا غير قليل من الدهشة في نفس القارئ الذي لم يتعود من الكاتب أن يقدم لعمله الأدبي بمقدمات علمية ولا شبه علمية، غير أن هذه المقدمة كانت ضرورة لا غنى عنها للتعريف بأثر خالد من آثار تراثنا الثقافي والحضاري من ناحية، وجزء لا يتجزأ من الأدب العالمي لا تزال الدراسات العلمية والفنية تتوالى عنه من مختلف أبعاده من ناحية أخرى، مع الحرص على عدم الدخول فيما لا نهاية له من التفصيلات والتفسيرات التي لا يتحملها هذا التقديم. والواقع أن دوري في هذا العمل الملحمي بلوحاته الدرامية العشر لا يخرج عن كونه مجرد قراءة - أتمنى أن تكون خلاقة كما يقول أصحاب النقد الحديث! - أو هو إن شئت «ترجمة» بالمعنى الأعمق والأشمل لهذه الكلمة، ينصهر فيها أفق المؤلف الأصلي مع أفق قارئه المعاصر، ويتم بينهما التقارب والتجاوب والتعاطف ، مع إدراك أوجه التباين بين الرؤى والأزمنة والتراكيب والسياقات والحضارات (كما يفيض في ذلك أصحاب فلسفة التفسير أو التأويل للنصوص المختلفة - الهيرمينويطيقا - وبخاصة الفيلسوف هخانز جورج جادامر)، ولكنني سأؤجل الحديث عن هذا الدور قليلا لأقدم بعض الملاحظات التي أرجو أن تلقي الضوء على مكانة «جلجاميش» من التراث الإنساني، دون أدنى رغبة في التفاخر أو الزهو به (وإن كان الزهو بعيون التراث حقا مشروعا لأبنائه، كما هو سند نفسي لهم في أوقات الشدائد!): (أ)
إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي. وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاء لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة. ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت أو التقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوته في صورة خارقة للمقاييس البشرية، وصرح أكثر من مرة بأن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان»، فقد حرصت من جانبي على تأكيد إنسانيته وإبراز ضعفه وتردده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبع «تطهره» التدريجي من تألهه وتجبره وتسلطه، بل من تمرده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم. والواقع أن بنية الملحمة نفسها توحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم؛ فلم يثبت للعلماء أنها كانت تتلى مع الطقوس الدينية كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما إيليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصة إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخل الآلهة - وبخاصة شمش - في كثير من أحداثها. أضف إلى هذا أن موت صديقه كان ضربة ساحقة لألوهيته المزعومة، فجرت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولا ثم لشعبه بعد ذلك. ولا ننسى أخيرا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القدم وجود الإنسان في أرض النهرين ؛ بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المدمرة، وهجمات المدن المجاورة، وغزوات القبائل البدوية المتوحشة وغاراتها المفاجئة، وخوفه المقيم من مصيره التعس في عالم لا عودة منه، عالم سفلي خال من النور والأمل، كتب فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وتقتات من الطين، وتتعذب خلف الأبواب المغلقة في قبضة الملكة المخيفة أريشكيجال وزوجها نرجال وزبانيتهما الأشداء. (ب)
وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاول أن يستقل بنفسه عن روح الجماعة ويخلصها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورة أخلاقية عقلية، وأول من تمثلت فيه الذاتية الوجودية الحقة بكل تمزقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمطلق (على نحو ما صورها كير كجارد في رسالته المبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردوا عليهم بأن جلجاميش قد سبق أوديب في إصراره على فرديته مهما كلفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه قد تفوق على سقراط في «الذاتية» التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود. والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تحرك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجه عام. (ج)
انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية، وهما ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام 1971م) حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل متداخلا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتد إليها من جديد بصورة أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطمها). والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكدوا سلطة العقل النقدي الذي تقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرفه كانط - رأس المثالية الألمانية الحديثة - بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه - على هدى النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية - إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة. والذي يهمنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» - بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس - هو أول «مستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنوير أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل. كانت مغامراته تحديا مستمرا للأساطير المسئولة إلى حد كبير عن تألهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحول عنها خطوة بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يديه، ثم تطهر منها - أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! - مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المتاح للبشر أثناء حياتهم على الأرض، وهو بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهرة الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي. ومع ذلك فربما ينظر إلي القارئ نظرة المتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس، وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة، أو بالأحرى في غياهب ظلماتها.
ليس القدم وحده هو الذي يضفي على جلجاميش هالة الجلال والصدق والجمال؛ لأن أشعة هذه القيم الباقية تنبعث من تكوينها الفني ومضمونها الفكري، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت والمصير، بجانب دلالتها على النموذج الأصلي أو الأولي - على حد تعبير عالم النفس كارل جوستاف يونج - للشخصية الشرقية المستبدة في بعدها الأسطوري والتاريخي، ومدى ما بقي منها من رواسب فاعلة في وعينا ولاوعينا الحاضر (وإن كان جلجاميش، في تفسير بعض الباحثين والتفسير الذي ارتضيته لنهاية هذا العمل، يقدم مثلا نادرا في تاريخ القهر والقمع الطويل لهذه المنطقة من العالم على الحاكم الذي تطهر من طغيانه)؛ ولذلك فإن جلجاميش وعاء أثري وفني يحتوي على مزيج مأساوي مدهش من مغامرة الإنسان بحثا عن نفسه، وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل. أضف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويعينه على تخطي أسوار الفناء الذي يحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بنت يداه؛ ثم إنها تخاطبنا اليوم أيضا - كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري - في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وفي تطلعنا لإرساء الأساس الأول المفتقد لوجودنا وتقدمنا على درب التحضر والتطور، ألا وهو الحرية. وهل ثمة سبيل يقربنا من هويتنا مثل تفهم نصوص تراثنا، وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها معاصرة لنفسها ولنا في وقت واحد (على حد التعبير الجميل الذي يوجه بحوث المفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي)؟! •••
كان حبي لهذه الملحمة هو مصباحي الوحيد على الطريق المليء بالمخاطر والعثرات، وكنت قد اطلعت عليها لأول مرة في سنوات الطلب، وخطر لي في ذلك الحين أن أدخل معها في تجربة فنية أو فكرية لا أذكر معالمها على وجه التحديد، وسرعان ما استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب في داخلي كالشوكة التي لا يتوقف وخزها المؤلم؛ ذلك أن التجربة كانت فوق طاقتي المحدودة. ومن أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنز أدبي خالد، لا يسبر أغواره إلا من يستطيع أن يسبر أغوار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمام أبوابه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كتب بها، ولا لدي فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص؟! ثم لمن أقدم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة سحيقة قد لا تقل عن خمسة آلاف عام؟ وشاءت تحولات الأيام والأعمال أن أعكف طوال السنوات الثلاث الماضية على كتاب كبير عن «حكمة بابل» توفرت فيه على تأمل الحكمة البابلية ودراسة نصوصها الأساسية، مثل أيوب البابلي (لدلول بيل نيميقي أو لأمتدحن رب الحكمة)، والمعذب والصديق، وحوار السيد والعبد، وغيرها من نصوص الحكمة والأدب الشعبي السومري والبابلي.
12
وكان من الطبيعي - على الرغم من القصور العلمي - أن أغوص بقدر ما وسعتني القدرة في أعماق ذلك العالم الشاسع، وأن أعاود قراءة جلجاميش في ترجماتها وصيغها المتاحة، وتحركت الشوكة القديمة، وتجدد وخزها الأليم! عايشت الملحمة وتعاطفت مع شخصياتها، وأحسست بالثروة الدرامية الكامنة في الكثير من أحداثها ومواقفها، وتجلت لي في ضوء ساطع لا يقدر عليه إلا كل عمل فني حقيقي، وهو الإيحاء بالأبدي المطلق من خلال المحدود المقيد (بالشكل واللغة والبيئة والعصر والأدوات الفنية ... إلخ)، ودفع التوتر «الجدلي» بينهما في وحدة عمل فني يحدد مستوى، كما له إمكان بقائه وتأثيره جيلا بعد جيل، وتوالت الهموم الشخصية والعامة بما جعل الإمساك بالقلم هو الوسيلة الوحيدة للتخفف من وخزات الشوكة وجراحها الدفينة . وشرعت في الكتابة وكأنني أمشي على الصراط؛ فالإجلال للملحمة يمنعني من الاندفاع إلى التجريب (على الرغم من الاعتراف للأديب بحقه المشروع في التصرف الحر في مادته التاريخية أو الأسطورية)، والكتابة بكل خصوصيتها وضروراتها الحميمة لا تسمح بأن يتحول العمل إلى ترجمة يمكن أن تغني عنها أية ترجمة أمينة. وحاولت أن أمسك بالميزان العدل؛ لا أفرط في أي خطوة من خطوات جلجاميش على الطريق إلى المجهول، ولا أسقط أي حادثة أو موقف، وفي الوقت نفسه لا أتخلى عن حقي في استكناه أعماق الشخصيات وبث الحياة الدرامية فيها، ومحاولة «إحضارها» من غياهب الماضي الملحمي لكي تتحرك فوق «خشبة» الواقع. واكتشفت بعد إتمام العمل أنني أسرفت في استغلال هذا الحق الذي تهيبت منه في البداية؛ إذ سمحت لنفسي في اللوحة الأولى بتقديم جلجاميش إلى المحاكمة، وإضافة فاصل يتم فيه الحوار بينه وبين جوقة الشيوخ التي تحذره من مغبة السفر والتغيب عن وطنه وأهله. أضف إلى ذلك أنني تصرفت في النهاية التي تركها المؤلف الأصلي مفتوحة وغير شافية ولا مقنعة. وافترضت أن تنتهي الملحمة نهايتين محتملتين؛ فإما أن يرجع البطل اليائس البائس إلى أوروك صفر اليدين من نبتة الخلود، فيجد مدينته خرابا ويتضاعف يأسه واغترابه؛ وإما أن يعود وقد «تطهر» من أحلامه المستحيلة تطهره من بطشه واستبداده، فيضع يده في يد شعبه، ويشارك في البناء الحضاري الذي يتيح له نوعا من الخلود البديل عن ذلك الخلود الوهمي الذي اقتنع أخيرا باستحالته. وغلب عندي هذا الفرض الأخير أن كاتب الملحمة قد أشاد بسور المدينة الشهير في بداية الملحمة ونهايتها، ولم يستطع أن يخفي فرحة جلجاميش وهو ينادي على الملاح أورشنابي، ويدعوه أن يفحص بناء السور ويتلمس إفريزه وآجره وأعتابه. ولم يكن ذلك كله مجرد مصادفة؛ لأنه يشير إشارة واضحة إلى الحقيقة التي يشهد عليها تاريخ الإنسان، وهو أن العمل والبناء الحضاري هو سلاحه الوحيد في مقاومة الفناء ومواجهة الموت المحتوم.
وتبقى أمور عديدة في هذه «القراءة» أو «المعالجة الدرامية» أو «الاستلهام» لنص قديم حاولت أن أجعله معاصرا، وتحيرت كثيرا في توصيفه (فلا هو مسرحية ملحمية على غرار مسرحيات سابقة جربت كتابتها، ولا هو ملحمة درامية لأن التعبير يحمل تناقضه في ذاته)، وأكتفي بالإشارة إلى هذه الأمور التي لا يتسع المجال لمناقشتها بالتفصيل، تاركا الحكم على العمل للقارئ الذي سيقرؤه ويفسره ويعيد خلقه على طريقته؛ فالأزمنة تتداخل فيه بحيث نعيش في زمن الملحمة نفسها بأحداثها ومواقفها، وبحيث يستطيع القارئ أن يتعرف عليها وإن لم يسبق له الاطلاع على إحدى ترجماتها، كما نعيش في زمن شيوخ أوروك الذي هو في الحقيقة «لا زمن الجوقة» المعبر عن صوت الضمير الجمعي وراء كل زمن أو مكان محدد، ثم في زمن الراوية الذي ينطق بصوت الحاضر ويطرح أسئلته، ويقدم العمل كله على هيئة «أمثولة» يمكن أن نتعلم منها. وهناك تحولات جلجاميش من الأنا إلى النحن، ومن التسلط إلى التطهر، ومن الذعر من الموت إلى الإيمان بقانون اللحظة الراهنة؛ لحظة الوعي الحر والعمل الخلاق من أجل الآخرين؛ ومن ثم تصبح جلجاميش على نحو من الأنحاء لونا من ألوان «الرواية التربوية» أو التعليمية التي تتتبع تطور البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوله من الحلم المستحيل إلى واقع المشكلات التي تؤرق الناس في حياتهم «هنا والآن». وتأتي بعد ذلك الشخصيات التي تعاطفت معها، وحاولت أن أعمق خطوطها وظلالها وملامحها: كاهنة الحب «شمخات»، وحبها الصامت الحزين لإنكيدو الذي حولته من وحش البرية إلى إنسان، ثم حول موته وحش أوروك المستبد إلى إنسان. وأورشنابي الملاح الخفيف الظل الذي يحيا الخلود على طريقته العدمية في اللحظة العابرة. وسيدوري الأبيقورية البابلية التي حبست بحار الأبدية والأزلية بين جدران كأسها المتلألئة الصافية. وعشتار العاشقة المتفانية والمنتقمة الباكية التي تصب لعناتها فوق أوروك وكل المدن التي أنكرت الحب، فحق عليها القحط والجدب والجفاف. إلى آخر الشخصيات والمواقف والصور والأصوات التي أترك لك الحكم لها أو عليها، راجيا في النهاية أن تدخل عالم جلجاميش، وتشارك في محاكمته والحوار معه والحكم له أو عليه.
الشخصيات
جلجاميش:
الملك الخامس على أوروك .
إنكيدو:
وحش البرية وصديقه.
نينسون:
أمه الحكيمة.
شمخات:
كاهنة الحب.
سيدوري:
ساقية الحانة على شاطئ بحر الموت.
أورشنابي:
ملاح بحر الموت.
أوتنابشتيم:
نوح البابلي.
زوجة أوتنابشتيم.
الرجل العقرب وزوجته.
عشتار:
إلهة الحب والخصب والحرب.
خمبابا:
حارس الغابة.
آنو:
آلهة في مجمع الآلهة.
إنليل:
آلهة في مجمع الآلهة.
شمش:
آلهة في مجمع الآلهة.
آيا:
آلهة في مجمع الآلهة.
الراوية:
آلهة في مجمع الآلهة.
جوقة الشيوخ.
جوقة الرجال العقارب.
شباب ونساء وأطفال.
جنود وحراس.
كهنة وعرافون ومعزمون.
أصوات مختلفة.
الفصل الأول
بدء الكلام
(المسرح مستويات متعددة. في المستوى الخلفي تبدو من بعيد أسوار أوروك وأطلالها المخربة. إلى اليمين يقف الراوية على منصة عالية، في يده بضعة ألواح طينية أو أوراق يقرأ منها بين الحين والحين ويعلق على الأحداث. في المستوى الأدنى يتوالى على الخشبة ظهور الشخصيات واحدة بعد الأخرى، وتتجمع إلى اليسار منها جوقة الشيوخ والعجائز من أهل أوروك، ثم ينضم إليهم عدد من الشباب والنساء والأطفال في المستوى نفسه. إلى أقصى اليسار شبح كومة بشرية يصدر عنها أنين وبكاء متصل، حتى يسلط عليها الضوء فيظهر حطام جلجاميش البائس اليائس. في عمق الخلفية أمام الأسوار المخربة، منصة تظهر عليها بعض الشخصيات أو تسقط عليها بعض الصور والرسوم، ثم تطفأ أنوارها أو تسدل عليها الستار. تسمع من البداية دقات الطبول الخافتة التي ترتفع شيئا فشيئا مع تتابع ظهور الشخصيات واحتدام الأحداث. الراوية في ملابسه الحديثة مشغول بالتقليب في الألواح والصحائف.)
صوت يهتف (مع دقات الطبل الخافتة) :
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الصوت (في نغمة مهيبة عميقة) :
هو الذي رأى كل شيء حتى تخوم البلاد.
هو الذي عرف البحار وأحاط علمه بكل شيء.
هو الذي تغلغل ببصره في الهاوية المظلمة.
امتلك الحكمة وتعمق كل الأشياء.
رأى الأسرار وكشف الخفايا،
وجاء بأنباء ما قبل الطوفان.
الراوية :
أعرف هذه الكلمات. قرأتها في اللوح الأول. إنها الكلمات التي تبدأ بها الملحمة، وهي التي سميت باسمها كما كانت عادة الكتاب والنساخ البابليين.
الصوت (متابعا دقات الطبول) :
مضى في سفر بعيد ، حتى حل به الضنى والعناء.
ثم حفر على لوح حجري كل ما أصابه من تعب وشقاء.
الصوت العميق (مع ارتفاع دقات الطبول) :
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الراوية (وهو يقلب في الألواح أو الأوراق) :
جلجاميش، يمكن أيضا أن تنطق كلكاميش بالكاف الفارسية، أو «قلقميش» في الرسم العربي، الاسم الأصلي كما ورد في النصوص السومرية (يتتابع دق الطبول)
مهلا، سأحدثكم بعد قليل عن شعب السومريين العجيب وعن هذه النصوص الباقية. قلت مهلا. لن أطيل الحديث. إنها تالفة ومملوءة بالثغرات والفجوات، مثل كل النصوص المنقوشة بأيدي السومريين والبابليين والآشوريين بالخط المسماري على الرقم والألواح الطينية (تتوالى الدقات مع ارتفاع الصوت الهاتف قليلا) :
جلجاميش.
جلجاميش.
جلجاميش.
الراوية (مسرعا) :
هي أقدم ملحمة في التاريخ، جرت أساطيرها وحكاياتها على ألسنة الناس منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وبدأ تدوينها في العصر البابلي القديم على عهد حمورابي، الذي حكم من عام 1792م إلى عام 1750م أعظم إمبراطورية بابلية، وخلد اسمه بشريعته المشهورة. عثر على نصها الأساسي الأخير في «نينوى» عاصمة الآشوريين بين آلاف الألواح التي وجدت في أطلال مكتبة قصر آشور - بانيبال ملك العالم وملك آشور كما كان يسمي نفسه من سنة 667 إلى سنة 626 قبل الميلاد، هذا الملك المجنون بالقتل والمعرفة، بقطع رءوس أعدائه وتمزيق أشلائهم وحرق مدنهم، وبتذوق الغناء والموسيقى وجمع تراث الآباء والأجداد - يعزى هذا النص إلى كاهن بابلي يدعى سين-ليكي-أونيني، عاش في القرن الثاني عشر حوالي عام 1100 قبل الميلاد. ومن المؤسف أننا لا نعرف شيئا عن هذا الشاعر الموهوب الذي نسج من القصص السومرية التي ذكرتها هذا العمل الأدبي الفريد.
الصوت (وهو يتوالى مرتفعا بعض الشيء) :
جلجاميش. جلجاميش.
الراوية :
انتظروا. لا بد من كلمة عن هذا العمل الذي لا نكاد نعرفه ونحن ورثته، ولا يكاد يقرؤه أو يدرسه إلا المختصون بعلوم الآثار والتاريخ القديم واللغات السومرية والأكدية، مع أنه أثر على مدى أكثر من ثلاثة آلاف سنة على أجيال وأجيال من شعوب الشرق الأدنى القديم، بل يحتمل أن يكون قد أثر على بعض أساطير الإغريق وعلى شاعرهم هوميروس حتى استحق أن يسمى أوديسة البابليين.
الصوت (مع دقات طبول مرتفعة) :
جلجاميش. جلجاميش.
الراوية (مندفعا حتى لا يكاد يبين) :
عاش بين سنتي 2750 و2600 أو 2500 قبل الميلاد، وذكرت ثبت الملوك والسومريين أنه خامس ملك حكم مدينة أوروك بعد الطوفان . بلغت المدينة في عهده أوج العظمة والازدهار، وإليه ينسب بناء سورها العظيم، ومعبد إينانا المقدس وهيكل إله السماء آنو. فاض الخير والخصب على بلاده في حياته، وأله في حياته وبعد موته، ونصبته الأسطورة قاضيا لأرواح الموتى في العالم السفلي المخيف. وبناء السور العظيم (يسلط الضوء على أطلاله وخرائبه في أقصى الخلف)
دليل على اشتعال نيران الصراعات والحروب بين مدن السومريين التي كانت كل منها دولة مستقلة تذكرنا بدولة المدينة عند الإغريق. والسومريون (يزداد ارتفاع الطبول)
لا بد من كلمة وفاء لهذا الشعب الجدير بالوفاء. (يهدأ قرع الطبول)
نعم نعم، فهو الذي وضع التقاليد الثقافية والحضارية، وأسس النظم والمعتقدات والنماذج الأدبية، واخترع أول كتابة عرفتها البشرية بالخط المسماري، وأبدع أساطير الخلق والبعث والجنة والطوفان، وكذلك أسطورة جلجاميش.
الصوت :
جلجاميش. جلجاميش.
الملك الحكيم.
البطل الوسيم.
الراوية :
حقا حقا، هذا ما يثبته اللوح الأول، وتؤكده كل الألواح الاثنا عشر. هل قلت لكم إن اسمه معناه الرجل الذي سينبت شجرة، أو المحارب الذي يسير في المقدمة؟ لقد اختلطت منذ القدم الأساطير التي تروى عنه بالأخبار التاريخية التي ترجع للألف الثالثة قبل الميلاد، وارتبط اسمه بالبحث في مصير الإنسان، ومعنى الحياة والموت، والسعي إلى الخلود الذي استأثرت به الآلهة دون البشر.
الصوت (في شبه استغاثة أو دعاء) :
جلجاميش.
ثلثاه إله والثلث الباقي بشري فان.
جلجاميش.
حباه الحسن إله الشمس شمش،
وإله الرعد أداد القوة والبطش.
جلجاميش.
راعى أوروك الملك الحق على العرش
والثور الناطح والأسد الكاسح كالوحش.
الراوية (مؤمنا على ما قاله الصوت) :
وهذا أيضا تثبته الصور المنحوتة على النقوش والأختام الأسطوانية، فتمثله ببطل يحمل في إحدى يديه ساطورا، وفي الأخرى أسدا أو ثورا يمسكه من ذيله أو من رجليه الخلفيتين، بينما تبرز من رأسه القرون التي كانت من شارات الألوهية (تسقط في هذه الأثناء صورة أو لوحة تمثل جلجاميش وهو يمسك أسدا من ذيله وأخرى على هيئة ثور بشري).
الراوية (يسترسل في كلامه دون أن ينتبه إلى الجموع التي بدأت تتوافد من يمين المسرح ) :
لكنه كان على الدوام مضطرب الفؤاد. هذا ما قالته أمه الحكيمة نينسون، وهي تشكو حالها إلى رب الشمس والعدالة (وكأنه يغني أثناء تقليبه في الألواح).
عملاق، فالصدر عريض؛ تسعة أشبار.
والقامة، عذرا؛ فأمامي فجوات؛ عشرة أشبار أو أحد عشر.
جلجاميش طاغ جبار.
جذوة نار.
يقتل في ثورة غضبه،
ويثور الندم بقلبه،
ويفيض الألم بشعبه.
الجموع (التي لم يفطن إليها الراوية بعد؛ إذ يحسبها من الأصوات التي كان يسمعها) :
يوقظنا في أعماق الليل،
على صوت الطبل،
جلجاميش.
الراوية (مرددا كالحالم) :
جلجاميش.
الجموع :
لا يترك ابنا لأبيه.
ماض في الظلم الفادح ليل نهار.
الراوية :
الملك العادل،
والراعي الكامل.
الجموع :
جبار ظالم،
طاغية آثم.
الراوية (مكملا) :
أم بطل حالم؟
جلجاميش شاعر،
وحكيم ثائر.
ثلثاه إله،
والثلث الباقي
بشري زائل.
في الصدر الحائر والقلب الطاهر
تتصارع أرض وسماء،
والطين مع النور الباهر.
الجموع :
كذب، كذب
أسطورة شاعر.
الراوية (ملتفتا إليهم) :
ما هذا؟ من أنت؟
الجموع :
الشعب المقهور الثائر.
الراوية :
كيف أتيتم؟
ما مطلبكم؟
الجموع :
نشكو للعصر الحاضر،
من ظلم العصر الغابر،
نشكو جلجاميش.
الراوية :
الملك الشاعر،
والبطل الظافر؟
الجموع :
والثور الهادر،
والوحش الغادر.
أصوات :
لا يترك بكرا لأمها،
ولا ابنا لأبيه.
ليل نهار يمعن في ظلمه.
هو راعي أوروك الحمي،
وهو القوي الوسيم الحكيم.
لا يترك العذراء لحبيبها،
ولا الابنة لأبيها المحارب،
ولا الزوجة لزوجها.
الراوية (يسترد نفسه، يقلب في الصحائف والألواح) :
حقا! حقا! أذكر هذا.
ورفعتم أصواتكم بالشكوى والأنين
لآنو إله السماء، وإله أوروك.
الجموع :
واستمع الآلهة لشكوانا،
فدعوا سيدة الخلق آرورو قائلين:
أنت يا من خلقت جلجاميش،
اخلقي له الآن ندا جامح الفؤاد،
فيدخلان في تنافس وتستريح أوروك.
الراوية :
إنكيدو.
صاحبه الطيب إنكيدو.
صوت من الجموع :
وحش البرية
يرعى الكلأ مع الغزلان،
ويرد الماء مع الحيوان.
خلقته على صورة آنو،
وحباه القوة نينورتا،
رب القنوات وراعي الشطآن.
الشعر المنسدل سنابل قمح،
والملبس جلد الحيوان،
كرب القطعان سموقان،
لا يعرف شيئا عن طبع البشر ولا البلدان.
صوت آخر :
رآه صياد عند مورد الماء ،
فتجمد وجهه واضطرب قلبه.
شل الرعب لسانه ودخل جوفه،
فانطلق مذعورا إلى أبيه:
وحش البرية تشبه قبضته قبضة آنو.
ردم الحفر التي حفرت.
مزق الشباك التي نصبت.
جعل طرائد البرية تفلت مني.
فتح الأب فمه وقال للصياد:
يا ولدي، في أوروك يقيم الملك الرائع جلجاميش.
من لا يشبهه أحد في قوة بأسه.
امض إليه وأنبئه بنبأ الوحش الجبار،
وسيعطيك بغيا من معبد سيدة الحب الكبرى عشتار.
خذها للبرية، تغلب قوتها قوته،
وصنعتها توقظ فيه الإنسان،
فيهرب منه الوحش وتنكره الغزلان.
شمخات (لا تظهر على المسرح) :
ونضوت ثيابي، وكشفت مفاتن صدري.
أصوات الجموع :
شمخات بغي المعبد؟
شمخات :
بل قولوا كاهنة الحب.
قاربني وحنوت عليه.
عانقني فرويت العطش، وأشبعت الجوع، وهدهدت القلب.
يوما، يومين،
سبعة أيام وليال، نصل الصبح مع الليل.
وإلى أوروك قدت خطاه على الدرب،
كما تفعل أم مع طفل.
الراوية :
وقسمت الثوب الواحد نصفين،
فلبس الثوب،
وبفضلك أكل الخبز،
وذاق مع الناس رحيق الخمر العذب.
شمخات :
ودخلنا أوروك،
وقلبي يهتف: يا أهلي، يا أحباب القلب،
هذا هو إنكيدو المنقذ،
عون المظلوم التعس،
وأمل الشعب.
الجموع :
كنا ننتظر هناك،
على الأبواب وفي الساحات.
ننتظر شهابا أرسله آنو،
نجما يخترق الظلمات.
ننتظر الفأس المطروحة في الطرقات،
وتجمعنا حول البطل.
ضحكنا، صحنا، قبلنا الثوب.
لثمنا اليد والقدم.
هتفنا: هذا هو حلم الشعب.
آه! وا أسفاه!
أصوات :
الحلم تبدد مات.
الحلم تبدد مات.
الراوية :
لماذا؟ ما الذي حدث؟
ألم يصبح إنكيدو صديق جلجاميش؟
ألم يحقق الحلم الذي رآه وفسرته أمه؟
ألم يشغله عنكم يا أبناء أوروك؟
صوت من الجموع :
معك الحق، شغله عنا.
الراوية :
واسترحتم منه.
الصوت :
إن كانت في الموت الراحة.
صوت آخر :
إن كانت في الجوع أو القحط الراحة .
صوت ثالث :
إن كانت في اليتم الراحة.
الراوية :
الجوع؟ القحط؟ اليتم؟
ماذا تقصد؟
الصوت :
تركانا،
وانطلقا للمجهول.
شمخات :
ومع الأيام انهارت أوروك،
وطمعت فيها الأعداء،
ومات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول.
أصوات :
مات الحلم الوردي،
وخاب الأمل المأمول. (تتجه إلى مقدمة اليسار مجموعة من الشيوخ والعجائز، وجوههم كاسفة، ورءوسهم مطرقة، ويؤلفون جوقة مستقلة عن بقية الجموع.)
الشيوخ :
نحن شهدنا موت الحلم،
ووقع الظلم
على المرأة والشاب اليافع،
والطفل العاجز والأب والأم.
الراوية :
لكن، من أنتم؟
من أين أتيتم؟
الشيوخ :
نحن شيوخ أوروك.
فينا الكاهن والسادن،
والكاتب والحاجب،
والصانع والزارع،
والراعي المسئول عن القطعان.
كنا أعضاء الشورى في أوروك،
وأرباب الحكمة والأعيان.
جئنا من هاوية الزمن الموغل في ظلمات القدم
ومن أغوار الوجدان؛
كيما ننذر ونذكر
من أنسته الأيام ومر الأزمان
بحقيقة ما قد كان،
وما أغفله الكتبة والكهان.
نحن المتهم، ونحن القاضي.
نضع الميزان،
ونشارك في محكمة الحاضر والماضي.
الراوية :
أية محكمة؟
الشيوخ :
ولماذا نجتمع الآن؟
جلجاميش.
الراوية :
قلت نحاكمه؟
الشيوخ :
ونحاكم أنفسنا،
ونحاكمكم.
نجتث جذور اللعنة من أرض الإنسان.
فالداء قديم، والشجرة يثقلها الشوك
على الأغصان، تسكنها القردة
والحيات، تعشش فيها الغربان.
الراوية :
أتحاكم فخر الأجيال،
وبطل الأبطال؟
من سافر في الأرض وغامر
عبر بحار الموت،
وقطع الأنهر والوديان.
واقتحم الأرض المجهولة؛ أرض الأحياء،
وقتل الوحش الغادر،
ومحا الشر وصد العدوان؟
أنحاكم من دخل أوروك دخول البطل،
فصحتم في موكبه الظافر:
بطل الأبطال!
أشجع من كل الشجعان!
أنحاكم من خلد ذكر أوروك
فوق المدن الأخرى والبلدان؟
الشيوخ :
غير صحيح بالمرة.
أبدا ما خلد جلجاميش إلا اسمه.
ما حفر على الحجر
وفي النقش البارز إلا رسمه.
الراوية :
لكن الملحمة تؤكد.
الشيوخ :
نحن الشعب،
ولم تذكرنا الملحمة بكلمة؛
ولهذا جئنا لنحذركم،
ونذكركم؛
لنعيد قراءتها معكم،
ونطالع فيها الدرس الخالد والحكمة.
الراوية :
هل تنكر ما فعل البطل؟
الشيوخ :
وأنفي عنه المجد الفاسد،
وأدين طموحه.
الراوية :
لكن الملحمة ستشهد.
الشيوخ :
وسيشهد هذا الجمع الحاشد
ويفض على الملأ جروحه.
والميت منذ قرون
سيغادر في التو ضريحه.
وستشهد شمخات.
الراوية :
بغي المعبد؟
شمخات (تظهر في المستوى الأعلى) :
بل كاهنة الحب.
وكم حذرت حبيبي.
الشيوخ :
وكذلك إنكيدو الطيب،
شبح المسكين المتعب،
يفد علينا من عالمه السفلي المرعب.
إنكيدو (تظهر صورته في المستوى الأعلى) :
أنا إنكيدو.
وحش البرية.
أرعى الكلأ مع الغزلان،
وأرد الماء مع الحيوان.
ما زلت وفيا لعهود الحب،
وإن عهود القلب وثيقة.
وسواء سماني الكتبة خادمه،
أو سمتني الملحمة صديقه،
فلقد كنت ضحيته،
والسكين بيده،
والفأس المطروحة في طرقات أوروك،
والنجم الثاقب يشتاق بريقه.
آه! كم حذرتك يا جلجاميش!
وظللت أردك لجموع الشعب،
لنبض القلب،
وأمر الحب؛
لعلك أن تستمع نداه،
وتأخذ منه الكأس العذب،
وتمتص رحيقه.
آه كان حبيب القلب،
رفيق الدرب،
وكنت رفيقه،
وبكاني حين مرضت.
ولما اختطف الطير الصاعق روحي
شبت فيه النار،
فما أطفأ مر الأيام حريقه،
ومضى كالثور الجامح والنسر الجارح،
خاض بحار الموت،
غريبا يبحث عن حلم لا يدركه البشر،
وما من حي يملك تحقيقه.
آه! كنت المصباح أضاء طريقه،
وسفينته في بحر التيه،
وكنت غريقه. (ينبعث من الكومة البشرية المعتمة في أقصى اليسار نواح مر. يتلفت الحاضرون نحو الصوت الذي لا يتبينون مصدره. تعقد الدهشة ألسنتهم لحظات قبل أن تتحرك رءوسهم وأيديهم بالإشارات والإيماءات، وتند عن شفاههم صيحات التعجب والاستفسار.)
إني أبكيك.
أنصتوا إلي يا شيوخ أوروك.
أنصتوا إلي.
إنني أبكي إنكيدو،
أبكي صديقي،
أطلق شكواي المرة كالندابة.
أنت يا من كنت الفأس إلى جنبي
وفي متناول يدي.
أيها السيف في حزامي،
والدرع الذي يحمي صدري،
أنت يا حلة عيدي،
وحزام بأسي وقوتي،
سرقك مني شيطان ملعون.
إنكيدو، يا صديقي،
ما هذا النوم الذي أطبق عليك
حتى غشيك فلم تعد تسمعني؟
الشيوخ (يتلفتون حولهم) :
هذا الصوت المفجوع المحزن
ينسكب كدمع العين.
هل أعرفه؟
هل أذكره؟
هل هو؟ لا، لا.
من هو؟ من؟
إنكيدو (يردد أغنيته) :
آه! كنت المصباح أضاء طريقه.
كنت سفينته في بحر التيه،
وكنت غريقه.
أورشنابي (وهو ملاح أوتنابشتيم أو نوح البابلي، يظهر في المستوى الأعلى، ويقول في مرح) :
بل أنا ملاح سفينته.
خوضت به في بحر الموت
ليجد لأوتنابشتيم طريقه.
كم أنذرت وحذرت
من الملل القاتل،
للجد المكتئب الخامل.
فأصر ولم يبلع ريقه.
لما طردني الخالد من جنته،
قلت لنفسي:
صعلوك وجد رفيقه.
الشيوخ (يضحكون) :
حتى سيدوري الحلوة
تعبت معه.
مدت بالكأس يديها
لتبل عروقه.
لكن الوهم تمكن منه،
فعجزت حكمتها المرحة أن تنتشل
المفتون الذاهل
من سحب الحلم القاتل وتفيقه.
سيدوري (تظهر في أعلى المسرح) :
بالحق نطقت،
وأنا ساقية الحان
على شاطئ بحر الموت.
مددت إليه الكأس.
دعوت. دعوت.
لعل الخمر تزيل اليأس،
تميت الموت الرابض
في أعماق النفس.
آه! كم حذرت وكم أنذرت!
لعل النسر التائه في سحب الحلم
يعود لحضن الزوجة والبيت.
قلت وكررت، وبح الصوت:
يا جلجاميش، هذا بستان البهجة.
فاقطف فاكهة اللحظة، قبل فوات الوقت.
لم تتعجل سيرك؟
أين تقود خطاك؟
إن حياة تبحث عنها
لن تدركها، لن تصل إليها،
مهما حاولت.
لما أن خلق الآلهة البشر
قديما قسموا لهم الموت،
واحتفظوا في قبضتهم
بخلود يتحدى الحد،
ويوقف عجلات المولد والموت.
فاملأ بطنك.
متع نفسك ليل نهار،
واجعل أيام حياتك أعياد البهجة،
وارقص والعب يا جلجاميش ما شئت.
اخطر في ثوب زاه،
واغسل رأسك بالماء،
وضمخ جسدك بالعطر والزيت.
انظر للطفل الراقد بين يديك،
وأسعد زوجك في أحضانك.
ذلك هو حظ البشر،
وقسمتهم ما عاش الناس وعشت.
صوت جلجاميش :
آه! لا أقدر أن أفعل هذا.
ماذا أصنع؟
وإلى أين أوجه وجهي؟
مذ سقطت من أنف صديقي الدودة
لا أحتمل العيش ولا أحتمل الموت.
أنى قلبت الطرف وجدت الموت
يربض في مخدعي ويسكن عيني،
يلازم خطوي
أنى رحت وأنى جئت.
صوت من الجموع :
هذا الصوت. هذا الصوت.
صوت آخر :
لكأني ألمح ظله.
صوت ثالث :
وأراه وأبصر شكله.
صوت رابع :
لكأن عيون الرعب علي من الأسوار مطلة.
والأمس الذاهب والغد واليوم الشاحب بؤس ومذلة.
صوت خامس :
صوت مرعب.
حتى وهو يئن ويندب
أوشك أن أسمع معه صوت الطبل،
يوقظ أوروك بجوف الليل،
ويسوق الخلق لنير السخرة وسياط الذل.
يخشاه الرجل ولا يرحم حتى العذراء أو الطفل.
صوت سادس :
صوت مرعب.
صوت مرعب.
أسمعه فترفرف أطيار الصدر
وقد أعماها الذعر،
فأسأل نفسي:
هل يبكي الأسد أو النمر
أو الذئب؟
أورشنابي (يظهر أعلى المسرح) :
أما أنا فضحكت،
لما ضاعت منه النبتة
قطع الثوب،
مزق شعر الرأس،
وجدف في حق الرب.
الراوية (يستوقفه) :
أية نبتة؟
ذكرني إن كنت نسيت.
أورشنابي :
ظلت لغزا يطويه البحر ولا يعلن سره،
حتى كشف أوتنابشتيم أمره.
صارت أملا يحمله معه إلى أوروك
لكي يتعزى عن خيبة أمله.
أخرجها من جوف الماء،
فجرح الشوك يديه.
ولما ضاعت جرح القلب.
الراوية :
ضاعت أم أكلتها الحية؟
من سموها أسد الترب؟
أورشنابي :
لن أنسى الفرحة في عينيه،
ولا الدم ينزف من كفيه،
وهو ينادي:
صوت جلجاميش :
يا أورشنابي،
ما أعجبها نبتة!
يأكلها الشيخ فيرجع لصباه بغتة،
أحملها معي إلى أوروك،
وأقسمها بين شيوخ الحكمة.
آكل ما يتبقى
ليعود إلي شبابي وأجدد عهده.
الراوية (للشيوخ) :
أرأيتم؟
لم يستأثر بالنبتة وحده.
أثر أن يسبقه الشيخ الهرم،
ويتذوقها بعده.
الشيوخ :
لا تغتر بكلمات لا تكشف قصده،
أبدا ما غير جلجاميش جلده،
حتى آخر نفس لم يتذكر إلا نفسه،
والمجد الكاذب مجده.
صوت جلجاميش (وقد بدأ الضوء الخافت يظهر ظله) :
أورشنابي،
يا أورشنابي،
يا أوتنابشتيم الخالد،
يا ساقية الحانة سيدوري،
يا روح صديقي الطيب إنكيدو،
ضاعت مني النبتة.
راح الأمل وتاه.
فلمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
ضاع العمر سدى.
لم أكسب شيئا (يبكي).
أورشنابي :
أقبلت عليه،
أخفف عنه
حمول القلب المتعب.
ودعونا شمش الطيب،
راعي الغرباء الحيرى،
في الليل الأعمى،
والتيه المرعب.
يا جلجاميش لا تتلف نفسك،
لا تذرف دمعك
كالطفل المذنب.
بعد قليل يصل الموكب
تدخل أوروك الساحة والملعب.
أوروك البيت الدافئ،
والأم الثكلى،
والأب والجد الطيب.
سرنا الساعات مضاعفة،
وتزودنا من زاد الأرض،
وبارك شمش الرحلة والموكب.
حتى لاح على البعد السور،
ومعبد آنو رب الأرباب،
وهيكل إينانا سيدة الحب،
وراعية الخصب.
وجرى جلجاميش نحو السور،
ولثم العتبة والأبواب،
وصاح كطفل غاب وعاد إلى صدر الأب.
صوت جلجاميش :
انظر يا أورشنابي.
اعل السور.
تمش عليه.
تفحص صنعة آجره.
المس قاعدته.
أوليس الحكماء السبعة
من أرسوا أسسه؟
وانظر للإفريز المعجب
يتوهج بنحاس،
يسطع كالنجم الأشهب.
اعل السور.
تمش عليه،
ومد الطرف إلى الأفق الأرحب.
ثلث للبستان،
وثلث آخر للمرج،
وثلث لأوروك.
الساحة والمعبد والملعب.
انظر والمس قاعدة السور.
تعجب!
الشيوخ (يتجهون نحو جلجاميش وأورشنابي في غضب) :
السور تهدم،
والمعبد والبرج تحطم،
والمرج هشيم ورماد،
والساحة والملعب مأتم.
انقضت كيش
على أوروك
فغرقت في بحر الدم.
والمجد الكاذب
شب حريق فيه،
فلم يبق سوى
الطلل الأبكم.
الراوية :
واللوح المشهور؟
الشيوخ :
تفتت، والنقش تهشم.
الراوية :
لكن الملحمة تقول
بأن البطل العائد ...
الشيوخ :
أعلم، أعلم.
لم يبق من المجد الغابر
حتى الاسم.
الراوية :
والحلم الرائع؟
الشيوخ :
سقط الحلم.
صوت :
سقط على رأسي
في جوف الليل.
صوت :
قتل الزوجة والطفل.
صوت :
صرع الكرمة والحقل.
واغتال الشجرة والظل.
صوت :
وتركنا الدار إلى النار،
وضنك الحال إلى الذل.
الراوية :
جلجاميش، هل هذا حق؟
أأصدق قول الشاعر
في ملحمتك،
أم هذا القول هو الصدق؟
الشيوخ :
فرق أزلي
بين الشعر وبين الشعب.
إن كنت تريد الحق،
اسمعنا، واسمع جلجاميش،
واحكم أيهما الكذب،
أيهما الصدق.
الكلمة ينقشها القلم،
أم الكلمة تنطقها الشفة من القلب؟
الراوية :
جلجاميش، أرجوك تكلم. (جلجاميش يلوذ بالصمت.)
الراوية :
جئنا نقرأ ملحمتك
كي نعي ونفهم.
الشيوخ :
بل لنحاكم من سمته البطل ونحكم. (جلجاميش صمت.)
أورشنابي :
لن يتكلم.
إني أنظر في عينيه وأفهم.
الراوية (مخاطبا جلجاميش) :
أشعر أنك تتألم.
ألأن الحلم تحطم،
تقف هناك كتمثال أبكم؟
ألأن النبتة ضاعت
وانكشف الوهم؟
أرجوك تكلم.
ننتظر الكلمة منك لنفهم.
الشيوخ :
بل لنحاكم،
ثم يكون الحكم.
الراوية :
من سيحاكمه
أنتم؟ نحن؟
الشيوخ :
سنحاكمه
ونحاكم أنفسنا معه
باسم العدل
وباسم الظلم،
باسم الأرملة الثكلى
والشيخ العاجز
والأب والأم.
أورشنابي (ضاحكا) :
ما زال الحالم يحلم.
يلمس أحجار السور
كتمثال أبكم.
يتجول بين خرائب أوروك
شبحا أضناه الهم.
كيف تكلمه؟
كيف سيسمع أو يفهم؟
الراوية :
حقا، ما زال الحالم يحلم.
أورشنابي :
هذا ما قلت الآن.
وأخشى ما أخشاه
ألا أستيقظ أيضا من هذا الحلم.
الراوية :
نحن سنحلم معكم
ونعيد الحلم.
أورشنابي :
أأعود إلى بحر الموت؟
الراوية :
ولأوتنابشتيم الخالد
في واحته النائمة
على صدر الصمت.
سيدوري :
وأنا للحانة والنشوة والكأس؟
إنكيدو :
وأنا للمرض ولعنة عشتار
والموت الظالم والبؤس؟
شمخات :
وأنا للحب الصامت واليأس؟
الراوية :
سنرجع للملحمة
نعيد قراءتها معكم،
نتعلم منها الحكمة والعبرة والدرس.
الشيوخ :
ونعود لأوروك
ونرفع عنها الظلم،
ونحاكم أنفسنا معكم
ونحاكمكم.
الراوية :
سنرى لمن سيكون الحكم.
هيا نبدأ رحلتنا.
يا إنكيدو، يا سيدوري، يا أورشنابي، يا شمخات.
أيتها الأسماء الأخرى،
عودوا للملحمة الكبرى.
هيا! هيا!
الجميع :
نحن على استعداد.
حتى أرواح الموتى،
حتى الآلهة،
ستحضر،
وتشاركنا في نطق الحكم.
الراوية :
هيا يا جلجاميش.
يا من تحلم بالمجد الرائع
وخلود الاسم.
دعنا نحلم معك قليلا
ثم نفيق من الحلم.
صوت :
هو الذي رأى.
صوت آخر :
هو الذي طغى.
أورشنابي :
جلجاميش.
جلجاميش.
ماذا يفعل؟
الشيوخ :
جلجاميش يحلم.
بعد قليل سيفيق البطل من الحلم.
أورشنابي :
أسمع صوت بكاء
كسقوط المطر على الحجر الصلد.
عد يا جلجاميش عد. (تسمع أصوات نشيج مكتوم بكاء يختلط فيها صوت شمخات وجلجاميش.)
الشيوخ :
دعه يحلم بخلود الذكر.
إن كان بكاء ما أسمع
فالدمع يطهر. (جلجاميش يسمع صوت بكائه المستمر، بينما ترتفع أصوات متقاطعة.)
صوت :
هو الذي رأى.
صوت :
هو الذي طغى.
الراوية :
لا توقظه من الحلم،
ولا تتعجل إصدار الحكم.
هيا يا جلجاميش.
يا إنكيدو. يا شمخات.
يا سيدوري. يا أورشنابي.
يا نينسون. ويا أوتنابشتيم الخالد.
يا شمش. ويا عشتار.
أصوات متداخلة :
هو الذي رأى. هو الذي طغى.
هو الذي رأى. هو الذي طغى.
صوت جلجاميش (مع قرع طبول عالية) :
ضاعت مني النبتة.
ضاع الأمل وتاه.
لمن أضنيت يدي؟
لماذا نزف القلب دماه؟
آه! لم أكسب شيئا،
وأضعت العمر سدى. (الجميع ينسحبون على صوت الطبول.)
الفصل الثاني
وحش البرية مع كاهنة الحب
(في المستوى الأدنى جماعة من شيوخ أوروك مصطفين إلى أقصى اليسار. وفي المستوى الأعلى تظهر على التوالي كاهنة المعبد شمخات ثم إنكيدو، وبعض الشخصيات التي يسلط عليها الضوء قليلا قبل أن تختفي. في المستوى الأول تدور مشاهد أخرى تجمع بين جلجاميش وأمه، أو بين إنكيدو وجلجاميش، اللذين يتحلق حولهما نفر من أهالي أوروك. الراوية يقص الأحداث ويعلق الشيوخ تعليقات مختصرة. تسمع أصوات الطبول كما في اللوحة السابقة وهي تردد صيحات عرفناها من قبل.)
جلجاميش
يوقظنا في جوف الليل،
على صوت الطبل.
جلجاميش
الملك العادل،
والراعي الكامل،
للأرملة وللشيخ العاجز والطفل.
جلجاميش
جبار ظالم.
طاغية آثم.
ينتزع من الوالد ولده،
ومن الأم ابنتها،
ومن العاشق محبوبته الحلوة.
جلجاميش ثور وحشي.
بطل مفتول البنيان.
الراوية :
ثار أهالي أوروك وتجددت ثورتهم. رفعوا أيديهم وأصواتهم إلى أب الآلهة آنو الجليل والآلهة نادت ربة الخلق: يا آرورو، أنت خلقت ما أمر به آنو، فاخلقي الآن ما يأمر به. ليكن جامحا مثل الآخر وجياش الفؤاد، وليتنافسا معا فتستريح أوروك وتلتقط الأنفاس. لم تكد آرورو تسمع هذا حتى سوت في ضميرها ما أمر به الإله. تملت صورته في فؤادها على صورته، غسلت يديها، وقبضت قبضة طين رمتها في الفلاة: خلقت إنكيدو الجبار، من نسل الليل الساكن.
1
وحباه القوة والبأس نينورتا المحارب السدود والقنوات. يكسو الشعر جسده كله، وشعر رأسه المتموج كشعر امرأة ينسكب خصلات كسنابل نيسابا إلهة الغلال.
إنكيدو (يظهر في المستوى الأعلى على هيئته الفطرية وهو يردد) :
أرعى الكلأ مع الغزلان،
وأرد الماء مع الحيوان،
وردائي من جلد الأسد أو الماشية
شبيه برداء إله القطعان سموقان.
عند النبع الصافي يفرح قلبي الجذلان.
ذات يوم رآني أحد الصيادين، ثم واجهني يوما ثانيا وثالثا عند مورد الماء. ولما رآني امتقع وجهه، ومضى بطرائده إلى بيته، مذعورا سكنت حركته، شل لسانه، واضطرب جنانه، كست الوجه سحابة حزن وجهامة. فتح الصياد فمه وقال لأبيه.
الصياد (تظهر صورته في أعلى المسرح) :
يا أبت، رجل هبط من الجبل العالي، هو أقوى الناس. شديد البأس، وقوته تشبه قبضة آنو. يتجول فوق الجبل دواما، يلتهم العشب مع الوحش، ولا تبعد قدماه عن النبع. خفت فلم أجرؤ على الاقتراب منه. ردم الحفر التي حفرت. اقتلع الشباك التي نصبت. جعل وحوش البرية تفلت من بين يدي وأتلف عملي. (فتح الأب فمه وقال):
الأب (يظهر في المستوى الأعلى) :
اعلم يا بني أن جلجاميش يقيم في أوروك، أبدا لم يفقه أحد في قوته؛ إذ تشبه في شدتها قبضة آنو، وجه وجهك للملك، وأنبئه بنبأ الجبار؛ ليأمر لك ببغي تصحبها معك إلى البرية، تكسر بقوة شكيمتها قوة ذلك الرجل. وعندما يرد الماء مع الحيوان، دعها تنضو ثوبها ليتلذذ باشتهائها؛ لأنه لو رآها لاقترب منها، وأنكرته الوحوش التي شبت معه في البرية.
الصياد :
انطلقت إلى جلجاميش كما أوصاني أبي، وأبلغته بما سبق أن قلته له، وأجابني جلجاميش كما توقع أبي واستجاب. وغادرت أوروك ومعي كاهنة الحب التي رحت أقودها على الطريق. بلغنا غايتنا في اليوم الثالث، وقبعنا في مخبئنا أنا وبغي المعبد. قضينا اليوم الأول واليوم الثاني عند المورد. جاء الوحش وشرب، وردت حيوانات الماء وارتوت. أما إنكيدو، ابن الفلاة والجبال، إنكيدو الذي يفترس العشب مع الغزلان، ويرد الماء مع الحيوان، فقد رأته البغي. رأت الرجل الوحش، الرجل المفترس الآتي من أعماق البرية. صحت بها: ها هو ذا أيتها المرأة، عري نهديك، اكشفي صدرك، ودعيه يقطف من ثمرك، ويغوص في لذة شهوتك، لا يمنعك الخجل. تلقي سورة نفسه؛ فهو مقاربك إذا أبصرك لأول مرة. اطرحي ثوبك ينطرح عليك. علميه، وهو الرجل المتوحش، صنعة المرأة. وسينكره الوحش تربى معه في البرية، والبهجة تغمرك وتنهال عليك. عرت ثدييها، حررت الصدر، لم تخجل منه، تلقت أنفاسه، بسطت أطراف الثوب، قطف الثمرة، وأرته وهو الوحش الفطري صنع الأنثى والمرأة. ستة أيام مع سبع ليال لم تغفل عينه. لما شبع من اللذة نسي الوطن ومسقط رأسه، ثم توجه لرفاق العمر من الحيوان. قفزت حين رأته وولت هاربة منه الغزلان. نفرت منه وحوش البرية. توقف إنكيدو، خذلته ركبتاه، ثقل عليه الجسد، تعثر في الجري وما عاد كما كان، لكن ثاب إليه العقل، اتسعت آفاق الفهم، فرجع إلى البغي وركع عند قدميها، ثبت عينيه في وجهها، فتح أذنيه ليسمع ما يخرج من فمها من كلمات. (يسلط الضوء عليها، إنكيدو ممدد عند قدمي كاهنة المعبد شمخات، يصغي إليها بانتباه، بينما تكلمه وتضع ذراعها على ظهره وكتفيه وشعره.)
شمخات :
إنكيدو، غبت علي. (إنكيدو صامت يتطلع إلى وجهها.)
شمخات (تربت على شعره وكتفيه) :
ماذا جرى؟ ما هذه الدموع على يدي؟
إنكيدو :
هل أنا دنس يا حبيبتي؟
شمخات :
دنس؟ ماذا تقول؟
إنكيدو :
خرجت أطوف على غزلاني. نظرت في عيني، شمت رائحتي، فرت مني مذعورة، حتى الوحوش وقفت أمامي كأنها تتحداني وتسخر مني. أنا الذي كنت أصطادها بلا عناء. يا صيادي الفاتن، ألقيت شبكتك علي.
شمخات :
أم أنت الذي ألقيت شبكتك؟ سبعة أيام عشت وسبع ليال في قبضة عاصفتك ورعودك. ألم تقلها لك وحوشك وطرائدك؟ ألم تسألك عن صيدك الذي شغلك عنها؟
إنكيدو :
بل صرخت بالأسئلة: لماذا تتركنا، تتخلى عنا؟ سألتني العاصفة، السحب، الغزلان، الغابة والشجر، النهر، النبع الصافي والسنبلة الذهبية: من أخذك منا؟
شمخات :
وماذا قلت لهم؟
إنكيدو :
أنت، أنت الليل، البحر، النجم، الموج. عرفت جنون البحر، وعانقت الموج على جسدك. لفحتني الريح بأنفاسك، ورأيت النجم المتلألئ في عينيك، وتخفيت بكهف الشجر المنسكب على كتفك. وتعانقنا، وتماوجنا، وتفجرنا ريحا وبروقا، حبا وبكاء ووعودا، وسطعنا نجمين وحلقنا طيرين. ننام كظلين، ونتناجى كعشيقين حنونين، وطفلين بريئين، أو نتصارع وحشين عبوسين، ثم نصير ربيعين، وعصفورين صغيرين.
شمخات :
مهلا! مهلا! أنا المرأة الضعيفة أفعل كل هذا؟
إنكيدو :
بل أنت امرأة من عاصفة، من لهب، من غيم ممطر. أنت الفجر أذبت فيه ليل طبيعتي الموحشة، والبحر أطفأت فيه براكيني وأشعلتها.
شمخات (ضاحكة) :
أردت أن أجعل منك إنسانا، فأصبحت شاعرا.
إنكيدو :
ماذا تعنين؟
شمخات :
كنت النسر الذي حبسته في عشي الدافئ، الأسد الظامئ الجائع الذي أويته في عرين صدري. الآن أريدك يا ملك الطيور والوحوش.
إنكيدو :
كان الأفق ملكي، والشمس تاجي، والوادي والغابة عرشي، والغزال والفهد والنمر والحمار الوحشي والأسد رعيتي. صرت أسيرا لك، نسرا في شبكتك، وأسدا في قفصك.
شمخات :
بل حررتك لتحلق وتصول. طر أيها النسر إلى المدينة. ادخل أيها الأسد أوروك.
إنكيدو :
المدينة؟ أوروك؟ ماذا تقصدين؟
شمخات :
مدينة أوروك يا إنكيدو. أوروك ذات الأسوار والأسواق والمعابد والأبراج، أوروك الزينة والبهجة والأفراح والأعياد.
إنكيدو :
وماذا يفعل النسر والأسد هناك؟ ماذا يفعل وحش البرية في ... ماذا قلت؟
شمخات :
أوروك. الشعب هنالك ينتظرك.
إنكيدو :
ينتظرني أنا؟
شمخات :
نعم يا إنكيدو. لقد خرجت من جلد الحيوان. أصبحت إنسانا وازددت معرفة وفهما، بل إني لأراك شبيها بالآلهة، فلماذا مع الحيوان تهيم على وجهك في البراري؟
إنكيدو :
أنا الآن أتأمل وجهك.
شمخات :
انهض يا إنكيدو فوق الأرض؛ فهي فراش الراعي. سآخذك من يدك إلى أوروك. هنالك ينتظرك نسر جارح، أسد يلغ في دماء ضحاياه. هنالك ينتظرك جلجاميش.
إنكيدو :
جلجاميش؟
شمخات :
نعم. نعم. ملك أوروك الجبار كثور وحشي.
إنكيدو :
ليصارعه وحش مثله.
شمخات :
لتجعل منه إنسانا مثلك. تصاحبه وتحبه كما تحب نفسك. ويصاحبك ويحبك كما يحب نفسه. وقبل أن تصل من براريك المترامية سيراك جلجاميش في أحلامه. (يتغير المنظر إلى المستوى الأدنى من المسرح، حيث يدخل جلجاميش على أمه الحكيمة نينسون أثناء صلاتها.)
صوت جلجاميش :
أمي. أمي.
نينسون :
هل سمعت صوته؟ إنه هو الذي أتضرع إليك من أجله.
صوت جلجاميش :
أمي، أين أنت؟
نينسون :
يا إلهي إنليل، لماذا خلقته مضطرب الفؤاد؟ (تترك المبخرة وتتلفت بوجهها إلى جلجاميش الذي يدخل مندفعا.)
جلجاميش :
أمي الحكيمة نينسون، ناديت فلم تردي علي.
نينسون :
بل سمعتك يا ولدي. كنت أدعو لك الإله إنليل.
جلجاميش :
هل دعوته أن يرسل لي أحلاما طيبة؟
نينسون :
وأن يهدئ روعك يا ولدي في الليل والنهار.
جلجاميش :
اسمعي ما رأيت الليلة في الحلم.
نينسون :
قل يا ولدي، ماذا رأيت؟
جلجاميش :
كنت أسير بين الناس متباهيا بقوتي.
2
هنالك احتشدت حولي نجوم السماء، وكقبضة آنو أو شهابه الثاقب هوى أحدها علي. أردت أن أرفعه فكان شديد الوطأة علي. حاولت تحريكه فلم أستطع. تجمع حوله أهالي أوروك، لثم رجالي قدميه، ملت عليه كما أميل على امرأة، وأخذوا يساعدونني حتى تمكنت من رفعه وحملته إليك. والآن، ما تفسيرك يا أمي للحلم؟
نينسون :
جلجاميش، ربما ولد واحد مثلك في البرية وتربى في الفلاة. إذا رأيته فسوف تفرح به، سيقبل رجالك قدميه، وتعانقه وتأتي به إلي. إن نجم السماء الذي انقض عليك هو رفيق قوي، يعين الصديق في الشدة والضيق. قوته الجبارة تشبه قبضة آنو. ولقد ملت عليه كما تميل على امرأة، غير أنه سوف ينقذك المرة بعد المرة.
جلجاميش :
إن كان هذا هو معنى الحلم، فما تفسيرك للحلم الآخر؟
نينسون :
الحلم الآخر؟ إنك مضطرب كالعادة يا ولدي. (تقبل عليه في حنان، فيبتعد عنها وهو يمسك برأسه بين يديه.)
جلجاميش :
لكنه أعجب منه يا أمي. لا تزال الفأس أمامي، وأراها كما أراك.
نينسون :
أية فأس؟ تكلم يا بني.
جلجاميش :
كانت ملقاة على الطريق في سوق أوروك. تجمع الناس حولها، تدافع الشعب عليها. كم كان منظر هذه الفأس مخيفا! لكنني حين أبصرتها فرحت بها وأحببتها. ملت عليها كما أميل على امرأة، وتناولتها ووضعتها في جنبي. ما رأيك أيتها الحكيمة العليمة بكل الأمور؟
نينسون :
الحلم لا يحتاج لحكمة ولا علم.
جلجاميش :
أليس الفأس نذيرا بالدم والموت؟
نينسون :
ألم تقل إنك انحنيت عليه كما تنحني على امرأة؟ وإنك وضعته في جنبك، وربما أحضرته إلي ثم نسيت؟
جلجاميش :
أجل. أجل. تذكرت.
نينسون :
إن الفأس التي رأيت رجل سوف تميل إليه كما تميل إلى امرأة، وسأجعله ندا لك. نفس المعنى يا جلجاميش. إنه الصديق الذي يعين صديقه في الشدة والضيق، هو أقوى الناس في البلاد، وقوته تشبه قبضة آنو رب الأرباب.
جلجاميش (وهو يجري فرحا إلى أمه) :
أمي، هل يبتسم لي الحظ أخيرا؟ أخيرا أحظى برفيق؟ هل هذا هو تفسير الحلم؟ (ينصرف مندفعا.)
نينسون (تتابعه قلقة بعينيها) :
نعم سيأتيك رفيق وصديق، وستنجذب إليه كما تنجذب إلى امرأة. لكن هل تتعلم يا ولدي معنى الحب ؟ (ترفع ذراعيها ضارعة لإنليل وهي تتجه إلى المبخرة لتكمل صلاتها):
يا إنليل، لم خلقت ولدي مضطرب الفؤاد؟ (تنطفئ الإضاءة عليها، وتسلط مرة أخرى على شمخات وإنكيدو الذي لا يزال جالسا عند قدميها.)
شمخات :
هيا يا إنكيدو.
إنكيدو :
إلى أوروك؟
شمخات :
سنمر أولا على كوخ الرعاة. إنهم ينتظرونك هناك.
إنكيدو :
ولماذا ينتظرونني؟
شمخات :
ربما يريدون أن يحتفلوا بك. رأيتهم يشيرون إلينا من بعيد. لقد بدءوا بالفعل في الرقص والغناء.
إنكيدو :
وأغني معهم يا شمخات؟
شمخات :
بالطبع، كما يغني كل إنسان.
إنكيدو :
هيا بنا.
شمخات :
هل يذهب إليهم شهاب آنو الثاقب وعليه جلد الحيوان؟ لا، لا يا إنكيدو. يحتاج الإنسان إلى زي الإنسان. (تخلع ثوبها. تكسوه بنصفه وتكسو نفسها بالنصف الأخر. يقترب منها ليعانقها. تتمنع عليه، فيمد يده إليها.)
إنكيدو :
ألا تأخذينني إليهم؟
شمخات :
كما تأخذ الأم بيد طفلها الصغير. (يتوافد الرعاة على المكان ومع كل منهم قطعة من قطع الديكور؛ كرسي أو مائدة أو إبريق أو كأس أو خبز. وبينما يتجمعون حول إنكيدو تحكي شمخات ما جرى في بيت الرعاة.)
شمخات :
التفوا حوله وهم يهللون ويهتفون ويغنون.
صوت :
وحش البرية. رب القطعان.
من أكل العشب مع الغزلان،
وورد النبع مع الحيوان.
يدخل كإله بيت الإنسان،
ويلبس زي الإنسان.
صوت آخر :
يخطر في ثوب العرس كدوموزي الراعي الطيب.
صوت ثالث :
بل نصف الثوب فحسب.
صوت رابع :
والنصف على كتفي عشتار سيدة الحب.
صوت خامس :
لا تنس. سيدة الحب وسيدة الخصب.
صوت سادس :
حاذر أن تغضب شمخات.
عشتار كذلك سيدة الحرب. (يضحكون ويرقصون.)
شمخات :
هو الذي تعود أن يرضع لبن الحيوانات الوحشية، وضعوا الخبز أمامه فارتبك، نظر إليه وحدق فيه. قدموا له الخمر فلم يعرف كيف يشربها. فتحت فمي وقلت يا إنكيدو! كل الخبز؛ فهو زاد الحياة! واشرب الخمر؛ فهذه عادة البلاد!
وأكل إنكيدو من الخبز حتى شبع، وأخذ من الشراب القوي سبعة أقداح. فرح قلبه، وأشرق محياه، ودار حوله الرعاة وهم يرقصون ويصيحون:
سبعة أرغفة.
سبعة أقداح.
الخبز وفير.
والخمر متاح.
كل يا إنكيدو،
واشرب ما شئت؛
فالعرس بهيج،
وعروسك شمخت.
ولد الإنسان،
وانهزم الوحش.
الحب رماه،
أدخله العش.
سبعة أرغفة.
سبعة أقداح.
الخبز وفير.
والخمر متاح ... إلخ.
شمخات :
غسل إنكيدو جسده الكثيف الشعر بالماء، ومسح بالزيت فأصبح بشرا، ثم لبس ثوبا فبدا كالعريس ، وجرد سلاحه وانطلق يهاجم الأسود، فاستطاع الرعاة أن يأووا إلى فراشهم ويناموا الليل. قتل الذئاب، وطارد الأسود، فاستراح الحراس العجائز؛ إذ أصبح إنكيدو راعيهم؛ إنكيدو الحارس اليقظ، الرجل النادر الفريد.
عاد من صيده للذئاب والأسود، وأسلم نفسه للبهجة والفرح.
سألته: ما الذي يبهجك إلى هذا الحد يا إنكيدو؟ قال: أصبحت الآن على استعداد. تعجبت وقلت: ماذا تعني؟ قال: سأخبرك فيما بعد. ورفع بصره فلمح رجلا مسرعا في سيره، قال: يا كاهنة الحب، أريد أن أعرف إلى أين يسرع هذا الرجل. لماذا جاء إلى هنا؟ أريد أن أناديه باسمه. ناديت على الرجل، اقتربت منه وقلت: أيها الرجل، إلى أين تمضي مسرعا؟ ما هي وجهتك؟ فتح الرجل فمه وقال لإنكيدو: اقتحم بيت الأسرة. أريد أن أقودك إليه لترى بنفسك. سأله إنكيدو: ماذا تقصد؟ من الذي تريدني أن أراه؟ قال الرجل: امتهن حرمة الزوجية. حكم على الرجال في أوروك أن يتركوا بيوتهم مفتوحة ليدخل على العروس قبل زوجها في ليلة الزفاف. أفهمهم أن هذا هو أمر الآلهة وتقديرهم منذ أن ولد وقطع حبله السري. رفع إنكيدو صوته في غضب: من هو هذا الرجل؟ تكلم. قال: إنه جلجاميش. صاح إنكيدو: هل قلت جلجاميش؟ ملك أوروك؟ همس الرجل وهو يرتجف: نعم يا سيدي. إنه يقوم بأعمال مشينة في أوروك ذات الأسواق. وعندما تدق الطبول تبدأ سخرة الرجال بحمل السلال الحجرية، وتبدأ سخرة النساء بإطعام المدينة. إنه على وشك أن يبدأ طقوس الزواج المقدس من إلهة الحب عشتار، ومع ذلك يصر على أن يكون أول من يدخل بالعروس.
عندما سمع إنكيدو كلام الرجل شحب وجهه، هز رأسه كالأسد الغاضب ثم زأر: سأذهب إلى المدينة التي يستبد فيها جلجاميش بالناس، سأتحداه وأصرخ في أوروك: «لقد أتيت لأغير النظام القديم، أتيت لأغير قانون الأشياء؛ لأني أنا الأقوى في هذا المكان.» نظرت في وجهه وقلت مداعبة: لم تقل لي يا إنكيدو، لماذا غمرتك البهجة قبل قليل؟ انبسطت أساريره وابتسم وقال: لأني تطهرت من الدنس. سألت: ماذا تقصد؟ قال: بعد أن قتلت الأسود والذئاب، لم تعد الغزلان تفر من وجهي. أقبلت علي كما كانت تفعل ونظرت في عيني. (تطفأ الأضواء على إنكيدو وشمخات، وتسلط على الراوية.) (يتغير المنظر، ويظهر شارع في أوروك، وإلى اليمين بوابة معبد إينانا المقدس.)
الراوية :
لم تأخذه من يده كما تأخذ الأم طفلها الصغير من يده؛ فلقد غادر إنكيدو جلد الوحش وسكن بقلب الإنسان وعقله. مشى في المقدمة ومن ورائه كاهنة الحب. لم تفتح فمها طوال الطريق بكلمة واحدة. وكلما حانت منها التفاتة إليه رأت وجهه الشاحب العبوس. لما دخلا من أبواب السور العالي الذي يحمي أوروك، أوروك الفسيحة ذات الأسواق، وجدا الناس في الانتظار. تجمعوا حولهما، وأخذوا يصيحون في دهشة وذهول.
صوت :
إن جسده الجبار يفوق كل أبطال المدينة.
صوت :
استجابت لنا سيدة الخلق وبعثت ثورا وحشيا.
صوت :
إنه صورة من جلجاميش.
صوت امرأة :
هو أقصر قامة منه، لكنه أصلب عودا وأقوى عظاما.
صوت :
تعود في مسقط رأسه أن يأكل أعشاب الربيع.
صوت :
ويرضع لبن الحيوانات البرية.
صوت :
ظهر البطل الجبار، ند البطل الكامل جلجاميش.
صوت :
وسنسمع دوما في أوروك قعقعة السلاح.
صوت :
أخيرا وجد جلجاميش من ينازله في الصراع.
صوت امرأة :
سوف تستريح أوروك.
أحد الشيوخ :
صدقت يا أختي. لكن، هل تستريح أوروك؟
الراوية :
هل قلتم شيئا أيها الشيوخ؟
أحد الشيوخ :
لا. لا. لم يحن الوقت.
الراوية :
كان الاستعداد للعرس الإلهي قد بدأ منذ الفجر. فرش البساط على الطريق العظيم إلى معبد إينانا، أو عشتار. لبس الناس ملابس العيد البيضاء. وفي المعبد نفسه أعد فراش العروس لكاهنة المعبد التي ستتلقى عريسها الملك الجميل والبطل الجبار، وتمارس معه طقوس الحب والخصب التي تجدد دورة الطبيعة وازدهار الأرض والحياة. (يظهر إنكيدو على عتبة باب المعبد، ثم يظهر جلجاميش ويتصارعان. يمكن تصوير المشهد بالتمثيل الصامت.)
الراوية :
وقف إنكيدو على عتبة المعبد المقدس. سد الجسد الهائل مدخل الباب، وهتفت عذراء: انظروا للجبل الذي أرسله «آنو» الجليل من جباله الشماء. لمح رجال جلجاميش الذين سبقوه على الطريق رجل البرية وجدائل شعره الكثيف التي غطت غاية جسده، ورأسه الضخم، ولحيته العظيمة. اقتربوا منه فردتهم نظرات الشهاب الغاضب عند الباب. اندفع الشعب المزدحم عليه، أحنوا رءوسهم أمام المعجزة، سقط البعض على قدميه وقبلوها، شعروا بالرهبة والخوف كأطفال مذعورة.
غادر جلجاميش قصره، واتجه بموكبه نحو المعبد، وأبصر وحش البرية يقف على الباب ويسد عليه الطريق إلى المخدع المقدس. تقدم كالوحش الهائج منه، وقابله إنكيدو عند الباب. تماسكا كثورين غضوبين يتصارعان ويخوران، فتهدر أنفاسهما اللاهثة المتحشرجة كما يزأر إعصار وتئز النار. اهتزت أعمدة الباب وزلزلت الحيطان. سحقا العتبة وارتج جدار. نزلا للشارع وواصلا النزال. كالجيش الكامل وقع إنكيدو فوق جلجاميش، لكن الملك تمكن منه كما لو كان امرأة فلواه ووقع عليه. وقف جلجاميش، ثنى ركبته، ثبت قدمه في الأرض، لف ذراعيه عليه وألقاه على الأرض. عندئذ هدأت ثورة غضبه وتحول عنه، والشعب الذاهل أخذته الرهبة من قوة جلجاميش. نهض إنكيدو واقفا على قدميه، تدلى ذراعاه إلى جنبه وبدا الإرهاق على وجهه. نادى جلجاميش والدمع ترقرق في عينيه: في هذا العالم يا جلجاميش ليس لقوتك نظير. ولدتك البقرة الوحشية، أمك الحكيمة نينسون، ليعلو رأسك فوق جميع الرءوس، والملك الرائع قدر لك إنليل. قوتك ومجدك فاقت قوة أمراء العالم.
الراوية (مواصلا كلامه) :
هنا فجوة في العمود السادس من اللوح الثاني، والفجوة تبلغ ما يقرب من عشرة أسطر، يتبعها هذا السطر الواحد:
قبلا بعضهما، وختما ختم صداقتهما، ثم امتدت أيديهما فتعانقت كف مع كف، وغادرا السوق متجهين إلى الخلاء.
شمخات (تقاطعه) :
وجريت وراء إنكيدو وأنا أبكي وأقول: إنكيدو، يا إنكيدو، لا تنس أوروك! لا تنس الشعب!
الشيوخ :
لكن إنكيدو لم يلبث أن نسي الشعب.
أنساه الحب لجلجاميش آلام الناس.
أما جلجاميش فتذكر ما قالت أمه،
وتذكر حشد الأنجم وشهاب الأفق الثاقب والفأس:
ستجد صديقا يؤنس وحشتك.
يعينك في وقت الشدة والبأس،
وينقذك من الكرب،
بين جوانح إنكيدو خفق القلب.
في عقل البطل الجامع دقت أجراس المجد،
ودوى طبل الحرب.
في أوروك المزدحمة كتم الناس الأنفاس،
بدأ البطلان طريقهما المفروش بأهوال الرعب.
أما أوروك ذات الأسوار،
فقد بدأت فيها أحزان الشعب.
الراوية :
معذرة يا شيخ! فلنتبع بطلينا نحو الغابة،
ولنقطع أولى خطوات الدرب. (تطفأ الأنوار. يسمع صوت شمخات وهي تنادي باكية يتبعه صوت الأم نينسون.)
شمخات :
إنكيدو، لا تنس أوروك!
إنكيدو، لا تنس أوروك!
نينسون :
ولدي المضطرب المسكين!
ولدي المضطرب المسكين!
هل يعرف قلبك معنى الحب؟ (إظلام)
الفصل الثالث
السفر لأرض الأحياء
الراوية :
خرجا من بوابة أوروك ذات المزاليج السبعة، واتجها نحو الغابة. تشابكت يداهما كما تتشابك أيدي العشاق، شعر كل منهما بما يدور في عقل صاحبه، أحس بنبض فؤاده. نظر جلجاميش إلى وجه صديقه، رأى الدموع تملأ عينيه، وصدره يعلو ويهبط. عانقه، ضغط على يده، أجلسه فوق العشب وقال: (إنكيدو وجلجاميش يجلسان على العشب ومن ورائهما أشجار الغابة.)
جلجاميش :
يا صديقي، لم تمتلئ عيناك بالدموع؟ لم يغشاك الحزن؟ لم تتنهد في حسرة؟
إنكيدو :
الأسى يا صديقي يأخذ بخناقي. لقد انتابني الضعف، وفقدت ذراعاي قوتهما.
جلجاميش :
هل أسمع هذا منك؟ أنت الأقوى من كل الناس بهذا البلد وقوتك كقبضة آنو؟ لا يجرؤ أحد أن يتحداك، ولا يقدر أن يقف بوجهك؟
الراوية :
لا ندري إن كان جلجاميش قد أحس بغربة إنكيدو في المدينة، وحنينه للبرية وحياة الفطرة مع غزلانه؛ فالنص القديم المملوء بالفجوات يذكر ثلاثة أسطر ربما تكون تكملة لكلامه مع أمه عن صديقه، وربما تكون جزءا من حديثه إلى نفسه (تقرأ السطور بصوت جلجاميش) :
إنكيدو يشكو بمرارة؛ فليس له أب ولا أم، وشعره المنسدل لم يحلق أبدا. لقد ولد في البرية، ولم يجد من يربيه ويرعاه.
الراوية :
لن نعرف أبدا متى قال هذا ولمن، لكننا نعرف أنه فكر في البرية عندما قال لصديقه:
جلجاميش :
اسمع يا إنكيدو! إنليل أبو الآلهة وسيد هذا العالم قرر قدري. لقد رأيت هذا في الحلم.
إنكيدو :
وماذا رأيت؟
جلجاميش :
رأيت اسمي منقوشا على الحجر في أرض الأحياء مع الأمجاد الخالدين، ورأيتني ...
إنكيدو :
انتظر. أعطاك الرب القوة والملك، أما أن تخلد بعد الموت فليس بقدرك. أعطاك أن تنتصر في الحرب، وتحل أمور الناس وتعقدها، أن تكون ظلام العالم أو نوره، لكنه لم يعطك الخلود.
جلجاميش :
هل هذا هو تفسير الحلم؟
إنكيدو :
وهبك إنليل القوة يا جلجاميش. لا تسئ استخدام القوة! اعدل بين رعاياك وخدمك في القصر! أقم العدل أمام إله العدل شمش!
جلجاميش :
لم تسمع بقية الحلم.
إنكيدو :
قل يا جلجاميش.
جلجاميش :
رأيتني معك في غابة مخيفة يسكنها خمبابا الرهيب، ومضينا معا لنقتله ونمحو الشر من العالم، وأنا أدعوك وأهتف بك: تعال لنقطع أشجار الأرز.
إنكيدو (يتنهد في حسرة) :
لقد عرفت يا صديقي عندما كنت أعيش في الجبال، وأتجول في البرية مع الوحوش، أن الغابة تمتد عشرة آلاف ساعة مضاعفة، فمن يجرؤ على التوغل في أعماقها؟ إن خمبابا يزأر فيها كالطوفان، فمه نار مشتعلة، أنفاسه هي الموت. لم ترغب أن تفعل هذا؟ ما من إنسان يمكنه أن ينتصر على خمبابا.
جلجاميش (غاضبا) :
أريد أن أرقى جبل الأرز الذي يتوسط الغابة الهائلة. أريد أن أمضي للغابة مسكن خمبابا، وستكفيني فأس في صراعي معه وتكون عونا لي. أما أنت فابق هنا، سأمضي إليه وحدي.
إنكيدو :
كيف تمضي وحدك إلى غابة الأرز؟ إن حارسها قوي لا ينام،
1
ولقد عينه إنليل ليحرس أشجار الأرز وجعله رعبا للناس. من يهبط للغابة ينقض الشلل عليه.
جلجاميش :
يا صديقي، من ذا الذي يستطيع أن يرقى إلى السماء؟ الآلهة وحدهم هم الخالدون على العرش مع شمش. أما البشر فأيامهم معدودة، وقبض الريح كل ما يعملون.
2
أراك خائفا من الموت ولما تزل هنا في مكانك. أين ذهبت قوة بطولتك؟ سأمضي إذن أمامك، ولينادني فمك: تقدم! لا تخف! فإذا سقطت رفعت اسمي عليا، وسوف يقال عني: جلجاميش لم يتهيب مصارعة خمبابا الرهيب. نعم يا صديقي، سأمد يدي وأقطع شجر الأرز (ينهض واقفا ويستدير للمضي وحده) .
إنكيدو :
انتظر يا صديقي. أراك صممت على الذهاب. هل تظن أنني أتخلى عنك؟
جلجاميش :
حسبتك أسأت تفسير الحلم؛ لذلك فسرته على طريقتي.
إنكيدو :
انظر إلي يا جلجاميش. مرني أن أذهب معك إلى حيث أقام خمبابا مسكنه. مرني أن أدلك على الطريق الذي تعود أن يتجول فيه. هيا يا صديقي.
جلجاميش :
بل نذهب أولا إلى القصر العظيم للقاء نينسون الملكة الحكيمة العليمة بكل الأمور.
إنكيدو :
لتكشف طالعنا وتبارك خطواتنا؟
جلجاميش :
وتصحح لك تفسير الحلم. (تطفأ الإضاءة عليهما. تسلط للحظات قصيرة على الراوية والشيوخ.)
الشيوخ :
مهلا يا راوية! تمهل!
الراوية :
لا وقت لدينا. نريد أن نذهب معهما إلى القصر العظيم.
الشيوخ :
سنذهب معك، ولكن ...
الراوية :
لكن ماذا يا شيخ؟
الشيوخ :
أولا يستوقفك كلامه؟ أولا يدعوك لأن تتأمل لحظة؟
الراوية :
من تقصد؟ إنكيدو أم جلجاميش؟
الشيوخ :
إنكيدو بذل النصح وحذر.
لكن البطل الجامح والمتكبر
لم يصغ إليه، لم يتذكر إلا اسمه.
ينقشه فوق الحجر لعل الحجر يخلد ذكره.
لم ينس ألوهيته لحظة.
الراوية :
جلجاميش نطق الحكمة.
الشيوخ :
بل ردد في الواقع كلمة،
لاكتها أفواه الناس وغناها الشعراء،
ولقنها الكاتب لصبي جرب فيها قلمه.
أيام البشر المعدودة،
وحياة هي قبض الريح،
وومض تطفئه النسمة.
ما أسهل أن تنطق بلسانك كلمة!
فالحكمة أن تحيا الحكمة.
تغرس خنجرها فيك وتتشرب سمه.
الراوية :
دعنا الآن من الخنجر والسم،
وهيا للقصر العالي!
نتعلم من فم نينسون الحكمة،
ونحل مع البطلين الأزمة!
سارا نحو القصر.
تشابكت كفان،
ومال الجسم على الجسم.
إنكيدو الصامت ثقل عليه الهم.
وجلجاميش يختال غرورا،
يتفجر طربا كالثور. (تنطفئ الأضواء على الراوية والشيوخ، وتسلط على قاعة في قصر نينسون العظيم الإيجال ماخ.)
جلجاميش (يدخل مندفعا، يتردد إنكيدو عند الباب) :
أمي، أين أنت يا أمي الحكيمة؟ هل تنصتين إلي لحظة؟ هل تباركين خطواتي؟
نينسون (تدخل من باب جانبي وتتجه إليه في قلق) :
جلجاميش؟ ولدي، ماذا بك؟
جلجاميش :
جئت أخبرك يا أمي.
نينسون :
مضطرب كالعادة؟ تكلم يا بني.
جلجاميش :
عزمت على الرحيل إلى موطن خمبابا الرهيب. سأقطع طريقا لا أعرفه، وأدخل معركة لا أعلم نتائجها. فإلى أن أذهب وأعود، إلى أن أصل إلى غابة الأرز وأقتل خمبابا، وأمحو من البلاد كل شر يكرهه شمش؛ صلي من أجلي عنده.
نينسون :
تعرف أن صلاتي لا تنقطع أبدا يا ولدي. ماذا يدفعك لهذا؟
جلجاميش :
عندما أجهز عليه وأقطع أشجاره، سيعم السلام ربوع البلاد، وسأقيم أمامك نصب النصر.
نينسون :
ألهذا تضني نفسك؟ تذهب للمجهول وقد لا ترجع؟
جلجاميش :
سأحفر لنفسي اسما خالدا مع أسماء الخالدين. وإذا سقطت صنعت لنفسي شهرة.
نينسون :
آه الخلود والشهرة! وهل تذهب وحدك؟
جلجاميش (يتلفت حوله) :
وحدي؟ لا. لا. إنكيدو، أين أنت يا إنكيدو؟
إنكيدو (يتقدم خجلا) :
سيدي. سيدتي.
جلجاميش :
أسد البرية، فاقت قوته قوة كل الأبطال، لا يغلبه أحد في أوروك، ولا يقدر أحد أن يتحداه.
نينسون (تتأمله في عطف) :
النجم الساطع في الحلم؟
جلجاميش :
والفأس المطروحة على الطريق. صدقت نبوءتك يا أمي. عوني في وقت الشدة ودليلي.
نينسون (تتقدم من إنكيدو، تمسك بيده هامسة) :
ولدي.
جلجاميش (يربت على ظهر إنكيدو ضاحكا) :
أم صديقك هي أمك أيضا يا إنكيدو، لا تتأخر.
نينسون :
إلى أين تذهب؟
جلجاميش (أثناء انصرافه) :
إلى السوق يا أمي. لقد أمرت صناع السلاح أن يتجمعوا هناك، وكذلك الشيوخ سيحضرون. لا بد من السيوف والفئوس والدروع، ولا بد من الحكمة أيضا! (ينصرف ضاحكا.)
نينسون (تتقدم نحو إنكيدو وتمسك بيده وتتحسس شعره الكث) :
إنكيدو، يا إنكيدو القوي، لست ابن جسدي ولم تحملك أحشائي، لكني أتحدث إليك الآن ...
الراوية (يقطع حديثها) :
النص هنا شديد الاضطراب. سطور قليلة غامضة، تتبعها فجوة من أربعة وثمانين سطرا. ماذا قالت نينسون لابن البرية الذي لا أم له ولا أب؟ ربما تكون قد أوصته قائلة: احم صديقك يا إنكيدو، ارع رفيقك. وربما تكون قد قالت له ما ستقوله في صلاتها لشمش: أعده إلي سالما! أو تكون قد بخرته وباركته في حضرة الكاهنات والعرافات، وعذارى المعبد وعرائسه المنذورات للإله، لكن الذي أثبته النص الصحيح أنها طوقت عنقه بقلادة نفيسة أو تميمة مقدسة محلاة بالجواهر، ثم تركته ودخلت مخدعها لتتخذ زينتها قبل إقامة الصلاة. (في هذه الأثناء تودع نينسون ابنها بالتبني وتتجه إلى مخدعها. يقف إنكيدو مرتبكا، بينما تدخل خادمات يحملن مباخر ومواقد وأوعية مختلفة يضعنها على منصة عالية في عمق المسرح، يتأملهن إنكيدو لحظات ثم ينصرف وهو يتلفت وراءه ويختفي.)
الراوية :
وضعت عليها رداء يليق بجسدها، وحلية تليق بصدرها. لبست الحزام والتاج، وسكبت الماء من الجفنة على الأرض. ارتقت الدرج وصعدت إلى المنصة، أحرقت البخور لشمش، قدمت القربان ورفعت ذراعيها أمامه. (تفعل نينسون ما يقوله الراوية ثم ترتل صلاتها.)
نينسون :
لم أعطيت ابني جلجاميش قلبا لا يهدأ؟ وها أنت ذا تحفزه على الرحيل إلى طريق بعيد حيث يسكن خمبابا، والدخول في معركة لا يعرف نتائجها. إلى أن يذهب ويعود، وإلى أن يصل إلى غابة الأرز ويصرع خمبابا الرهيب، ويقضي على كل شر تكرهه ويمحوه من البلاد، لتذكرك به عروسك ربة الفجر «آيا» وأنت تطل على طريقه بالنهار، ولتعهد به بعد رقادك في حضن الأرض إلى النجوم وحراس الليل، وإلى أبيك إله القمر سين.
إلهي شمش وراعي ولدي جلجاميش، أنت يا من سويت فؤاده القلق فسكن القلق فؤادي، كيف أستريح من السر الذي يختبئ فيه؟ كيف أطلعك عليه وأنت الأدرى به؟ أما هو، فكيف أطلعه عليه؟ كيف أفجعه في نفسه وفي أبيه؟ أأقول له: لست ابن «لوجال بندا» الذي رفعوه بعد الموت وألهوه؟ هل أجرؤ أن أعلنه بالسر وأصرخ فيه: لست إلها يا جلجاميش. لست إلها. إنك فان وأبوك كذلك بشر فان؟ لا. لا. ليس هو الملك الأسطوري الذي ألهوه على عادتهم بعد موته. إنه ... آه يا شمش! كيف أصارحه به؟ كيف سأتحمل صدمته حين يعرف أن أباه كاهن مغمور، أحد المجهولين الذين يأتون من التراب ويذهبون إلى التراب؟ هل يتحمل قلبه الطائش المسكين هذه الطعنة؟ هل سيصدقها وهو الذي يردد عليه الجميع: ثلثاك إلهي والثلث الباقي بشري فان ؟ بل كيف سأتحمل نظرته لي؟ كيف أرد على التهمة تنفذ حربتها في قلبي؟ آه! أنت الأدرى يا شمش الخالد أني بشر أخطئ كالبشر، وأن ابني بشر مثلي؛ بشر فان، بشر فان. لكن، كيف سأبلغه الخبر؟ ومن يبلغه له؟ أخبرني يا شمش الخالد ، ماذا أفعل كي يهدأ ولدي المسكين؟ فأنا أم فانية وابني فان. زجتنا الأسطورة بين الآلهة وما نحن سوى قبضة ريح أو قبضة طين. يا من تكلأ برعايتك المظلومين، وتهدي الحيرى في الصحراء وليل التيه، احرس جلجاميش وأعده إلي معافى؛ ولدي المضطرب الطائش، ولدي البشري الفاني.
الراوية :
كان إنكيدو قد سمع صلاة نينسون وهو متخف وراء الباب. لما أطفأت البخور وأنهت صلاتها، واتجهت والدموع في عينيها إلى مخدعها؛ وجد نفسه يقف وحيدا ويوشك على البكاء. تذكر صديقه الذي ينتظره، هز رأسه وهو يتمتم في ذهول:
إنكيدو :
جلجاميش بشر فان؟ جلجاميش ليس إلها، بل بشر فان؟ كيف أصدق هذا؟ من سيصدقه؟ آه! لكني لن أتخلى عنه، لن أتخلى عنه أبدا. (ينصرف مسرعا وتطفأ الأضواء.)
الراوية :
توافد الناس على بوابة أوروك ذات المزاليج السبعة. ملئوا الطرقات والأسواق بالصياح والهتاف والتهليل، بالرقص والغناء والضجيج. (تتردد أصوات رجال ونساء وصبايا وأطفال): - غنوا للبطل الكامل والملك العادل. - المجد لأوروك وابن أوروك الباسل. - الراعي الطيب والثور الوحشي القاتل. - سيخاطبنا الآن ونسمع منه. - ونودعه للقاء قادم. - تلك مغامرة خطرة. - فليحفظه شمش وباقي الآلهة. - ويرجع ملاح أوروك إلى المرفأ. - أو ينضم لمجمع آلهة العالم. - بل يرجع للوطن وقد خلد ذكر الوطن ومجده. - أم ذكر البطل الخالد وحده؟ - ولسان الحاقد مثلك. - يقطعه كي يمحو حقده. - المجد لجلجاميش وحده. - ولأوروك. - هو أوروك. - كانت أوروك خرابا قبله. - حتما ستصير خرابا بعده. - انظر يا ولدي. انظر. - جلجاميش. - العربة تهدر والموكب يزحف. - لا تزدحموا! لا تخرج عن هذا الصف! - من خرج عن الصف استخدمنا معه العنف. - جلجاميش، من هذا الواقف معه؟ - أولا تعرف؟ - إنكيدو وحش البرية. - بطل الأبطال مصارع. - أمل أوروك. - أمل أوروك الضائع. - غنوا للبطل الكامل. - البطل الطائش. - جلجاميش. جلجاميش. - الراعي الطيب والملك العادل. - جلجاميش. جلجاميش. - والثور الوحشي القاتل. - والأسد الباطش.
الشيوخ :
الشعب يهلل بالفرحة ويؤجج ناره.
والنار ستحرق وتدمر في غده داره.
ويظل يساق إلى المجزرة، يظل يمجد جزاره.
ويمني النفس بمحو الشر من العالم
وخلود الذكر،
للبطل المنتصر الخالد كخلود الدهر .
والشعب المسكين الساذج
يدفع دوما ثمن النصر.
الراوية :
لا. لا. أرجوكم، سيأتي دوركم بعد قليل. أما الآن فعليكم أن تستعدوا لسماع جلجاميش وتقديم النصيحة التي يطلبها منكم. ها هو ذا يقف أمامكم.
جلجاميش :
أصغوا إلي يا شيوخ أوروك ذات الأسواق.
وأنت أيها الشعب الذي تقف أمامي.
أريد أن أرحل لمواجهة خمبابا الرهيب.
أريد، أنا جلجاميش، أن أرى ذلك الذي يجري اسمه على شفاه الجميع وأصرعه في غابة الأرز.
أريد أن تسمع البلاد كلها بقوة ابن أوروك.
أريد أن أضع يدي على أشجار الأرز وأقطعها.
وبذلك أصنع لنفسي اسما يخلد ويدوم.
الراوية :
وتكلمتم يا شيوخ أوروك وحكماءها الكبار.
الشيوخ :
حذرناه ونصحناه، قلنا له:
لأنك ما زلت فتيا
يجرفك القلب بعيدا.
إنك لا تعلم ماذا تصنع.
خمبابا، فيما نسمع، منظره بشع مفزع.
من يجرؤ أن يصمد
طرفة عين لسلاحه؟
والغابة يتسع مداها، يمتد لساعات،
والساعات مضاعفة، عشرة آلاف.
من يقدر أن ينحدر إليها أو يتوغل فيها؟
خمبابا يزأر فيها كالطوفان،
يتنفس موتا،
يزفر حمما كالبركان.
ماذا يدعوك لهذا الفعل؟
وماذا يدفعك إليه؟
هل تدخل في حرب معه؟
تتوهم أن تنتصر عليه؟
لما سمع نصيحتنا، نظر لصاحبه
والضحكات تقهقه في عينيه.
الراوية :
وهنا ينقطع كلامك، وتظهر على اللوح فجوة تتعذر معها قراءة تسعة سطور. هل عبرت هذه السطور عما قاله جلجاميش لصديقه إنكيدو؟ وماذا تراه قد قال؟ وكيف رد عليه إنكيدو؟ إن السطور التالية تبين أنكم أذعنتم لمشيئته وباركتم مغامرته. أليس كذلك أيها الشيوخ؟
الشيوخ :
لم نذعن لمشيئته، لم نستسلم له.
لكنا حين يئسنا منه،
لم نتخل كذلك عنه، ولم نقس عليه.
حذرناه وأنذرناه.
قدمنا النصح
دعونا الرب الحارس أن يرعاه.
قلنا: يا جلجاميش لا تغتر بقوتك كثيرا.
احفظ نفسك، وافتح عينيك.
وثق بصديق عرف الغابة.
سلك الدرب الوعر مشاه.
دع إنكيدو يتقدمك عليه.
دعه يدل خطاك.
فهو عليم بفنون الحرب،
وجرب حيل المارد ورآه.
ليحقق شمش الراعي رغبة قلبك،
وليجعل عينك تشهد ما قد أعلن فمك،
ويفتح لك أبواب الطرق،
ويكشف أنفاق الجبل لقدميك.
فكم حفظ التائه وحماه!
يا جلجاميش.
ندعو الليل بأن يهبك ما يفرح صدرك.
نبتهل للوجال بندا أن يقف جوارك ويؤيد نصرك.
في نهر المارد خمبابا،
اغسل قدميك،
واحفر بئرا بعد مغيب الشمس،
واملأ قربتك بماء صاف،
واسكب لإلهك شمش، وقرب لإلهك لوجال بندا
قربانا من ماء عذب.
إنكيدو، احم صديقك،
واحفظ في السفر رفيقك.
إنا نعهد بالملك إليك،
أعده لمرفأ أوروك معافى.
جنبه مهاوي الجبل.
أعد للزوجة
في القصر العالي جسد الزوج.
إنا نكل الملك إليك،
وعلى أرض الوطن الغالي نأخذه منك.
الراوية :
لما انتهيتم من كلامكم فتح إنكيدو فمه وقال لجلجاميش في غضب:
إنكيدو :
لقد اتخذت قرار السفر، فهيا نذهب. انظر لي، ضع ثقتك في، وقلبك فاطرد منه الخوف. هيا إني أعرف موطنه، أعرف كل طريق يسلكه خمبابا، فأمر أن نبتدئ الرحلة، وأمر أن يذهب هؤلاء الشيوخ ويرجعوا إلى بيوتهم.
الراوية :
فتح جلجاميش فاه وقال لعجائز أوروك، معذرة، قال لكم يا شيوخ أوروك:
جلجاميش :
سأفعل ما أخبرتكم به. لقد سمعت نصائحكم عن طيب خاطر.
الشيوخ :
لما أن ختم القول توسلنا له:
اذهب يا جلجاميش،
وليسر الحظ بجانبك،
ويمش شمش الحارس بجوارك؛
ليبسط فوقك ظل هداه،
ويبلغك السعد،
وإنجاز الوعد.
الراوية :
وانصرفتم أيها الشيوخ، ثم تقدم الصناع بأسلحتهم إلى البطلين. جاءوا بالسيوف العظيمة والدروع والأقواس ووضعوها بين أيديهم. أخذ جلجاميش البلطة والفأس، علق جعبته حول وسطه وقوس أنشان
3
وثبت سيفه في حزامه. أما إنكيدو فوقف صامتا كالتمثال الأخرس، وضعوا الدروع على صدره فلم ينتفخ، علقوا السيف ذا الغمد الذهبي في حزامه فلم يزه به، ناولوه بلطة وفأسا لامعة النصل فلم يفتح فمه، انهمرت الدموع من عينيه على أيدي الصناع، فنظروا إلى وجهه واحتبس الكلام في لهاتهم . وظل جلجاميش يصلصل بأسلحته ويتبختر كطاوس إلهي مدجج بعدة الحرب حتى وقع بصره على صديقه. اقترب منه وهو يهمس: معك الحق. لقد نسينا أن نكشف الطالع، أهملنا نصح الملكة الحكيمة والشيوخ العجائز. لم ينطق إنكيدو. ربت جلجاميش على ظهره، مد يده ليجره من يده. لم يتحرك إنكيدو، زاد بكاؤه. تركه جلجاميش وانزوى في ركن بعيد. كان الصناع قد انصرفوا وانصرف الناس. لم تبق إلا أصداء من دعواتهم ووقع أقدامهم على أرض الطرقات والأسواق. ركع ورفع يديه بالصلاة وقال:
جلجاميش :
ليكن ما قاله الشيوخ! سأذهب الآن يا شمش، وإليك أرفع يدي. احفظ روحي من الأذى، وأعدني سالما إلى الحمى والسور، ابسط ظل حمايتك علي. سأمضي على طريق لم أسر عليه، طريق لا أعرف إلى أين يفضي بي. آه يا إلهي! إن الدموع تنساب من عيني. هل ستبقي روحي في مأمن من الشر؟ إن كان هذا فسوف أحبك من صميم قلبي كما فعلت على الدوام، سأشبع نفسي من نشوة العبادة في بيتك، وسأجلسك فوق العروش.
4
إلهي، أنصت لي، اجعل صوتي مسموعا لك.
في هذه المدينة يموت الإنسان يائسا مقهور الفؤاد. نظرت من فوق السور ورأيت الجثث تطفو على النهر. أعلم أن هذا سيكون نصيبي أيضا، بل إني أعلمه منذ الآن.
من من أبناء البشرية طالت قامته حتى بلغ السموات؟ من استطاع منهم أن يحتوي الأرض بين ذراعيه؟ لذلك ضقت بأوروك وضاقت بي؛ ولهذا أدخل تلك الأرض المجهولة، أرض الأحياء، وأنقش اسمي فوق الحجر كما قرر قدري. سأدخل البلاد التي يقطع فيها شجر الأرز وأتوغل في الغابة، وسأكتب اسمي حيث كتبت أسماء العظماء الخالدين. وإذا لم أجد اسما فسأرفع نصبا للآلهة هناك. ها هي ذي الدموع لا تزال تجري من عيني. كن في عوني يا شمش الحارس! إنها رحلة طويلة أقطعها إلى بلد خمبابا الرهيب. إن لم تحقق رغبتي فلماذا حركتني إليه؟ لماذا غرست بنفسي الشوق القلق إليه؟ كيف سأنجح إن لم يسعفني عونك؟ وإذا مت هناك فلن أندم. أما إن رجعت سالما فسأقدم لك الهدايا وأقرب قربانا لك، وسيلهج بالحمد لساني ويسبح لك.
الراوية :
كان إنكيدو ينظر إليه ويسمع دعاءه. راح يسأل نفسه:
إنكيدو :
هل يبكي للآلهة إله أو نصف إله؟ هل يمكن أن ترتفع الشكوى إلا من بشر فان؟ حقا، جلجاميش بشر فان ، بشر فان.
أعرف هذا الآن، ولكن كيف سأخبره به؟ كيف أبوح له بالسر؟
جلجاميش! جلجاميش! أخي وصديقي.
جلجاميش :
فلنمض الآن!
إنكيدو :
وعلى بركة شمش وباقي الآلهة!
الراوية :
وانصرفا في طريقهما إلى غابة الأرز. رنت الأسلحة الهائلة على الجسدين وفي الأذرع والأقدام. رنت أصوات الشعب وصوت المسكينة شمخات:
أصوات :
يا جلجاميش، لا تنس أوروك! لا تنس الأرملة الثكلى والأيتام!
عد لأوروك المرفأ والسور! ارجع لتراب الوطن ولا تتأخر عنا!
صوت :
إنكيدو! يا إنكيدو! حذرتك فلماذا تذهب؟!
آه! احفظ نفسك! لا تتهور! احفظ نفسك! قلبي يدعو لك. (ينصرف البطلان متشابكي الأيدي تسمع أسلحتهما الثقيلة، وتطفأ الأنوار.)
الفصل الرابع
مصرع خمبابا في الغابة والجبل الأخضر
(في غابة الأرز، الصديقان يدخلان ويداهما متشابكتان. إنكيدو يقترب من البوابة، يحاول أن يفتحها فيصرخ من الألم.)
إنكيدو (صارخا) :
آه يا جلجاميش! حاذر!
لا تتوغل في الغابة.
فذراعي فقدت قوتها حين لمست البوابة.
احذر يا جلجاميش هذا السحر القاتل!
جلجاميش (يسرع إليه) :
إنكيدو.
لم تتكلم كالجبناء؟
هل قاسينا السفر،
وواجهنا الخطر،
لنرجع من حيث أتينا؟
إنكيدو :
أصرخ من ألم مضن،
والموت يشل ذراعي،
يكبل جنبي ويخنقني.
جلجاميش :
انس الموت. اتبعني.
يتلاشى شلل ذراعيك ويهدأ روعك.
يحمي كل منا الآخر.
فإذا سقط يخلد اسما لا يفنى.
الراوية :
امحت خمسة أعمدة من هذا اللوح الذي يصف رحلة الملك وصديقه إلى غابة الأرز، ولم تبق منه سوى شذرة قصيرة تصور تجربة البطلين؛ فبعد عشرين ساعة مضاعفة
1
توقفا لبعض الزاد، وبعد ثلاثين ساعة أخرى مضاعفة أخلدا للراحة مع هبوط الليل. قطعا خمسين ساعة مضاعفة في النهار، واجتازا مسيرة شهر ونصف الشهر في ثلاثة أيام. وفي المساء استراحا وحفرا بئرا سكبا منه لشمش القربان. بيد أن اللوح الذي انطمست معظم أعمدته وسطوره لا يسمح لنا بتتبع ما جرى لهما؛ فبعد الكلام عن الساعات التي قطعاها في رحلتهما نلاحظ ضياع ما يقرب من مائتي سطر كاملة، ثم نجد البقية الباقية غامضة ومليئة بالفجوات. ونفهم منها أن جلجاميش وإنكيدو وصلا إلى بوابة الغابة، وأن إنكيدو حاول أن يفتحها فصرخ من الألم كما سمعنا الآن. ويبدو أن جلجاميش قد راودته الشكوك في إمكان الدخول من البوابة والتخلص من الحارس الذي عينه المارد خمبابا عليها؛ إذ يستنهض إنكيدو همته في هذه السطور التي اجتهد العلماء في إصلاحها.
إنكيدو :
تذكر ما قلت في أوروك. انهض وتقدم منه لتقتله، أي جلجاميش يا ابن أوروك.
الراوية :
سمع جلجاميش كلام صديقه وعاودته الثقة. وهذا ما شجع إنكيدو على مواصلة كلامه.
إنكيدو :
أسرع إليه حتى لا يهرب، وينحدر إلى الغابة فيفلت من أيدينا.
فمن عادة هذا الحارس أن يلبس سبعة دروع، لا يقدر أي سلاح أن ينفذ فيها. إنه يضع عليه الآن درعا واحدا، والستة الباقية منزوعة ومطروحة على الأرض أمام قدميه.
الراوية :
ولا يلبث النص أن يتشوه في هذا الموضع، بحيث لا نستطيع أن نفهم منه أكثر من أن أحد الصديقين قد انقض كالثور الوحشي، وأن حارس الغابة قد صرخ واستولى عليه الرعب وأخذ يستغيث بخمبابا الذي دعاه حارس الغابات. ثم تأتي فجوة من اثنين وعشرين سطرا، ربما تكون قد قدمت وصفا للمعركة التي نشبت بين الصديقين وبين حارس الغابة حتى تمكنا في النهاية من فتح بوابتها. ولا بد أن إنكيدو قد أدرك مدى خطورة المغامرة على حياة جلجاميش المتردد بين الاقتحام والإحجام؛ إذ يفتح فمه ويحذره بهذه العبارة الوحيدة الباقية من كلامه:
إنكيدو :
فلتعدل عن التوغل في الغابة!
الراوية :
إلا أن جلجاميش الذي نفخت الشجاعة والثقة صدره أخذ يؤنبه على تخاذله كما سمعنا قبل قليل، ثم استأنفا المسيرة والسرى حتى وصلا إلى الجبل الأخضر، فاحتبست الكلمات ووقفا ساكنين.
الشيوخ :
حقا، نحن سمعنا هذا أيضا.
جلجاميش نظر إلى الجبل الأخضر.
نظر إليه الموت.
هربت منه الكلمات،
وران عليه الصمت ،
وارتعشت أشجار الأرز،
فمسته الدهشة والذعر،
كغريق أطبق سقف الكون عليه،
وطوقه موج البحر.
الراوية :
نعم. نعم. وقفا يتأملان الغابة في سكون. أصابهما الذهول من ارتفاع أشجار الأرز وذراها العالية، وتطلعا إلى جبل الأرز، مقام الآلهة وعرش عشتار. كانت الأشجار المترامية أمامهما شامخة تنشر حولها ظلال الجمال والسلام، والخضرة منبسطة على السهل والجبل والأكمة والدغل الملتف الأغصان. ولمحا على أرض الطريق آثار قدمي خمبابا، فأخذا ينتظران ظهوره. ولما طال انتظارهما طلب إنكيدو من صديقه أن يهجعا قليلا ويتركا للأحلام أن تريهما أثره. أما جلجاميش فحفر بئرا قبل غروب الشمس، ثم ارتقى الجبل وتضرع إليه أن يرزقه حلما طيبا. (الصديقان راقدان على العشب. يصحو جلجاميش فجأة من نومه ويهتف بصاحبه):
جلجاميش :
إنكيدو! ما الذي أيقظني من النوم إن لم تكن أنت؟ لقد رأيت حلما يا صديقي.
2
هيا انهض، اصعد على صخور الجبل، وانظر من شفا الهاوية. لقد حرمت النوم الإلهي وانقطع الحلم. آه يا صديقي! يا له من حلم سيئ مضطرب! رأيت أني أقبض على ثور وحشي في البرية، خار الثور وأثار سحابة من الغبار فأظلمت السماء، وأمسك بذراعي فوقعت على ركبتي، ثم تقدم مني شخص فسقاني من قربته ماء.
إنكيدو (وهو يفرك عينيه) :
يا صديقي! ليس الإله الذي نسعى إليه هو الثور الوحشي. الثور الوحشي الذي رأيته هو شمش الحارس. سوف يأخذ بيدك في وقت الشدة. أما الذي سقاك من قربته فهو إلهك لوجال بندا الذي يرعاك ويحميك، نريد أن نضع أيدينا في يده لنقوم بعمل لا تموت شهرته أبدا.
إنكيدو :
تشابكت أيديهما وأخلدا للراحة. أسرع إليهما النوم الذي ينسكب من الليل.
3
وفي منتصف الليل هرب منه النوم،
4
وروى لصديقه الحلم الثاني وهو يسأله في حيرة:
جلجاميش :
ألم تهزني يا صديقي؟ فلماذا استيقظت إذن؟
إنكيدو :
ربما رأيت حلما آخر؟
جلجاميش :
نعم. نعم. رأيت حلما آخر. رأيتنا نقف في منحدر عميق، أسفل جبل أبدو بالقياس إليه أشبه بالذباب الصغير الذي يتزاحم على أعواد القصب،
5
وانهار الجبل فجأة، فصدمني على الأرض وأطبق على قدمي فلم أستطع أن أخلصهما، ثم سطع ضوء قوي لا يحتمل، وظهر لي رجل لم أشاهد أجمل منه في هذه البلاد. شدني من تحت الجبل وثبت قدمي على الأرض،
6
وسقاني ماء فاطمأن قلبي.
إنكيدو (هاتفا) :
ما أطيبه من حلم يا جلجاميش ! ما أروعه من حلم! الجبل الذي رأيته هو خمبابا. سوف نقبض عليه ونقتله يا صديقي. سنلقي بجثته في العراء، وسيتم كل شيء غدا.
7
الراوية :
وفي الغد قطعا عشرين ساعة مضاعفة وتناولا بعض الزاد، ثم توقفا للراحة بعد ثلاثين ساعة أخرى. حفرا بئرا قبل غروب الشمس، وصعد جلجاميش على الجبل. نثر الدقيق على أرض الجبل وقال:
جلجاميش :
أيها الجبل! يا مسكن الآلهة! هبني حلما طيبا، هبني كلمة من شمش!
الراوية :
يبدو من السطور الغامضة التي جاءت بعد هذه الكلمات أن الجبل أهداه حلما، وأن ريحا باردة لفحت وجهه وبللته برذاذها فتكوم كسنابل القمح تحت عاصفة ممطرة. وبينما جلجاميش جالس وذقنه مسندة على ركبتيه، زحف عليه النوم الذي ينسكب على البشر جميعا. ولما انتصف الليل انقطع عنه النوم، فنهض على قدميه وقال لصاحبه:
جلجاميش :
إنكيدو! يا صديقي! ألم تنادني؟ فلماذا استيقظت من النوم؟ ألم تلمسني؟ فلماذا اعتراني الخوف؟ ألم يمر إله من هنا؟ فلماذا ارتجفت أطرافي رعبا؟ لقد رأيت حلما ثالثا يا صديقي، وكان هذا الحلم مخيفا. أرعدت السماء وزلزلت الأرض. احتجب ضوء النهار وحلت الظلمات. التمع البرق واشتعلت النار. تكثفت السحب وأمطرت الموت. ثم خبا بريق النار المتوهجة بغتة، وتحول كل ما تساقط حولنا إلى رماد. تعال نهبط الجبل ونتشاور فيما نفعل.
الراوية :
هنا فتح إنكيدو فمه ليرد على صديقه. ولا بد أنه فسر له الحلم الثالث وإن لم تمكنا الفجوة التي فغرت فاها في هذا الموضع من معرفة ما قاله، والأرجح أنه أثنى على هذا الحلم وتفاءل به؛ إذ قرر الصديقان أن يبدأ في قطع أشجار الأرز بفئوسهما. فلما أن سمع خمبابا الضجيج تملكته ثورة الغضب وصاح: من هذا الذي جاء لينتهك حرمة أشجاري التي ربيتها في جبالي ؟ من الذي قطع أشجار الأرز؟ يبدو أنهما ارتبكا وأصابهما الذعر، فهبط عليهما صوت شمش السماوي وخاطبهما قائلا:
صوت شمش :
تقدما! لا تخافا!
الراوية :
ولولا ثغرة كبيرة من حوالي ثمانين سطرا لعرفنا ما قاله شمس للصديقين عندما التمسا منه العون والمشورة في معركتهما المقبلة مع خمبابا. والظاهر أن إله النور والعدل قد حذرهما من مغبة القتال؛ إذ نقرأ سطرين يقولان إن دموع جلجاميش قد سقطت من عينيه جداول منهمرة، وإنه تضرع لشمش السماوي قائلا:
جلجاميش :
لقد أطعتك دائما يا شمش السماوي، وسرت على الطريق الذي رسمته لي.
الراوية :
غير أن جلجاميش أصابته نوبة إعياء مفاجئة، فأطبق عليه نوم عميق، وتمدد على الأرض فاقد النطق، كأنما غرق في حلم جديد. مد إنكيدو يده ولمسه فلم يتحرك، كلمه فلم يرد عليه.
إنكيدو :
جلجاميش! يا سيد كلاب!
8
هبط الظلام فوق العالم، وانتشرت فوقه الظلال. لقد رحل شمش، ودفن رأسه الساطع في حضن أبيه ملك العالم السفلي. إلى متى تستسلم لهذا الرقاد؟ لا تجعل أمك التي ولدتك تضطر للبكاء عليك في أوروك ذات الأسواق.
9
الراوية :
أفاق جلجاميش من الرعب الذي غشيه حين لسعته كلمات إنكيدو الأخيرة. انتفخ وتدرع ب «صوت الأبطال» الذي يزن ثلاثين شيقلا، وراح يخطر فيه كأنه معطف خفيف، ويوسع ما بين قدميه ويزفر كالثور الذي يضرب الأرض، ويصر بأسنانه فتصطك كأنياب الوحوش.
جلجاميش (زاعقا) :
بحياة أمي نينسون التي ولدتني، بحياة أبي الإلهي لوجال بندا، لأعيشن لأصبح مفخرة لهما ولكل الناس. والطريق الذي سلكت إلى أرض الأحياء لن يرجع أبدا إلى مدينتي حتى نقتل هذا الرجل إذا صح أنه رجل من أبناء البشر، أو هذا الإله إذا كان واحدا من الآلهة.
إنكيدو :
يا صديقي ومليكي، إنك لا تعرف هذا الوحش؛ ولذلك تتكلم عنه بلا خوف. أما أنا فأعرفه؛ ولهذا أرتجف من الخوف. فأسنانه أنياب تنين، وقدماه مخالب نسر، ووجهه وجه أسد، وعلى رأسه قرون أحد من قرون الثور، وذيله ينتهي برأس ثعبان، وتغطيه تروس لا يكسرها السيف، ولا ينفذ فيها الحربة والرمح. إن أنفاسه هدير الطوفان، ونظراته تسحق أشجار الغابة وأقصاب المستنقعات والأهوار، أي صديقي ومليكي.
10
جلجاميش :
بحياة أمي نينسون وأبي ...
إنكيدو :
توغل إن شئت في هذه الأرض.
جلجاميش :
الطريق الذي قطعته إلى أرض الأحياء ...
إنكيدو :
سمعت هذا، لن يرجع للمدينة أبدا.
جلجاميش :
حتى أصرع هذا الرجل إن صح أنه رجل، أو هذا الإله إن كان أحد الآلهة.
إنكيدو :
أما أنا فسأرجع للمدينة يا جلجاميش.
جلجاميش :
ماذا أسمع؟
إنكيدو :
وسأحكى لأمك الحكيمة عن كل أمجادك حتى تصيح فرحا، ثم أروي لها قصة موتك حتى ينفطر قلبها من البكاء عليك، وتندبك في كل الشوارع والأسواق ومن شرفات المعابد والأبراج، وتقدم الأضحيات والقرابين.
جلجاميش (مسترسلا في غضبه) :
لم يحن الوقت لتقديم الأضحيات والقرابين على روحي، لم أفكر في القارب الذي يحملني عبر بحار الموت إلى جزر الخالدين. ولن يطوى بعد الثوب الذي سأكفن فيه ثلاث طيات. لا يا إنكيدو، لن يحزن شعبي علي، ولن توقد المحرقة في بيتي، ولن تخرب قصري وتحيله إلى رماد.
إنكيدو :
إني أعرفك كما أعرف الوحش؛ لذلك حذرتك.
جلجاميش :
كما حذرني العجائز في أوروك فضحكنا عليهم وشبعنا سخرية منهم، ألا تتذكر يا إنكيدو؟ سنمضي معا ونثبت أعيننا في عين الوحش. إن كان فؤادك يرتعش من الخوف فألق الخوف بعيدا عنك. إن كان الرعب بداخلك فقاوم هذا الرعب. خذ فأسك وتقدم! ألم تتعهد أن تحميني وتحمي نفسك؟ من لا ينهي المعركة لا يشعر بالسلام.
إنكيدو :
حاذر يا جلجاميش! ها هو ذا يظهر ويغادر بيته المحصن. ها هو يخرج من بين الأشجار.
جلجاميش :
أين؟ أين؟ ماذا قلت؟
إنكيدو (ساخرا ولكن في عطف) :
تذكر مزاعمك الآن وفي أوروك. تقدم يا جلجاميش! اهجم يا ابن أوروك!
جلجاميش (محاولا أن يستجمع شجاعته) :
أسرع أنت أيضا يا صديقي ورفيقي في الأخطار! هيا نوقعه في الفخ! لا تتركه يهرب للغابة ويختفي عن أعيننا! إنه يضع عليه درعا واحدا من دروعه السبعة. عاجله بالضربة قبل أن يتسلح بكامل عدته!
ها أنا أصرخ يا إنكيدو وأضرب الأرض بقدمي كثور وحشي (يفعل هذا).
إنكيدو :
وهو يصيح ويزأر يا جلجاميش.
جلجاميش :
ويهز رأسه ويهددني. إنكيدو! أين أنت يا إنكيدو؟ إنه يثبت عينه علي، يثبت عين الموت. (يضع يده على عينيه ويبكي بصوت مرتفع):
إلهي شمش! يا شمش الراعي والحامي، أطعتك وتبعت طريقك. إن لم تنجدني الآن، فكيف سأهرب منه؟ كيف سأنجو؟ أنقذني يا شمش الراعي! أوف بوعدك لي ولأمي نينسون!
الشيوخ :
لم يتأخر شمش الراعي عنه.
سمع صلاته.
رق لمطر الدمع الهاطل من عينيه،
ودعا كل عذارى الريح إليه؛
الريح الجبارة،
والزوبعة الدوارة،
والعاصفة الهدارة،
والأعصار وريح الجبل الثلجية،
جاءت من غرب وشمال،
من شرق وجنوب كالتنين،
كألسنة النار الموارة،
كالحية والثعبان تشل القلب،
كالطوفان أو البرق الخاطف كالرعب،
لفحت خمبابا والتفت حوله،
ضربت عينيه وشلت ساقيه وذراعيه،
فتحجر فوق الدرب.
جلجاميش (صائحا) :
بحياة أمي المقدسة وأبي الإلهي! لقد اكتشفت مسكنك في أرض الأحياء، وأتيت إليها ومعي ذراعاي القويتان وأسلحتي الجبارة لأحاربك وأصارعك. ها أنت تقف عاجزا مشلولا أمامي، وسأدخل بيتك وأقطع أشجارك كما أشاء. (يتقدم جلجاميش من خمبابا الذي وقف أمام عرينه كثور وحشي مقيد إلى الجبل، أو محارب مكتوف الذراعين والساقين. يقوم بحركات إيمائية صامتة ومضحكة، يمكن أن تؤدي المؤثرات الضوئية والصوتية دورا كبيرا في إبرازها، فيطعن الهواء بسيفه وفأسه وبلطته، ويستعرض فنون الكر والفر والنزال، بينما يصارع في الحقيقة خوفه من خمبابا الذي لا يزال منظره يبعث على الرهبة وإن كان يقف مشلولا أمامه.)
خمبابا (باكيا شاحب الوجه) :
جلجاميش، دعني أتكلم.
جلجاميش (ضاحكا لصديقه) :
يريد أن يتكلم بدلا من أن يهجم ويصارع! انظر إليه يا إنكيدو وهو يبكي كالجدي الخائف أمام الثور الهائج!
إنكيدو :
يا صديقي ومليكي، لا تأمن له! ابتعد يا جلجاميش! (جلجاميش يجري مذعورا.)
خمبابا :
جانبت الحق يا إنكيدو! اسمعني يا جلجاميش!
جلجاميش :
لا يزال يصر على الكلام، فلنسمعه يا إنكيدو. من طبع المحارب النبيل أن يكون كريما مع عدوه حتى آخر نفس فيه.
خمبابا :
جلجاميش، إني لم أعرف أما ولا أبا يرعاني. لقد ولدت في الجبل ، والجبل هو الذي رباني، وإنليل إله العاصفة هو الذي جعلني حارسا على هذه الغابة. أطلق سراحي يا جلجاميش، وسأصبح عبدا لك وتصبح سيدا. كل أشجاري التي رعيتها في هذا الجبل ستكون ملك يديك. سأقطعها وأبني لك منها قصرا وبيوتا. هذه يدي ممدودة إليك.
إنكيدو :
حاذر يا جلجاميش. لا تلمسها!
خمبابا :
سامحتك الآلهة يا إنكيدو! هذه يدي يا جلجاميش، ضع يدك فيها وتعال إلى بيتي. أقسم لك بحياة الآلهة، وبالأرض، وبالعالم السفلي.
جلجاميش (وقد رق له قلبه) :
إنكيدو! يا صديقي!
إنكيدو :
قلت حذار يا جلجاميش!
جلجاميش :
ألا يصح للطائر الذي وقع في الفخ أن يرجع إلى عشه؟ ألا يحق للأسير أن يعود إلى ذراعي أمه؟
إنكيدو :
لا تستمع لكلمة مما قاله خمبابا. لا تتركه يعيش. إذا رجع الطائر الحبيس إلى عشه، وإذا عاد الأسير إلى ذراعي أمه، فلن ترجع أبدا إلى المدينة التي تنتظرك فيها أمك.
جلجاميش :
ألا يرق قلبك؟
إنكيدو :
ويخاف عليك أيضا. أنا مسئول عنك أمام شعب أوروك وأمام أمك التي ولدتك. اضربه يا جلجاميش!
خمبابا :
تكلمت بالشر يا إنكيدو. أيها الأجير الذي أذله رغيف خبزه! إنك تحسدني وتخاف أن أكون منافسا لك.
إنكيدو :
لا تصغ له يا جلجاميش. خمبابا لا بد أن يموت. وإذا لم يحكم القوي بالعدل كان أول الضحايا. اقتل خمبابا يسهل عليك بعد ذلك أن تقتل أبناءه. أوقع الطائر في الفخ، ولن يستطيع صغاره أن يفلتوا منك. هيا يا جلجاميش! خذ فأسك في يدك! جرد سيفك من غمده الذهبي! اضرب ضربتك الأولى في عنقه، وسأعاجله بالضربة الثانية!
الراوية :
وسقط خمبابا مع الضربة الثالثة. اهتزت أشجار الغابة على مدى ساعتين مضاعفتين عندما وقع الحارس الذي اعتادت جبال هيرمون ولبنان أن ترتجف من صوته، وزلزلت الجبال والتلال لأن حارس الغابة قد قتل. هجم البطلان على أشجار الأرز، وأطفآ أنوار خمبابا السبعة المتألقة، واقتحما المساكن المقدسة لآلهة الآنوناكي العلويين بعد أن اجتثا الأشجار التي كانت تخفيها. وأخذ جلجاميش يقطع الأشجار، وإنكيدو ينظف الجذور ويهتف به: اضرب أشجار الأرز ! اصرب أشجار الأرز! ثم حملا جثة خمبابا ووضعاها أمام الآلهة. قبلا الأرض، وفتحا الكفن فسقط منه الرأس، وعندما أبصر إنليل رأس حارسه غضب وثار وصاح قائلا: لم فعلتما هذا؟ لتكن النار منذ اليوم على وجوهكما! لتأكل الخبز الذي تأكلان، ولتشرب حيث تشربان !
الشيوخ :
صدق جلجاميش نفسه،
وتحدى رب العاصفة الشرسة،
وسيدخل أوروك دخول الفاتح
خلد اسمه،
ويغني الشعب لمن حقق حلمه.
قتل المارد خمبابا
ومحا الشر،
وأعلى راية أوروك بين المدن،
ومجد قومه.
سار الموكب في أوروك
وحياه الشعب،
فزاد غرور البطل إلى حد التخمة.
أسكره المجد فأنساه أوروك، وأوشك أن ينسى أمه.
وتضخم بطل الأبطال
فلم يذكر شمش ولا إنكيدو بكلمة.
هل تعجب والحال كذلك
أن يرفض أعظم نعمة؟
الراوية :
كيف أصدق أن يرفض وردة حب من عشتار؟
هل غاب عن البطل الجامح
أن الجالسة على عرش الحب
إلهة حرب ودمار؟ (تطفأ الأضواء. إظلام.)
الفصل الخامس
لعنة عشتار على أوروك وقتل الثور
(في أوروك، جلجاميش يتمشى مزهوا أمام قصره، فتلمحه عشتار العظيمة من فوق مرتفع تجلس عليه.)
الراوية :
اغتسل البطل من الوسخ العالق به، لمع أسلحته، أسدل جدائل شعره المسترسل على ظهره، نضى عنه ثيابه المتسخة وارتدى ثيابا نظيفة، وتلفع بمعطفه ولف حزامه حول خصره، ولما وضع تاجه على رأسه، رفعت عشتار الملكية عينيها إليه وتملت جماله قائلة:
عشتار :
جلجاميش! جلجاميش!
جلجاميش :
من يناديني؟ من ينادي أسد أوروك؟
عشتار :
تعال يا جلجاميش! تعال وكن عريسي! اهدني ثمارك! أهدنيها يا جلجاميش! كن زوجي وأنا زوجك! سآمر لك بعربة من ذهب ولازورد، عجلاتها ذهبية وقرونها من ذهب أبيض،
1
تشد عليها العواصف والبغال العظيمة. ادخل بيتنا الفواح بشذى الأرز، يقبل الكهنة المبجلون قدميك فوق العتبة، ويركع أمامك الملوك والأعيان والأمراء، ويقدمون لك غلة الجبل والسهل. ستضع عنزاتك ثلاثة توائم، وستلد نعاجك مثنى، ويلحق حمار أثقالك بالبغال. لن ينافس حصانك المشدود إلى العربة حصان، ولن يكون لثورك تحت النير نظير.
الراوية :
فتح جلجاميش فمه وقال لعشتار الملكية:
جلجاميش :
وماذا أعطيك لو أخذتك؟
2
هل تحتاجين دهانا لجسدك، أم تحتاجين ثيابا؟ أترى ينقصك الخبز أم الطعام؟ بالطبع لدي طعام يليق بالآلهة، وعندي من الشراب ما يليق بالملوك، لكن ...
عشتار :
لكن ماذا؟ ماذا بقي لديك؟
جلجاميش :
لكن ما الداعي؟ إن مكانك في الشارع، يكفيك ثوب ترتدينه، فيأخذك من يشتهيك.
3
عشتار :
إلى هذا الحد تهين عشتار؟ تكلم. ماذا عندك أيضا؟
جلجاميش :
موقد أنت، لا (يدفئ)
الحديد
4
باب لا يحمي من نفس أو ريح، قصر
5
يسحق بطله، فيل ينفض غطاءه، قار
6
يلوث حامله، قربة ماء تبلل صاحبها، حجر جيري يفجر السور الحجري، يشب يجذب
7
بلاد الأعداء، صندل
8
يضايق لابسه.
عشتار :
كل هذه الإهانات يا جلجاميش؟
جلجاميش :
أي عشيق أخلصت له الحب؟ أي طائر من طيورك استطاع أن يحلق في الهواء؟ أتحبين أن أسمى أعز عشاقك؟
عشتار (لنفسها) :
إلهي وأبي آنو! من أدراه بهذا كله؟
جلجاميش (مندفعا) :
تموز، عشيق صباك، قضيت عليه بالبكاء عاما بعد عام.
9
أحببت طائر الشقراق الملون ثم ضربته وكسرت جناحه، وها هو الآن ينادي في الغابات: كابي! كابي! جناحي! جناحي! لما أحببت الأسد المكتمل القوة حفرت له من الحفر سبعا وسبعا. وعندما عشقت الحصان قدرت عليه السوط والمهماز، وحكمت عليه بأن يجري سبع ساعات مضاعفة، وأن يشرب من الماء العكر، وجعلت النواح من نصيب أمه سيليلى! أحببت راعي القطيع الذي ما انفك يعد لك الكعك على نار الفحم ويذبح لك جديا كل يوم، لكنك ضربته ومسخته ذئبا، وها هم صبيته من الرعاة يلاحقونه، وكلابه تعض ساقيه. وعشقت إيشولانو بستاني نخل أبيك، الذي أراح يجلب لك السلال المملوءة بالبلح ويزين مائدتك كل يوم، رميته بلحظك وسعيت إليه قائلة: أي إيشولانو، دعنا نستمتع بفحولتك! مد يدك والمس جسدنا! لكن إيشولانو رد عليك بقوله: ماذا تريدين مني؟ ألم تخبز لي أمي؟ ألم آكل طعامي حتى آكل خبزي الآن ممزوجا بالشتائم واللعنات، وأتغطى بالعشب الجاف لأتقي البرد؟ وعندما سمعت منه هذا القول ضربته وحولته إلى مخلوق تعس.
10
لو أحببتني، ألن يكون حظي منك كحظ هؤلاء؟ (تتفجر عشتار غيظا، ثم تضع يدها على فمها وتنصرف باكية.)
الراوية :
لم تكد عشتار تسمع هذا الكلام حتى صعدت غاضبة إلى السماء. مضت إلى أبيها آنو إله السماء وكبير مجمع الآلهة، وانهمرت دموعها أمامه وأمام أمها الآلهة آنتوم.
11
آنو :
ابنتي عشتار؟ باكية وغاضبة كعهدي بك.
عشتار :
لم أبك أبدا يا أبي كما بكيت اليوم. لم يشتعل غضبي كما يشتعل الآن.
آنتوم :
ماذا بك يا ابنتي؟ ابكي إن كان هذا يريحك.
عشتار :
لا يا أمي، لن يريحني إلا الانتقام.
آنتوم :
اهدئي يا ابنتي. تكلمي.
عشتار :
لن يهدئني الكلام ولا البكاء. لا بد من الثأر لكرامتي!
آنو :
كرامتك؟ هل أسمع هذا من إلهة الحب والحرب؟
عشتار :
أما الحب فبسببه أهانني، وأما الحرب فلم يبق سواها.
آنو :
ومن هذا الذي جرؤ على إهانتك؟
عشتار :
من غيره يا أبي؟ جلجاميش هو الذي أهانني، هو الذي رماني بشتائمه، هو الذي صب علي لعناته!
آنو (مبتسما) :
لا بد أنك أثرت ملك أوروك! لذلك صب عليك شتائمه ولعناته.
آنتوم :
ولذلك تريدين الانتقام من رفضه لك.
عشتار :
يرفضني أنا يا أمي! أنا ربة الخصب والحب!
آنتوم (في حنان) :
وربة الحرب أيضا يا حبيبتي. من ينسى هذا؟
آنو :
أجل! والحرب! كم أخشى عليه منك يا عشتار!
عشتار :
لتكن خشيتك على أوروك! على الأرض والبشر، والزرع والحقل والنخل، على ...
آنتوم :
اهدئي يا ابنتي!
آنو :
ألم تبدئيه أنت؟ اعترفي يا عشتار!
عشتار :
أعترف؟ نعم. نعم. لقد أحببته يا أبي. لم أقو على مقاومة جماله فعرضت عليه حبي.
آنو :
وعرضت عليه مع الحب الحرب. أليس كذلك؟
عشتار :
بل هو الذي راح يعدد عشاقي.
آنو :
خوفا من أن يصبح واحدا منهم. عليك أن تعذريه يا ابنتي.
عشتار :
أعذره؟ بل أنتقم منه يا أبي، أسحقه وأسحق شعبه. إلي يا أبي بالثور السماوي.
آنو :
الثور السماوي؟ هل تدرين ماذا تطلبين؟
عشتار :
أجل. وأعددت لكل شيء عدته.
آنو :
وتنتظرين أن أسلمك مقوده؟ هل قدرت نتائج فعلك؟ هل فكرت فيما يمكن أن يصنعه بالأرض والناس؟
عشتار :
نعم يا أبي. فكرت وقدرت ، ولن أبرح مكاني حتى تسلمه لي.
آنو :
أسلمه لك؟ هل تعين ما تقولين؟
عشتار :
إن لم تفعل يا أبي فسوف أحطم أبواب العالم السفلي، وأقوض أعمدته، وأترك بواباته مفتوحة على مصاريعها. سأجعل الموتى ينهضون ويلتهمون الأحياء،
12
حتى يربو عدد الموتى على عدد الأحياء.
آنو :
اسمعي يا ابنتي. لو فعلت ما تطلبين مني لعم الجفاف سبع سنين. هل جمعت من القمح ما يكفي الناس، وزرعت من العشب ما يكفي الماشية؟
آنتوم :
أجيبي يا عشتار على أسئلة أبيك، فلن يرضيني أو يرضيه ...
آنو (مقاطعا) :
ولن يرضيك أن تهلك الحياة على يد ربة الحب والخصب.
عشتار (في هدوء وتصميم) :
أبي! أمي! لقد كدست القمح الذي يكفي الناس، وجمعت العشب الذي يكفي الماشية. ادخرت القمح للبشر، وزرعت العلف للماشية؛ لكي يشبعوا في السنوات السبع العجاف.
الراوية :
تتبع هذا خمسة أو ستة أسطر مشوهة، يبدو منها ومما يليها أن «آنو» قد رضخ لإرادة ابنته وسلمها مقود الثور السماوي. سحبته عشتار وهبطت به إلى الأرض، ساقته إلى حمى أوروك.
أحد الشيوخ :
آه! كم تؤلمني تلك الذكرى!
هبط الثور إلى أوروك ومعه الذعر.
خار لأول مرة،
مائة رجل سقطوا،
مائتان، ثلاث.
خار لثاني مرة،
فتهاوى مائة،
مائتان، ثلاث.
وانقض على إنكيدو في ثالث مرة.
أوشك أن يدهمه،
أن يلطمه،
فتفاداه ابن البرية،
وثب عليه وأمسكه من قرنيه.
أرغى الثور وأزبد.
قذف كمثل الشلال رغاءه.
قذف الروث بذيله.
إنكيدو صاح بجلجاميش:
كم يا صاحبي تباهينا وتفاخرنا!
هيا الآن نوزع دورينا.
أما أنا فسأمسك ذيله،
لن يفلت مني.
اطعن أنت بسيفك واغرس نصله
بين الرقبة والقرنين.
الراوية :
شدد إنكيدو قبضته على ذيل الثور السماوي. أما جلجاميش فأصابه إصابة القوي الواثق مثل جزار خبير،
13
فطعنه بسيفه بين العنق والقرنين. ولما قتلا ثور السماء انتزعا قلبه ووضعاه أمام شمش، ثم تراجعا وركعا في خشوع. وعندما نهضا من صلاتهما شعر إنكيدو بألم حاد في فخذيه وجنبه. مد يديه ليتحسس موضع الألم وكأنه يقتلع نصلا غرس في لحمه، وتأمل يده فوجدها مبللة بالدم . كتم الآهة حتى لا تخرج من شفتيه، ومسح يده خفية في طرف ردائه. أما جلجاميش فانطلق ينادي على أصحاب الحرف وصناع السلاح ليعرض عليهم قرني الثور السماوي. بينما تردد في الفضاء صوت يلعن أوروك. (سور أوروك. عشتار تعتلي السور أشبه بنمرة متوحشة وهي تزعق وتصيح كسرب من الطيور السوداء الجارحة. جثة الثور ملقاة على أرض الساحة بعد أن فصل رأسه عن جسده.)
عشتار (وهي تصب لعناتها من فوق السور) :
اللعنة يا أوروك!
اللعنة يا أوروك!
ملعون من يشرب ماءك أو يأكل زادك،
من يقرب غرسك وحصادك،
من تلمس قدماه ترابك،
أو تذروا كفاه رمادك.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعون من ولد ويولد في أوروك،
من يدخلها أو يخرج منها،
من يحميها ويدافع عنها،
من يرفع حجرا أو يشعل نارا في موقد،
من يعشق فيها امرأة،
أو يطرق بابا،
أو يتبتل في معبد.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعون من يطأ الأرض ومن يتمدد في ظلمات القبر،
من يسكن كوخ القصب ومن يتنعم في غرفات القصر.
ملعون! ملعون! ملعون!
ملعون من قتل الثور!
ملعون من قتل الثور! (تبكي في حرقة وتردد بعض السطور السابقة.)
إنكيدو :
ويلك يا عشتار، ما هذا الذي تفعلين؟
عشتار :
ألعنك وألعن جلجاميش الذي أهانني وشهر بي وقتل الثور؟! (ينتزع فخذ الثور السماوي ويقذفها في وجهها.)
إنكيدو :
لو استطعت الإمساك بك، لنالك أنت أيضا مثل ما ناله، ولربطت أحشاءه حول ذراعك.
الراوية :
ازداد الألم على إنكيدو، صرخت عشتار.
عشتار :
ويلك يا إنكيدو!
ويلك يا جلجاميش!
الراوية :
أدركت اللعنة إنكيدو فانثنى على جرحه واستند على حجر يتأوه. بينما أخذ جلجاميش يقلب يديه وعينيه في قرني الثور، ويتيه إعجابا بهما أمام جموع الصناع والحدادين.
جلجاميش :
انظروا يا صناع السلاح! تأملوا يا أصحاب الحرف! هل رأى أحد منكم مثل هذه القرون؟ هل شهدها يوما على رأس ثور أرضي؟ هذا الحجم وهذا الوزن! إن وزن الواحد منهما ثلاثون رطلا من اللازورد، وسمك قشرته عشر أقدام، وسعته ستة جورات من الزيت،
14
سأقدمها هبة لإلهي الحامي لوجال بندا. هيا أيها الصناع وأنتم أيها الخدم! تعالوا واحملوها إلى قصري، قولوا لنسائي وعبيدي سيدنا يأمركم أن تعلقوها في مخدعه. هيا! هيا! ما هذا؟ ما هذه الغربان الناعقة؟ أين إنكيدو؟ تعال يا صديقي. ماذا تفعل عندك؟ أف لهذه الأصوات المزعجة. تعال! تعال ! (يتجه إلى إنكيدو، بينما يتردد بكاء عشتار مع حشد من البنات المنذورات وبغايا المعبد اللائي التففن حولها ورحن يندبن الثور السماوي، وهن يطفن حوله ويرقصن رقصات حزينة، ويرددن مع عشتار):
عشتار :
اندبن يا بنات،
ثورا من السماء،
أرسله آنو،
ليفتدي عشتار،
وينشر الدمار،
والموت والوباء. •••
شواطئ الفرات،
تبكيك يا ثوري.
يا ويلتي قد مات،
ولم يمت ثأري.
فليهدم السور،
وينطفئ النور،
وتقفر الدور،
من بسمة الحب،
ونعمة الخصب. •••
كانت له عيون،
كأنجم السماء.
كانت له قرون،
أبهى من الضياء.
انطفأت عيونه.
تحطمت قرونه.
وجسمه أشلاء.
رمته في العراء،
مدينة ملعونة. •••
يحكمها جبار،
لا يعرف الحبا.
شاء لها الدمار،
والعقم والجدبا. •••
سيزحف الجراد،
ويأكل الحصاد،
وينشر السواد،
أجنحة الحداد،
على ربا النهر،
والكوخ والقصر.
والقحط والجفاف،
يحاصر المدينة.
سنينها العجاف،
تشهدها اللعينة،
على مدى الدهر،
تصير كالقبر،
في الصمت والقهر.
جلجاميش (ضاحكا وهو يقبل على صديقه) :
أين أنت يا صديقي؟ لماذا لم أرك مع أصحاب الحرف وصناع السلاح؟ ليتك أبصرت الذهول في عيونهم! ليتك شاهدت الإعجاب بجلجاميش! ماذا بك؟ ولماذا تجلس وحدك على هذا الحجر؟ تسمع عشتار وعاهراتها؟ (يضحك)
هل أوحشك نعيق البوم والغربان؟ تعال! تعال! ماذا أسمع؟ هل تتأوه معهن في يوم نحتفل فيه بالنصر؟ بعد قليل يطوف موكبنا بالشوارع والأسواق. تنطلق الحناجر بالهتاف والغناء. هيا نمض إلى شواطئ الفرات. هنالك نغتسل ونمسح عن أجسامنا تراب المعركة، وتغسل أذنيك كذلك من نواح عشتار والعاهرات! هيا هيا هيا! (على شاطئ الفرات. البطلان يغسلان أيديهما من دماء الثور السماوي. إنكيدو يتحسس جرحه في صمت، بينما يتأمل جلجاميش صورته في الماء.)
جلجاميش (فيما يشبه الغناء) :
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
هو الذي مضى
يواجه الخطر.
إنكيدو (يغسل يديه ويتأوه) :
آه !
جلجاميش (مواصلا الغناء) :
البطل الوسيم،
والملك الحكيم.
راعي أوروك الملك الحق على العرش.
الثور الناطح والأسد الجامح كالوحش.
هيا يا صديقي! تأمل صورتك وغن مثلي! (لا يرد عليه إنكيدو).
أو ابك إذا شئت الثور المقتول ونح مع عشتار.
إنكيدو، إنكيدو، هل تسمعني ؟ (يطلق حنجرته بالغناء).
ثلثاه إله والثلث الباقي بشري فان.
نقش الآلهة على لوح القدر
الاسم الخالد،
حتى امتلأ فهاتوا اللوح الثاني.
جلجاميش المجيد،
يسجل الأثر،
في اللوح والحجر.
هذا هو الخلود.
هذا هو الخلود.
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
صوت (من بعيد كالهمس) :
هو الذي طغى.
هو الذي قهر،
الأرض والبشر،
والطير والشجر.
جلجاميش (صائحا) :
أنا الذي طغى؟
أنا الذي قهر؟ (ثم محتجا)
الملك العادل!
الملك الكامل!
الصوت (يزداد وضوحا) :
أنت الذي طغى.
أنت الذي قهر.
جبار ظالم!
طاغية آثم!
جلجاميش :
ما هذا؟ من أنت؟ اظهر أيها اللعين. أرني وجهك حتى أحرقه غضبا أو أفصله عن جسدك. هل سمعت يا إنكيدو؟ هل سمعت؟ لماذا لا ترد عليه؟
أين أنت يا إنكيدو؟
انتظر أيها الشبح الخائف! بعد قليل ترد عليك أوروك وشعب أوروك! (يبحث عن إنكيدو حتى يجده منكفئا على وجهه.)
جلجاميش :
ما هذا؟ ماذا أرى؟ هل نمت يا صديقي؟ يا رفيق الأخطار والأسفار، هل غلبك النوم فلم تغتسل من غبار المعركة؟
إنكيدو (يتأوه) :
آه!
جلجاميش :
هل تذكر ليلة نمت فأيقظتني؟ رأيت أحلاما وفسرتها لك. جاء دوري الآن. هيا ارو الحلم أفسره لك! (يساعده على الجلوس.)
إنكيدو :
تقول رأيت حلما؟
جلجاميش :
نعم. نعم. والأحلام سعيدة.
إنكيدو :
لا يا جلجاميش! لا!
جلجاميش :
إذن فقد سمعت صوتا؟
إنكيدو :
سمعت صوتا؟ أجل. أجل. ورأيت كذلك ...
جلجاميش :
ماذا سمعت؟ ماذا رأيت؟
إنكيدو (وهو يغالب ألمه) :
سمعتها تخاطبني، كأن صوتها قمر شاحب يطل من بين الأغصان الملتفة في الغابة: حاذر يا إنكيدو! حاذر قرن الثور!
جلجاميش (ضاحكا) :
والثور انتصرنا عليه. أليست أشلاؤه في الساحة؟ ماذا قالت أيضا؟
إنكيدو :
لا تنس أوروك! لا تنس الشعب البائس في أوروك!
جلجاميش :
الشعب البائس ينتظرك بالفرح والغناء . بعد قليل سيمر الموكب في الأسواق والشوارع. انهض يا صاحبي على قدميك، هل تنتصر على الثور وينتصر عليك النوم؟
إنكيدو :
ورأيتها تنظر إلي والدموع في عينيها.
جلجاميش :
من؟ عشتار الملعونة؟
إنكيدو :
لا. لا. الغزالة!
جلجاميش (ضاحكا) :
الغزالة؟ هل رجعت أيضا إلى البرية ؟ ما أعجبه من حلم!
إنكيدو :
اقتربت منها ففرت هاربة، ثم التفتت برأسها من بعيد وهي تبكي: لم دنست يديك؟ لم دنست يديك؟ (تتساقط دمعة على يد جلجاميش.)
جلجاميش :
وتبكي أيضا؟ إنها الأحلام يا إنكيدو، الأحلام.
إنكيدو :
لا يا جلجاميش! الألم فظيع! الألم فظيع!
جلجاميش :
قلت لك أحلام! أحلام! الواقع سيكذبها بعد قليل! (إنكيدو يتنهد ويمسك خاصرته وجنبه. يسيران متشابكي الأيدي بينما يرفع جلجاميش عقيرته بالغناء.)
جلجاميش (يختلط صوته بأصوات تتردد من بعيد) :
هو الذي رأى.
هو الذي انتصر.
أصوات :
أسد أوروك الجبار.
البطل العائد للدار.
الملك العادل،
والراعي الكامل.
حبيبنا الوسيم.
أميرنا الحكيم.
صوت (هامس من بعيد) :
هو الذي طغى.
هو الذي قهر.
جبار ظالم.
طاغية آثم.
صوت آخر (يعلو عليه) :
البطل العظيم،
والملك الحكيم.
الأسد الجبار،
عاد إلى الديار.
والمجد والفخار،
للشعب والمدينة.
الصوت الهامس (من بعيد) :
العار والشنار،
والذل والدمار،
لأمنا الحزينة،
لأمنا الحزينة. (يخرجان متشابكي الأيدي. إظلام.)
الشيوخ :
هدرت أمواج الشعب على الطرقات،
وفي الأسواق وفي الساحات.
وازدانت كل العربات الذهبية
بالأزهار وبالرايات.
وارتفعت دقات الطبل. هتاف الشعب.
فلم نعرف - نحن شيوخ أوروك وعجائزها -
هل كانت أصوات الحب،
ترفرف من أعشاش القلب؟
أم كانت أصوات الرعب،
تدوم كجناحي خفاش أعمى من أعماق الجب؟
راح البطل الظافر يهتف بعذارى المعبد،
بنساء القصر:
من بطل الأبطال؟
من أشجع الرجال؟
فيرد الشعب عليه :
جلجاميش.
جلجاميش.
يا بطل الأبطال!
يا أشجع الرجال!
راحت شمخات تجري خلف الموكب،
وتحاول أن تصل لعربة إنكيدو السائرة مع الركب:
اسمعني يا إنكيدو! لم لا تتكلم؟
آه! أشعر أنك تتألم.
اترك جرحك يفتح شفتيه ويصرخ بلسان الدم.
كذب ما تفعل يا إنكيدو
ما يفعله جلجاميش،
ما تشهده أوروك.
كذب، بهتان، ظلم!
النصر على خمبابا ،
وصراعكما مع هذا الثور،
كذب لم نحصد منه سوى المحنة والعقم،
والقحط العاصف في أوروك كرياح السم.
آه! لا تنس أوروك!
ولا تنس الشعب البائس في أوروك.
أنسيت وعودك عند النبع،
وغضبك في كوخ رعاة الجبل
وتحت عيون الأنجم؟
إن كنت نسيت وعودك
فاترك جرحك يا إنكيدو يتكلم.
دعه يصرخ من هذا الظلم ويتهم المجرم.
لكن الصوت يغيب ويفتر.
تدهمه دقات الطبل،
تدوي كالرعد وتزأر.
تسرع عربات الموكب،
يحدوه هتاف الهاتف،
وغناء العازف،
ودوي الطبل الأجوف.
وعلى البعد تجرجر عربات أخرى
جثث المقتولين،
المائة المائتين الألف.
تدفعها الأم الثكلى،
والشيخ العاجز،
والطفل الراجف من نذر الخوف.
وتحوم في الآفق الذاهل
أجنحة الطير الأسود،
تطلقه عذارى المعبد.
ويغيب الركب ويبتعد الموكب،
وتظل مناحة عشتار
تصب اللعنات على رأس الشعب.
والربة تصرخ من فوق السور،
وتقف هناك كتمثال متعب،
أهمله البشر،
تخلت عنه الآلهة،
فلا أحد يعين،
ولا شيء يواسي القلب.
حط رجال البطل الظافر،
مع صاحبه عند القصر.
قبلت العتبة قدميه،
وباركه الكهنة والأمراء.
نثر الناس عليه الملح،
وباقات الزهر.
وأقيمت مأدبة النصر.
أريقت أنهار الخمر.
أضيئت كل الأنوار.
ورقص البطل مع الأبطال،
وغنوا حتى الفجر.
حتى أمر النوم،
فصدع الملك الظافر للأمر.
سكت الناي مع القيثار،
وأغفت عين الفرح
الساطع كالبدر.
شيعه الخدم لمخدعه.
رفعوا أيديهم،
ودعوا أن تسدل أستار النوم عليه
آلهة الليل «وآيا» سيدة الفجر.
وقف أمام قرون الثور.
سبح بالحمد لشمش،
وتمتم بصلاة الشكر.
امتدت يده تبحث عن يد إنكيدو،
واشتبكت كف مع كف،
وتوهج جمر في طيات الصدر.
ألقى الملك الجسد الهائل فوق الفرش.
تثاءب، أرخى ملك النوم
عليه الستر.
أما إنكيدو فقد أرقه الجرح.
وحين طواه النوم وداعب عينيه الحلم،
أفاق وفي عينيه الذعر.
وصحا إنكيدو.
صاح وولول:
يا جلجاميش! يا جلجاميش!
لم يتشاور جمع الآلهة؟
لماذا يغضب إنليل علي؟
وماذا كتب القدر ودبر؟
زلزل جلجاميش.
لدغته الأفعى.
قال لصاحبه:
اهدأ يا إنكيدو.
ارو الحلم.
تعال نفكر.
آه مما دبر إنليل وقدر!
ها هي كف الخطر تدق الباب،
وفي الأفق تغيم السحب،
ويرمقنا كوكب نحس منذر. (يسكت الشيوخ. إظلام.)
الفصل السادس
الحمى تحرق إنكيدو ودخان الأحلام
الصديقان على الفراش. مع انبلاج ضوء الفجر نرى إنكيدو جالسا على فراشه، يحدق في الفراغ وتنهمر الدموع من عينيه. (جلجاميش يفيق على دمدمته، يتحسس جبهته ويجفف دموعه.)
إنكيدو :
يا صديقي! لماذا عقد الآلهة الكبار مجلسهم للتشاور؟ اسمع ما رأيت الليلة في الحلم!
جلجاميش :
الحلم؟ (يتحسس جبهته)
نعم! نعم! تكلم يا إنكيدو.
إنكيدو :
اجتمع آنو وإنليل وشمش السماوي، رأيتهم وسمعتهم في الحلم يتشاورون. قال آنو لإنليل: (يقلد صوته الضخم) : لأنهما قتلا الثور السماوي وصرعا خمبابا، فلا بد أن يموت أحدهما؛ ذلك الذي جرد الجبال من أشجار الأرز ينبغي أن يموت. رد عليه إنليل بقوله: يجب أن يموت إنكيدو، أما جلجاميش فلا يصح أن يموت!
جلجاميش :
لا تنزعج يا إنكيدو، وبماذا رد عليه شمش؟
إنكيدو :
عارض شمش السماوي إنليل البطل بقوله: ألم يقتلا الثور السماوي وخمبابا بأمري؟ فلماذا يموت إنكيدو وهو بريء؟ انفجر إنليل غضبا في وجه شمش السماوي: ألأنك كنت تنزل إليهما كل يوم وكأنك واحد منهما؟ (يبكي.)
جلجاميش :
لا يا أخي الحبيب! لن تموت. إن دموعي تجري أنهارا مثل دموعك. لم برأني الآلهة الكبار من دونك؟ هل قضي علي أن أجلس عند بوابة أرواح الموتى، أن أفتقد أخي الحبيب فلا تراه عيناي؟
1
إنكيدو (يفتح عينيه على اتساعهما، ويشير في أتون الحمى إلى رجل يتمثله واقفا أمامه) :
انظر! انظر يا جلجاميش!
جلجاميش :
من يا إنكيدو؟
إنكيدو :
إنه هناك! واقف ينتظر.
جلجاميش :
ليس هناك غير الباب يا إنكيدو.
إنكيدو :
ومع ذلك فباب الغابة لا يفهم! باب الغابة لا يعقل! أنت أيها الباب! لقد بحثت عن خشبك البديع على مدى عشرين ساعة مضاعفة، حتى أبصرت شجر الأرز مرتفعا في الأعالي. أعجبني خشبك الذي لا نظير له. كان ارتفاعك اثنتين وسبعين ذراعا، وعرضك أربعا وعشرين. سلمتك لصانع ماهر من «نيبور» فنجرك على هذه الصورة الكاملة. ما أبدع المحور! ما أمتن الحلوق والمفاصل! ما أكمل الترباس! آه لو كنت عرفت حقيقة جمالك يا باب، لو توقعت عواقبه! إذن لرفعت البلطة وحطمتك قطعا، وصنعت منها طوفا، لكني
2
حافظت عليك يا باب. نجرتك وحافظت عليك. آه! إن قدر أن يأتي ملك بعدي فيقيمك،
3
أو يأتي إله فيجمع أطرافك ، فليمحوا اسمي ويضعا اسمهما مكانه.
جلجاميش (وهو يجفف دمعه) :
ويلي! ماذا فعلت بك الحمى يا إنكيدو؟ ماذا جرى لك؟ لقد وهبك الإله القلب الكبير والعقل الراجح، أعطاك القدرة على الكلام المتزن، ومع ذلك فما أغرب ما تقول! ما أعجب أن ينطق قلبك بهذه الأشياء العجيبة! حلمك كان بديعا يا صديقي، لكن ما أفظع الرعب الذي يفيض منه! آه! لقد ترك الآلهة البكاء للأحياء، وترك الحلم الشكوى لمن بقي على قيد الحياة. سأصلي للآلهة الكبار، سأبتهل إليهم من أجلك.
4
إنكيدو (مستمرا في رؤاه المحمومة) :
وأنت أيها الصياد اللعين! أدعوك يا إله الشمس أن تصب عليه لعنتك. أضع من يده كل ما يحصل عليه، أضعف قوته، قبح أفعاله أمام عينيك؛ لتهرب منه الوحوش التي يسعى لصيدها، وليعجز عن بلوغ ما يتمناه قلبه. (يشتعل حماسه ويرتفع صوته)
أما أنت أيتها البغي فتعالي أرسم لك قدرك. ليكن قدرا لا نهاية له إلى أبد الآبدين. سألعنك اللعنة الكبرى، ولتهبط على رأسك الآلهة.
5
لتكن فضلات الطعام في مجارير المدينة هي طعامك، وغسيل الأواني هو شرابك. لتكن الطرقات سكنك، وظلال الجدران مقامك. وليلطم فكك السكران والعطشان.
6
جلجاميش :
إلهي شمش! إلهي وراعي وصديقي! أبتهل إليك؛ أيقظه من نومه! خلصه من حلمه! كلمه من سمائك!
شمش (يتردد صوته المهيب) :
إنكيدو!
جلجاميش :
اسمع يا أخي. استمع لما يقوله إلهك وإلهي شمش.
شمش :
لم يا إنكيدو؟ لم تلعن كاهنة الحب؟ أليست هي التي علمتك أن تأكل طعام الآلهة؟ ألم تسقك الخمر شراب الملوك؟ ألم تكسك أفخر الثياب؟ أليست هي التي قدمت لك جلجاميش الرائع وجعلته رفيقك، وهو الآن أخوك؟ ألم يجعلك تستريح على متكأ فخم؟ بل أجلسك في سلام على مقعد الشرف إلى يساره، حتى قبل أمراء الأرض قدميك ؟ غدا يجعل أهل أوروك يبكونك وينوحون عليك، ويملأ سعداء الناس حزنا على ذكراك. وإذا عاش من بعدك، فسيترك جسده متسخا، وسيضع عليه جلد الأسد ويهيم على وجهه في البراري.
جلجاميش :
سمعت يا إنكيدو؟ هل هدأ غضبك على البغي؟
إنكيدو (وقد سكتت ثورته ) :
كاهنة الحب! نعم! نعم! (يرجع برأسه إلى الوراء ويبتسم)
فليحبك الملوك والأمراء! ليضرب الشاب فخذه إعجابا بك! وليهز العجوز شعر رأسه من أجلك.
7
ولتتلقي العقيق واللازورد والذهب الذي تستحقينه، وكان علينا أن نقدمه لك. ليأخذ الكاهن بيدك ويقدمك للآلهة، ولتهجر بسببك الزوجة ولو كانت أما لسبعة أطفال. يا كاهنة الحب! يا كاهنة الحب! (يسمع طرق خفيف على الباب وصوت خافت ينادي: إنكيدو! إنكيدو! جلجاميش ساهر بجوار صديقه الذي عاودته الحمى وأغمض عينيه؛ ولذلك لا يستجيب للطرق على الباب وربما لا يسمعه. ينسحب الضوء بالتدريج، جلجاميش يذرع المكان جيئة وذهابا، ثم ينتبه على صوت إنكيدو الذي اعتدل في فراشه فجأة وفتح عينيه.)
إنكيدو :
جلجاميش! صديقي!
جلجاميش :
نعم يا إنكيدو. ماذا بك؟
إنكيدو :
دعني أروي عليك الحلم الذي رأيت.
جلجاميش :
حلم آخر؟ تكلم يا إنكيدو!
إنكيدو :
أرعدت السماء صارخة، رددت الأرض صداها، ثم ظهر أمامي رجل معتم كوجه طائر عظيم، ومخالبه كمخالب نسر.
8
غير شكلي كل التغيير، وكسا ذراعي بالريش كأجنحة الطيور، ثم أمسك بي وقادني إلى بيت الظلام مسكن أركالا؛
9
البيت الذي لا يغادره أحد دخله، ساقني على الطريق الذي لا يرجع سالكه أبدا، إلى دار لا يبصر ساكنها نورا؛ فالتراب زاده، والطين طعامه. ثيابه من ريش كأجنحة الطيور، وفي الظلام يقيم ولا تقع عينه على ضوء. في بيت التراب الذي دخلت رأيت العروش محطمة، وتيجان الملوك ملقاة على الأرض، والأمراء الذين حكموا البلاد من قديم الأزمان، نواب آنو وإنليل الذين حملوا التيجان على رءوسهم، كانوا يحملون السمك المشوي والخبز، ويقدمون الماء البارد من القرب. في بيت التراب الذي دخلته، كان هناك كبار الكهنة ومعاونوهم، وكهنة التطهير والتعاويذ المباركون، وكان هنالك إيتانا
10
وسموقان،
11
وأريشكيجال ملكة العالم السفلي، وبعلة صيري كاتبة هذا العالم التي تركع أمامها وفي يدها لوح تقرأ عليها منه. التفتت برأسها إلي وأبصرتني، ثم قالت: من أتى بهذا الرجل إلى هنا؟
12
جلجاميش :
يا لهذه الرؤى المحمومة! ما هذا الحلم المشئوم يا إنكيدو؟!
إنكيدو :
لكنني رأيته يا جلجاميش، ثم صحوت منه كرجل نزف دمه وراح يتجول وحيدا على الأشواك في أرض يباب، كرجل أمسك به صاحب المحكمة وأخذ فؤاده يدق في رعب.
13 (يسمع طرق شديد على الباب. ينتبه جلجاميش الذي كان قد خلع رداءه وأخذ يبكي بكاء مرا. وقبل أن يتجه إلى الباب ليفتحه يميل على جسد إنكيدو الذي استغرق في النوم وهو يتحسسه في جزع، بينما يتعالى صوت الطرق على الباب.)
جلجاميش :
إنكيدو، يا أخي الحبيب! من في أوروك ذات الأسوار القوية يملك ما تملك من الحكمة؟ لكنك فتحت فمك وقلت أشياء غريبة، فلماذا تكلم قلبك بهذا الكلام؟ الحلم الذي رأيت كان عجيبا، لكن الفزع منه أعجب. آه يا صديقي وأخي! إنه يبين أن البؤس يصيب الإنسان في النهاية مهما كان صحيح البدن، وأن خاتمة الحياة هي الحزن والأسى. آه يا إنكيدو، انتظر يا من تطرق الباب! سأصلي الآن للآلهة العظيمة؛ لأن صديقي رأى الحلم المشئوم. (يرفع ذراعيه ويديه للصلاة، ولكن الطرق يشتد فيفتح الباب. تدخل أمه الحكيمة نينسون في لهفة.)
نينسون :
ما هذا يا جلجاميش؟
جلجاميش :
أمي؟
نينسون :
ماذا بك يا ولدي؟
جلجاميش :
هلا سألت ماذا به؟ انظري إليه لتعرفي.
نينسون :
ما هذا الحلم المشئوم الذي سمعتك تتحدث عنه؟
جلجاميش :
هو حلم صديقي المحموم. تطلعي إليه يا أمي. هل هذا هو ابن البرية الذي تبنيته وجعلته أخي ورفيقي؟
نينسون (وهي تقترب من جسد إنكيدو تمد يدها لتتحسسه) :
ماذا أرى؟ تكلم يا بني.
جلجاميش :
ليته كان حلما واحدا! أخشى يا أمي ... أخشى ...
نينسون :
أن يدركه مصير البشر؟ هل هذا ما تخشاه؟
جلجاميش :
لا. لا يا أمي، لا. أتوسل إليك. أقبل يديك وقدميك. وماذا سيكون مصيري بعده؟ هل يدركني نفس المصير؟ لا. لا يا أمي، لا (يصرخ ويبكي معا) .
نينسون :
اهدأ يا ولدي. اهدأ. لا يبكي البطل كالأطفال.
جلجاميش :
حتى الأبطال يبكون يا أمي.
نينسون (لنفسها) :
ليتك عرفت هذا يا بني. ليتك تعرفه الآن.
جلجاميش (مستمرا) :
انظري إليه يا أمي. تذكري كل ما عانيناه على الطريق. صديقي الذي رافقني في كل الصعاب وواجه معي كل الأخطار، جسده يحترق من الحمى، قلبه يرى الأحلام المشئومة وينطق بالكلمات الغريبة. آه يا أخي وصديقي! أمك الغزالة حملت بك، أبوك حمار الوحش أنجبك،
14
أربع حمر وحشية أرضعتك لبنها، وحيوانات الفلاة دلتك على المراعي. لتبك عليك الطرق التي قادتك إلى غابة الأرز فلا تتوقف عن البكاء ليل نهار! ليبك عليك عجائز أوروك الفسيحة، وليبك علينا الشعب كله بعد أن نموت! ليبك عليك كل الرجال وكل الجبال في الفلاة! لتنح عليك الحقول نواح أمك، وليبك عليك الدب والضبع والنمر والأيل والفهد والأسد والثور الوحشي والغزال والجدي، كل وحوش البرية فلتبك عليك! ليذرف عليك الدموع نهر أولا
15
الذي تمشينا على ضفافه! وليبك عليك الفرات المقدس الذي ملأنا القرب من مياهه! ليبكك رجال أوروك الفسيحة ذات المروج والأسواق! آه يا أخي وحبيبي! ستبكي عليك مدينة أريدو
16
وسترفع اسمك! ليبك عليك أولئك الذين طحنوا
17
الشعير ليصلح لفمك، والذين وضعوا الزبد أمامك وصبوا لك الجعة ليبكوا عليك! لتبك الفتاة التي ضمختك بالزيت،
18
والنسوة اللائي قدمن لك خاتما في بيت الزوج ليبكين عليك! والإخوة فليبكوا عليك كما تبكي الأخوات! آه يا إنكيدو! وليقطعوا شعورهم حزنا عليك! ألم تعد تسمعني؟ ما هذا النوم الذي أطبق عليك؟ أبكي عليك يا إنكيدو. أبكي عليك (يبكي) .
نينسون (محاولة أن تكلمه فلا يسمعها لاستغراقه في البكاء على فراش صديقه) :
جلجاميش! ولدي! لا تصنع هذا بنفسك! لا تبك! لكن ما الفائدة. لا بد من الانتظار حتى يفيق إنكيدو أو حتى ... إلهي شمش وإلهه وراعيه. إلهي شمش السماوي وإلهه وراعيه. (يسمع الصوت الخافت مصحوبا بنشيج: إنكيدو. إنكيدو.)
وأنت أيتها المسكينة، انتظري أنت أيضا. هل تتصورين أن تصلي إليه؟ وما الفائدة أيتها البائسة؟ ما الفائدة؟ (تنصرف نينسون وتغلق الباب وراءها. جلجاميش لا يتحرك من مكانه. يتردد الصوت الخافت المختنق: إنكيدو! إنكيدو!)
الراوية :
انتهى اليوم الذي رقد فيه إنكيدو، فرقد يوما ثانيا، والموت يضطجع على فراشه، ورقد يوما ثالثا ورابعا، ويوما خامسا وسادسا وسابعا، ويوما ثامنا وتاسعا وعاشرا، ازدادت حالة إنكيدو سوءا على سوء، واليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر رقد إنكيدو على فراش الموت. عندئذ نادى جلجاميش وقال له:
إنكيدو :
لعنتني يا صديقي لعنة شريرة.
19
لن أموت كمن يسقط في ساحة القتال. كانت المعارك تخيفني. ها أنا ذا أموت بلا مجد ولا فخار. يا صديقي، محظوظ من يسقط في المعركة، وأنا قضي علي أن أحتمل العار وأنا ألفظ أنفاسي.
20
الراوية :
هزه جلجاميش فلم يتحرك. ناداه فلم يجب. هتف يائسا:
جلجاميش :
ما هذا النوم الذي أطبق عليك حتى التف الظلام حولك ولم تعد تسمعني؟ إنكيدو! إنكيدو!
الراوية (وهو يتابع حركات جلجاميش وإشاراته) :
لكن إنكيدو لم يفتح عينيه. مد يده وتحسس قلبه، لم يعد القلب يدق. عندئذ غطى وجه الصديق كما يغطى وجه العروس، وأخذ يثب حوله كما يثب النسر، أشبه بلبؤة سلبت أشبالها راح يذرع المكان إلى الأمام والخلف، ينتزع شعر رأسه بيديه ويلقيه على الأرض، يمزق ثيابه الجميلة ويرمي بها كأنها أشياء مدنسة لا تلمس،
21
ثم رفع صوته بصرخة كزئير الأسد، وقفز إلى شرفة قصره وهو ينادي:
جلجاميش :
اسمعوني يا شيوخ أوروك، اسمعوني! إني أبكي إنكيدو، أبكي صاحبي وصديقي بكاء مرا كالندابة. أنت أيتها الفأس بجنبي، مأمونة القبضة في يدي. أيها السيف في حزامي، والدرع أمامي. يا حلة عيدي، يا فرحي الأوحد.
22
أخذك مني شيطان شرير، صديقي أنت أيها الحمار الوحشي الخفيف، يا فهد البرية! لقد ذللنا الصعاب سويا، وارتقينا الجبل، احتللنا المدينة، وصرعنا الثور السماوي، وقتلنا خمبابا ساكن غابات الأرز. أي نوم هذا الذي أطبق عليك؟ أي ظلام غيبك فلم تعد تسمعني؟ أيها الصناع والحدادون والصاغة والنحاسون والنحاتون، نادوا عليهم جميعا. أطلقوا المنادين عليهم في طول البلاد وعرضها. أنت أيها الحداد وصائغ الذهب والأحجار الكريمة والنحات ، صوروا صديقي، اصنعوا له تمثالا، أبدعوا صورته وتمثاله، ليكن صدره من لازورد، وجسمه من ذهب. لا. لا. ابتعدوا عنه، لا تقربوه أيها اللحادون! سبعة أيام وسبع ليال سأبكيه. سأظل أنوح عليه وأصرخ حتى تتردد فيه الأنفاس. ابتعدوا! لا تقربوه! لا تقربوه!
23 (يغلبه النوم فيغمض عينيه وهو منحن على فراش صديقه. وعند بزوغ الفجر يصحو من نومه ويرى دودة تسقط من فم إنكيدو، فيقول صوته المبلل بالدموع) :
انبلج ضياء الفجر، تعال أيها الشعاع الأول أحدثك. تعالي أيتها الروح الغائبة تعالي. اسمع قولي يا صديقي؛ لقد جعلتك تستريح على متكأ ملكي. أجلستك مجلس الشرف والسلام إلى يساري. أمراء الأرض قبلوا قدميك. آه يا صديقي! سأجعل شعب أوروك يندبك ويبكيك، وسأملأ أفئدة السعداء أسفا عليك. وعندما يذهبون إلى الأرض، سأطلق شعري من أجلك، وأهيم على وجهي في البرية، وعلى جسدي الذي تغطيه الأوساخ سألبس جلد أسد. أيها اللحادون تعالوا، احملوا صديقي إلى التراب فلقد سقطت الدودة من أنفه، وأمسك به قضاة الآنوناكي.
24
الراوية :
ولم يكد شمش العادل يطلق سهام أشعته النارية من قوسه القوية حتى أمر بالنداء على الصناع والصاغة والحدادين والنحاسين والنحاتين بأن يسرعوا بإقامة تمثال صديقه في أوروك المنيع، ثم أمر بإعداد مائدة عظيمة من خشب الإيلاماكو،
25
ووضع عليها وعاء من العقيق مملوءا بالعسل، ووعاء آخر من اللازورد مملوءا بالزبد. وبعد أداء الطقوس انفرد جلجاميش بنفسه وواصل بكاءه على صديقه، ثم صرح صرخة أسد جريح، وانطلق إلى البرية كالصياد التائه وهو يهتف:
جلجاميش :
دخل اليأس فؤادي.
آه! أين سألتمس الراحة؟
أين سأجد سلام القلب؟
ما صار إليه صديقي
أيكون مصيري؟ آه يا للرعب!
إني أخشى الموت
وأخشى الموت!
هل يدركني حظ البشر كما أدرك إنكيدو الطيب؟
لا. لا. لا.
ضاق الصدر بأوروك وضاقت بي،
وسأمضي الآن إلى البرية أبحث عن جدي الخالد،
وسأسأله عن معنى العيش ومعنى الموت.
الشيوخ (بهدوء وحزن شديدين) :
آه كنا نحن هناك وراقبنا يأسه،
وشهدنا كيف بكي صاحبه
وبكى نفسه،
كالندابة ظل ينوح،
ولم يتوقف ليل نهار ،
وانقض عليه الخوف
كما ينقض على الصيد العاجز
26
طير العصف أو الإعصار.
27
ندت عنه الصرخة كزئير الأسد،
ومزق شعره،
شج على الحائط رأسه.
آه يا جلجاميش!
هذا الدمع الساخن
يتفجر من ينبوع الحب.
وطيور الحزن على إنكيدو
أكلت من حبات القلب.
يتردد في ردهات القصر نواحك.
لا. لا يمكن أن يحدث لي
ما حدث لإنكيدو،
ومحال أن يتساوى البشر مع الرب.
إنكيدو مات وقدر البشرية مسه.
هل يجد البائس في خاتمة الرحلة إلا بؤسه؟
آه جلجاميش خاف الموت،
فهل خاف على صاحبه الطيب،
أم كان الخوف لأن الموت سيتلف نفسه؟
وغدا يخرج جلجاميش من سجن أوروك الضيق،
يلبس جلد الأسد، يفتش عن أوتنابشتيم الخالد،
وسط الأهوال، وفي الظلمات، وفوق الجبل، وفي البرية.
هل يتوقف كي يسأل مرة:
بم خلد هذا الخالد اسمه؟
فلننظر ماذا يفعل، فيم يفكر، وإلام تئول الفكرة.
هل يحفر قصة رحلته فوق الحجر
وينقش رسمه،
كي يأسو الجرح الغائر
ويداوي يأسه؟
أم يرجع لأوروك مكسور الخاطر
كي يحفر رسمه؟ (يسمع طرق على الباب، يشيح جلجاميش برأسه ويديه في غضب وينطلق خارجا من باب آخر. يرى جسد إنكيدو ممددا على الفراش. تدخل نينسون ووراءها شمخات.)
نينسون :
جلجاميش! أين أنت يا جلجاميش!
ترى أين ذهب؟ ادخلي يا ابنتي. تقولين إن الجنود منعوك؟ عشرة أيام وأنت تنتظرين وتبكين؟
ها هو ذا إنكيدو. أدركه حظ البشر المحتوم. ليتك تعرف يا جلجاميش! ليتك تعرف!
آه يا ولدي المضطرب القلب!
آه يا ولدي المضطرب القلب! (وبينما تواصل نينسون كلامها وبحثها عن جلجاميش تلقي شمخات بنفسها على جسد إنكيدو وهي تبكي صارخة):
شمخات :
إنكيدو! آه يا حبيبي!
كم حذرتك! كم حذرتك! (ومع نشيج شمخات يسدل الظلام والستار.) (فاصل)
الراوية :
بكى جلجاميش صديقه وأخاه بكاء مرا، انطلق إلى البرية وجاب المراعي والسهول كالصياد التائه. قال لنفسه:
جلجاميش :
كيف سأجد الراحة أو ألقى ظل الأمن؟
نفذ إلى قلبي الحزن.
وصديقي صار ترابا.
إذا مت سأصبح مثله؟
آه! داهمني الخوف من الموت.
ها أنا ذا أسرع كي ألقى جدي،
أوتنابشتيم الخالد،
ابن «أوبارا-توتو»،
أوتنابشتيم النائي
في «ديلمون» أرض الخلد.
آه! كيف سأجد الراحة أو ألقى ظل الأمن؟
نفذ إلى قلبي الحزن (يبكي).
الشيوخ :
ابك صديقا لم تعرف قدره،
لم ترحم دمعته الصامتة المرة.
ابك صديقا ضيع يا جلجاميش عمره؛
كي تبقي أنت وتحلم بالمجد الرائع والشهرة.
أبدا لم تنظر في قسمات الوجه الناطق بنقاء الفطرة،
إلا كي تبصر نفسك فوق دروب المجد الخطرة.
ابك صديقا لم تعرف قدره.
ابك صديقا ضيع عمره.
جلجاميش :
ولهذا تنهمر عليه دموعي المرة.
أتشرد في البرية.
ألبس جلد الأسد
وأدمي الجسد المتعب
فوق صخور الجبل الوعرة.
الشيوخ :
لماذا تفعل هذا؟ وعلام نويت؟
جلجاميش :
هذا سري! لن أفشي السر!
الشيوخ :
والسر هو الموت.
أليس كذلك؟
هل تبغي أن تنتقم من الموت؟
ليس الموت على صورة أسد أو ثور.
لن تجد الموت بأي مكان؛
فهو دفين في نبض القلب وطيات الصدر،
في جوف البذرة والثمرة وعروق الجذر،
في الكلمة والصمت.
جلجاميش :
بالحق نطقتم يا حكماء أوروك.
أنى قلبت الطرف وجدت الموت
يربض في فرشي
يسكن عيني
يلازم خطوي أنى رحت وأنى جئت.
أبغي أن أعرف سر حياتي،
معنى العيش ومعنى الموت،
في زمن محدود قاسي،
ومكان يخنق أنفاسي،
بين وجوه تنضح بالسأم القاتل والمقت.
آه! إني أخشى الموت،
ولا أحتمل الموت.
الشيوخ :
وموت الناس طوال الوقت؟
جثث القتلى في أوروك
وجثث الغرقى فوق النهر؟
والموت الصارخ في وجه الثكلى
والأرملة
وذل يتيم عذبه الغدر،
وأضناه الدهر.
هل طاف ببالك هذا الموت؟
جلجاميش :
ولهذا أترك بلدي.
الشيوخ :
تترك أوروك؟
جلجاميش :
وحيدا أخرج منها
كي أجد السر،
وأقهر هذا القهر.
الشيوخ :
ليتك يا جلجاميش
تقهر قهرك أنت!
ليتك تستيقظ
وتطارد شبح الوهم!
جلجاميش (صارخا) :
بل أبعد عنكم شبح الموت.
هل هذا وهم؟
هل هذا وهم؟
الشيوخ :
وقطيعك تتركه في فك الذئب؛
لتذروه رياح المحنة والفتنة والرعب؟
ليتك تنظر تحت القدمين؛
لتعرف وجه الواقع
من وجه الحلم!
ليتك تبحث في قلب الشعب عن السر،
وتلمس دفء الدم.
وهم يا جلجاميش وهم.
ابق مع الأحياء-الموتى في أوروك،
وطارد معنا الشبح الجاثم فوق الصدر،
وفي عين الأب والأم.
انظر تحت القدمين وفي قلب الشعب،
وابحث عن سرك في أوروك،
ولا تتركها لليتم.
جلجاميش :
تحت القدمين وفي قلب الشعب؟
سري ضاقت أوروك عنه
ولن يعطيني الموتى إلا الموت.
سري ...
الشيوخ :
سرك ... سرك ...
جلجاميش :
هذا شأني.
لن أفشي سر القلب.
الشيوخ (يائسين) :
وهم يا جلجاميش وهم.
تطلب تحقيق الحلم،
ولن تجد سوى الوهم.
جلجاميش :
حتى لو كان محالا ما أطلب،
لن تثنوني أبدا
عن تحقيق الحلم.
الراوية :
سار في طريقه إلى أوتنابشتيم البعيد، إلى جده الخالد الذي أدخله الآلهة مجمع الخالدين. وصل ليلا إلى ممرات الجبل. رأى الأسود وداخله الخوف. وهنالك رفع رأسه لإله القمر «سين»، وأخذ يصلي له ويبتهل للآلهة العظمى
28
بين الآلهة: «ألا فلتحفظيني من هذا الخطر ...» وفي الليل نام جلجاميش ثم صحا من نومه فزعا. كانت الوحوش
29
فرحة بالحياة، تمرح في ضوء إله القمر، فأمسك بلطته في يده، واستل سيفه من حزامه، وانقض عليها كالسهم، وراح ينهال عليها ضربا حتى شتتها.
وقد جاءت بعد هذا السطر فجوة كبيرة تبلغ اثنين وثلاثين سطرا نعرف من السطور التالية لها أن جلجاميش وصل إلى جبل «ماشو» أو جبل التوءمين، ولكننا لا نستطيع أن نعرف لماذا انقض في غضب على الأسود فراح يضربها ويقتلها ويطاردها. هل فعل هذا في نومه أم في يقظته؟ وهل أثار غضبه عليها أنها تمرح في ضوء القمر وتحيا لحظتها الخالدة، بينما يواصل بكاءه على صديقه وأخيه، وسعيه إلى جده أوتنابشتيم الخالد وإلى الخلود؟ المهم أنه وصل إلى جبل التوءمين الذي يسمى بالأكدية البابلية «ماشو»؛ لأنه يحرس بين قمتيه الشاهقتين الفوهة الهائلة التي تهبط منها الشمس كل مساء إلى باطن الأرض ثم تخرج في اليوم التالي لتشرق على الناس.
الفصل السابع
جلجاميش والرجل العقرب، وحوار مع سيدوري ساقية الحانة،
وكذلك مع أورشنابي ملاح مياه الموت
(جلجاميش أمام مدخل جبل ماشو. البشر العقارب يحرسون الجبل في هيئتهم المخيفة. لا يكاد يراهم عن قرب حتى يظلم وجهه خوفا من هول منظرهم والألق المميت الذي ينبعث من نظرات عيونهم، غير أنه يتماسك وينحني أمامهم، وقبل أن يفتح فمه ينتهي إليه صوت كبيرهم الرجل العقرب الذي ينادي زوجته قائلا):
1
الرجل العقرب (لزوجته ) :
انظري هناك!
الزوجة :
نعم. نعم. إنه يتقدم نحونا.
الرجل العقرب (ضاحكا) :
يبدو أن جسده من لحم الآلهة.
الزوجة :
بل يبدو من الطين البشري؟
الرجل :
انظري كيف أظلم وجهه غما وخوفا، كيف تعثر خطوه.
الزوجة (في تعاطف) :
لكنه يتماسك ويتقدم.
الرجل (متباهيا) :
ومن لا يرتجف رعبا لرؤية الرجال العقارب؟ حراس ماشو وبوابته الهائلة التي تغرب منها الشمس وتشرق، وترتفع إلى ذرى السماء وتمتد في باطن العالم الأسفل؟ من لا يرتعش فزعا من الرجال العقارب الذين تناطح صدورهم الأفق، وتغوص أجسادهم في أعماق الجحيم؟ تأملي الهلع والذهول في نظراته، لا بد أنها وقعت على عينيك وعيني اللتين تشعان بالألق المميت؛ الألق الذي يسقط كالصاعقة على الجبل فيتدحرج إلى الوادي.
الزوجة :
ومع ذلك فهو يتقدم. تكلم إليه. إنه ينحني أمامك.
الرجل :
أيها القادم العجيب، ما الذي جعلك تقطع الطريق البعيد، وتتسلق الجبال الوعرة، وتعبر الأنهار العصية على العبور؟ ما الذي دعاك للمثول أمامي؟ ليتني أعرف الهدف من رحلتك! (جلجاميش يقف جامدا ويحدق فيهما.)
الزوجة :
تكلم يا جلجاميش!
جلجاميش :
لأجل أوتنابشتيم جدي الخالد أتيت. أوتنابشتيم الذي دخل مجمع الآلهة وأنعموا عليه بحياة الخلود. أريد أن أسأله عن الموت والحياة.
2
الرجل (ضاحكا) :
القادم البعيد،
يطمح في الخلود.
الرجال العقارب (ضاحكين) :
يطمع في الخلود.
يطمح في الخلود.
ما أفظع الطموح!
وأبشع الجموح!
من بطل وحيد،
فؤاده حديد (يتضاحكون).
الزوجة :
اسكتوا! ما الذي دعاك للحضور؟ ما اسمك؟
جلجاميش (يحدق فيها ويهمس) :
جلجاميش.
الرجل :
لن يتكلم يا زوجتي. اسمع يا جلجاميش. لم يسبق لإنسان أن قطع الطريق إلى هذا الجبل. لم يتسن لبشر أن يتوغل في أعماقه؛ فالظلام يغمرها اثنتي عشرة ساعة مضاعفة، والظلام كثيف وما من شعاع ينفذ إليه. إن نفق الجبل يتقدم نحو مشرق الشمس ويتراجع إلى مغربها،
3
ونحن نحرس البوابة المؤدية لهذا النفق المعتم. وراء سلسلة الجبال التي تراها يتسع البحر الذي يطوق بلاد الأرض، ووراء بوابة الشمس يعيش جدك البعيد، عند مصب الأنهار في جزيرة الحياة الخالدة يسكن جدك أوتنابشتيم. هنالك خلف بحار الموت ، وما من سفينة يمكن أن تعبرها.
الزوجة :
تكلم يا جلجاميش. ما الذي حملك على كل هذه المشاق؟
جلجاميش :
الحزن على صديقي إنكيدو، فهد البرية ورفيقي في كل المشاق أدركه حظ البشر، فخفت الموت وانطلقت إلى البرية. صار صديقي الذي أحببته ترابا، ثقل على صدري عبء الفاجعة فرحت أسأل نفسي: هل يمكن أن أصبح مثله طينا من طين الأرض؟ أولن أصحو أبدا من رقدتي الأبدية؟ لهذا خرجت من بيت آنو، من بلدي أوروك. قطعت القفار وارتقيت الجبال وعبرت الأنهار حتى أتيت إليك. الألم يقود طريقي، والهم يوجه قدري. ايذن لي أن أدخل من بوابة هذا الجبل لعلي ألقى جدي، أسأله عن معنى العيش ومعنى الموت. اسمح لي أن أدخل حتى أجد حياة الخلد.
الرجال العقارب (ضاحكين) :
القادم البعيد،
فؤاده حديد،
يا لك من طموح،
مغامر جموح!
فرددوا النشيد،
للبطل العنيد،
يطاول السماء،
ويهزم الفناء.
وكل ما يريد،
من جده البعيد،
المجد والخلود.
فحطموا القيود،
ودمروا السدود؛
لعله يعود،
بالمجد والخلود،
من جده السعيد.
القادم البعيد،
فؤاده حديد ... إلخ. (يندمجون في الرقص والغناء ضاحكين.)
الزوجة (غاضبة) :
قلت اسكتوا. (تتقدم من جلجاميش. يتراجع للخلف قليلا ثم يثبت في مكانه. تمد يدها إليه وتأخذه من يده إلى زوجها الذي تقف أمامه كأنها تتحداه.)
الرجل العقرب :
اذهب يا جلجاميش. أليس هذا ما تريد؟
الزوجة (مهددة) :
وما أريده أيضا!
الرجل العقرب :
اذهب لا تخش شيئا. (للرجال العقارب الذين ما زالوا يغنون ويرقصون)
قالت لكم اسكتوا. هيا يا جلجاميش الجسور، بوابة الشمس التي نحرسها مفتوحة أمامك. افتحوا البوابة! افتحوا البوابة! ولتجد الطريق وسط الظلام.
الزوجة :
ولتخرج منه سالما يا جلجاميش.
أحد العقارب :
وتأخذ الخلود،
من جدك البعيد،
من جدك السعيد. (جلجاميش يتجه إلى النفق المظلم في الجبل تشيعه نظرات الزوجة الحنون. بينما تتردد من بعيد أصداء الغناء من الرجال العقارب.)
الراوية :
عندما سمع جلجاميش كلمات الرجل العقرب اتبع مشورته، ودخل من بوابة الجبل ليمضي على طريق شمش. ولما توغل لمدة ساعة مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه.
4
وعندما توغل ثلاث ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل أربع ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل خمس ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل ست ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل سبع ساعات مضاعفة، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل ثماني ساعات مضاعفة، صرخ صرخة عالية، كان الظلام كثيفا وما من ضوء، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل تسع ساعات مضاعفة، أحس بريح الشمال، وابتسم وجهه، كان الظلام لا يزال كثيفا، ولم يستطع أن يرى شيئا أمامه ولا خلفه. وعندما توغل عشر ساعات مضاعفة، كان المخرج قد أصبح قريبا. وعندما توغل إحدى عشرة ساعة مضاعفة، وجد نفسه في الخارج يواجه مشرق الشمس. وبعد أن توغل اثنتي عشرة ساعة مضاعفة، عم الضياء.
5
هنالك وجد نفسه أمام بستان إلهي وقف أمامه مذهولا، ثم دنا منه وأخذ يتجول فيه وهو يصيح:
جلجاميش :
إلهي شمش! ما كل هذه الأشجار التي تنوء بالجواهر والأحجار الكريمة! هذه شجرة تحمل فاكهة من عقيق، وتتدلى من أغصانها عناقيد الكرم. ما أجملها! ما أجملها! وهذه شجرة أوراقها من اللازورد وثمارها من جواهر أخرى نفيسة، فتنة للنظر، أي فتنة! حتى الأشواك تلمع فيها الأحجار النادرة، ويتألق اليشب واللؤلؤ من أعماق البحار. والبستان يسطع كالثريا في نورك الباهر يا شمش. إلهي وحارسي السماوي، إني أرفع يدي إليك، تعلم أن رحلتي كانت طويلة ومضنية. كان علي أن أقتل حيوانات البرية لأغطي بجلودها جسدي، وأستمد من لحمها طعامي، وسمح لي الرجال العقارب بالدخول من بوابة الجبل والسير على الطريق إلى مطلع الشمس عبر الظلمات الكثيفة. وها أنا ذا قد خرجت من النفق المظلم لأرى بستان الآلهة أمامي، ومن ورائه البحر الواسع. دلني يا إلهي على الطريق إلى جدي أوتنابشتيم البعيد. أرشدني إلى الملاح الذي يعبر بي البحر ومياه الموت لأحصل على الحياة. إلهي! يا إلهي وحارسي السماوي!
6
صوت شمش :
جلجاميش، كم يحزنني حالك! ها أنا ذا قريب منك أناديك وأجيب دعاءك: إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها.
جلجاميش :
تعلم أني قطعت البرية وحدي، انطفأت النجوم واحدا بعد الآخر، مرت علي السنوات وأنا أبيت الليل في القفار. لا الشمس ولا القمر ولا النجوم طلعت علي في ذلك النفق المعتم. دع عيني تراك يا شمش، دعني أشبع من سناك الوضاء. لقد ذهب الظلام وتبدد، وها هو ذا النور الساطع يغمرني من كل ناحية، فمتى يكتب للفاني أن ينظر في عين الشمس؟ أليس من حقي أن أبحث عن الحياة وأن أجدها إلى الأبد؟ أم أن آخرة المطاف هي الرقاد في التراب؟
شمش :
الحياة التي تريدها أمامك وحولك يا جلجاميش.
جلجاميش :
أريد الحياة الخالدة يا إلهي؛ الحياة التي لا تنتهي إلى تراب لا أصحو منه أبدا.
شمش :
هذه الحياة التي تسعى إليها لن تجدها. ألم أقل لك ذلك؟
جلجاميش :
أبتهل إليك. دلني على الطريق إلى أوتنابشتيم الخالد.
شمش :
لتلتمس عنده الحياة التي لن تجدها؟
جلجاميش :
لأسأله عن سر الحياة والموت. وإذا لم أجده ...
شمش :
إذا لم تجده؟
جلجاميش :
أرجع للبرية، أقطع الطريق مرة أخرى.
شمش :
إلى أوروك يا جلجاميش؟
جلجاميش :
هناك أصلي لك في بيت آنو. أقدم لك الأضاحي وأسكب السكائب.
شمش :
إذن فاذهب إلى سيدوري.
جلجاميش :
سيدوري؟
شمش :
ساقية الحانة الإلهية على شاطئ بحر الموت. هنالك تسكن وتعيش بالقرب من بوابة حديقة الآلهة المطلة على البحر. هنالك تحرس شجرة الحياة.
7
اذهب إليها في الحديقة التي تراها على البعد، وسوف تدلك على الطريق إلى أوتنابشتيم.
جلجاميش :
الحديقة البعيدة؟ أتكون هناك خلف الأشجار الشاهقة الضخمة؟ إلهي، إنها تتألق أيضا بالجواهر والأحجار النفيسة ، والأرض التي تفترشها ظلالها تبدو كبساط من الزمرد. (يغذ السير نحو الحديقة)
ما هذا؟ حتى الأشواك تتدلى منها اللآلئ والجواهر؟ ولم لا؟ ألم ينثر الآلهة بذورها؟ ألم يعينوا سيدوري حارسة عليها؟ (يسمع رنين كئوس وأصوات غناء خافت من بعيد، نتبين منه أصداء من هذه الأغنية التي يترنم بها صوت حزين وحنون) :
متع نفسك ليل نهار.
اجعل أيام حياتك
عيدا تملؤه البهجة
والنشوة والأسمار.
متع نفسك ليل نهار.
جلجاميش (مندفعا إلى مصدر الصوت) :
سيدوري. سيدوري. سيدوري.
الراوية :
سيدوري تجلس وحيدة على شاطئ بحر الموت، تحرس بوابة حديقة الآلهة وترعى حانتهم وتسقيهم من خمرها المقدسة. يغطي جسدها ثوب طويل شفاف، ويطوق خصرها حزام براق. تنشغل بتنظيم الدنان والأباريق وترتيب الكئوس، ثم ترجع إلى مجلسها أمام البوابة التي تحرسها من اللصوص والمتطفلين، بينما تترنم في صوت خفيض بالأغنية التي سمعناها، وتميل بين الحين والحين على كأس تشرب منها. تسمع صوت خطى مسرعة، فترفع رأسها وتلمح القادم المندفع الذي يفتش عنها في كل مكان وهو يهتف باسمها. ترى جلود الوحوش التي تكسو جسده المتسخ، وترتجف خوفا من هيئته المرعبة.
سيدوري (تكلم نفسها) :
من هذا؟ أهو متجول وحيد تائه، أم لص وقاطع طريق متهور؟ يبدو من هيئته المخيفة على صورة بطل له جسد إلهي، وإذا حكمت على وجهه من بعيد فقد سكن الهم قلبه. إلى أين يذهب؟ ماذا يريد؟ لماذا يندفع بهذه السرعة؟ ولماذا يناديني باسمي؟ فلأغلق الباب علي ولأحكم المزلاج. من يدري ماذا يحمل معه هذا الوحش الإلهي البشري؟ (تسرع بالاختفاء وإغلاق البوابة وشد المزلاج، غير أن جلجاميش الذي رآها وسمع صوت الباب والمزلاج يرفع ذقنه إلى أعلى، ويقترب من الباب الذي ثبت بصره عليه.)
جلجاميش :
يا ساقية الحانة! يا ساقية الحانة ! ماذا أنكرت مني حتى تغلقي الباب وتختفي وراءه؟ ماذا رأيت حتى تحكمي إغلاقه بالمزلاج؟ (يرفع البلطة في يده ويضعها على الباب)
الباب سأحطمه! والمزلاج سأكسره!
8
سيدوري (من وراء الباب) :
من أنت؟ إن منظرك مخيف.
جلجاميش :
وهل ترينني من وراء الباب؟
سيدوري :
من حقي أن أعرف؛ فأنا أحرس بوابة حديقة الآلهة.
جلجاميش :
وتسقينهم أيضا من خمر حانتك!
سيدوري :
بشرط أن يكونوا من الآلهة!
جلجاميش :
ألم تسمعي عن جلجاميش القادم من أوروك مسكن آنو كبير الآلهة؟
سيدوري :
جلجاميش؟ من هذا؟
جلجاميش :
البطل الذي ثلثاه إلهي والثلث الباقي بشري فان!
سيدوري (لنفسها همسا وإن كان يسمعها بأذنه الملتصقة بالباب) :
نعم. نعم. أدركت هذا عندما نظرت إليك. قلت لنفسي: هذا جسد من لحم الآلهة وإن غطته جلود الحيوانات الوحشية، وماذا تريد مني؟
جلجاميش :
لن تعرفي قبل أن تفتحي الباب؟ افتحي الباب!
سيدوري :
وإلا حطمته ببلطتك، ومن يدريني أنك لست لصا أو قاتلا أو قاطع طريق؟
جلجاميش :
افتحي الباب وانظري إلي. سترين المتجول الوحيد، من قطع الطرق الموحشة، وارتقى الجبال الوعرة، وعبر الأنهار والبحار والسهول والمراعي والوديان. سترين ...
سيدوري (تفتح الباب وتتأمله. يرى الكأس التي كانت تشرب منها في يدها، تمدها إليه) :
اشرب وسأعرف من أنت!
جلجاميش :
قبل أن تريني وتسمعيني؟
سيدوري (تتملى وجهه ثم تقول) :
آه! لم يبد الذبول على وجنتيك؟ لماذا انقبضت جبهتك وتجعدت؟ ولماذا اكتأبت روحك وانحنى قوامك؟ هل سكن الألم فؤادك فبدوت كجوال تائه؟ لقد لفحت الشمس والعاصفة وجهك وأحرقه البرد والهجير، فلماذا قطعت البرية واندفعت إلي؟
جلجاميش :
كيف لا تذبل وجنتاي وتتجعد جبهتي؟ كيف لا يسكن الألم فؤادي ولا ينحني قوامي؟ وكيف لا أبدو على هيئة متجول يجوب المسالك البعيدة؟ وكيف لا تحرق الشمس والعاصفة والبرد والهجير وجهي؟
سيدوري :
لماذا يا جلجاميش؟
جلجاميش :
لأن أخي الأصغر، فهد البرية إنكيدو، لأن صديقي ورفيقي في الملمات والمشقات، إنكيدو الذي أحببته، قد أدركه مصير البشر. إنكيدو الذي لازمني ونحن نرتقي جبل الأرز، ونصرع خمبابا حارس الغابة، ونقبض على الثور الذي أنزلته عشتار من السماء ونذبحه، صاحبي الذي ساعدني على قتل الأسود في ممرات الجبال، وشاركني كل المتاعب وواجه معي الأخطار، صاحبي وأخي وحبيبي قد أدركه حظ البشر الفاني. بكيت عليه ليل نهار ولم أسلمه للدفن عله من بكائي عليه يفيق. سبعة أيام وسبع ليال بكيت عليه حتى هجم الدود عليه، وسقطت دودة من أنفه. منذ أن مضى ما لي حياة. منذ أن ذهب وأنا أبحث عن الحياة ولا أجدها. هكذا رحت أجوب المراعي والسهول كلص البرية.
سيدوري :
أرأيت لماذا خفت منك؟ (ترفع الكأس لحظة إلى فمها وتمد يدها إليه فيشيحها بعيدا عنه.)
جلجاميش :
قدر صديقي يرزح على صدري. كيف يمكنني أن أسكت؟ كيف يمكنني أن أصرخ؟ سيدوري! أخي وصديقي صار ترابا. إنكيدو أصبح طينا من طين الأرض، جسده الذي طالما عانقته ... (تمد ذراعها بالكأس فيشيح بها بعيدا عنه)
ألن أرقد مثله فلا أصحو إلى الأبد؟ سيدوري.
سيدوري :
ماذا يا جلجاميش؟
جلجاميش :
إني أنظر إليك لكيلا أرى الموت الذي أخشاه.
سيدوري :
ولو تذوقت هذه الكأس لما رأيته ولا خشيته.
جلجاميش (بعد لحظات) :
ماذا تفعلين هنا يا سيدوري؟
سيدوري (فجأة) :
أعيش.
جلجاميش :
وحياتك، هل تظنين أنها الحياة الخالدة؟
سيدوري :
لا أظن لأنني على يقين.
جلجاميش :
تقولين إنها حياة الخلود؟
سيدوري :
لا أقولها، بل أشربها!
جلجاميش :
ماذا تعنين؟ ابعدي هذه الكأس.
سيدوري (ترفعها إلى فمها) :
وهل أجد الحياة الخالدة إذا أبعدتها؟ إنني أذوق قطرات من رحيقها فأجد فيها حياة الخلود.
جلجاميش :
قلت لك الحياة الخالدة ولم أقصد ...
سيدوري :
ولم تقصد لحظة الخلود؟ هل هذا ما يجعلك تبعد كأسي عنك؟
جلجاميش :
أقصد الحياة التي لا تعرف الموت، الحياة التي لا تنتهي في التراب.
سيدوري :
انظر في الكأس ولن ترى الموت. تذوق قطرة ولن تخشى التراب.
جلجاميش (يشيح بوجهه ويدير لها ظهره كأنه يتهيأ للانصراف) :
لا. لا. ليس هذا هو الخلود، ليست هذه هي الحياة الخالدة التي أبحث عنها.
سيدوري (وهي تغني وترقص حوله) :
جلجاميش. جلجاميش.
لم تتعجل سيرك؟
أين تقود خطاك؟
إن حياة تبحث عنها
لن تدركها
مهما حاولت.
لما خلق الآلهة البشر قديما
كتبوا الموت عليهم،
واحتفظوا في قبضتهم
بخلود يتحدى الحد،
ويوقف عجلات المولد والموت.
فاملأ بطنك.
متع نفسك ليل نهار،
واجعل أيام حياتك
أعياد البهجة،
وارقص والعب
يا جلجاميش ما شئت.
اخطر في ثوب زاه،
واغسل رأسك بالماء،
وضمخ جسدك بالزيت.
انظر للطفل الراقد بين يديك،
وأسعد زوجك في أحضانك،
ذلك هو حظ البشر،
وقسمتهم ما عاش الناس
وما عشت.
9 (تغني وترقص وهي تكرر بعض السطور السابقة.)
جلجاميش :
لا. لا. لا أقدر أن أفعل هذا. ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها، ولا الطريق الذي جئت لأسألك عنه.
سيدوري :
أي حياة وأي طريق؟
جلجاميش :
الطريق إلى أوتنابشتيم.
سيدوري (ساخرة) :
أوتنابشتيم البعيد؟ أوتنابشتيم الخالد؟
جلجاميش :
نعم. نعم. جدي أوتنابشتيم. دليني على الطريق إليه، صفيه لي، أعطني علامة ترشدني إليه، إذا استطعت عبرت البحر إليه وإذا لم أستطع ...
سيدوري :
لا موضع تعبر منه يا جلجاميش، ولا استطاع أحد منذ الأزمنة القديمة أن يعبر هذا البحر الذي لا يقدر على عبوره إلا شمش البطل.
إن الطريق إليه شاق، ومياه الموت العصية تحول بينك وبينه، من أي مكان ستجتاز هذا البحر يا جلجاميش؟ وماذا ستفعل إذا تمكنت من اجتيازه؟ مع ذلك يا جلجاميش ...
جلجاميش :
مع ذلك ...؟
سيدوري (يائسة) :
عندك أورشنابي، ملاح سفينة أوتنابشتيم، ستجده في الغابة يقطف الثمار ويجمع الأعواد.
حاذر أن تتعثر في الصور الحجرية التي معه؛ فبغيرها لا تتحرك السفينة. حاول أن تلقاه وتتفاهم معه. ربما استطعت أن تعبر معه بحر الموت، فإذا لم تستطع فارجع أدراجك.
جلجاميش :
سأرجع إلى البرية.
سيدوري :
بل إلي يا جلجاميش لتجد الحياة. (تمد إليه الكأس وهي تترنم ببعض سطور الأغنية السابقة فينصرف عنها ساخطا.)
جلجاميش :
ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها.
سيدوري :
جلجاميش.
جلجاميش :
قلت لك ليست هذه هي الحياة التي أبحث عنها. (يرفع بلطته في يده، يجرد سيفه من حزامه، ويندفع للخروج وهو يدمدم غضبا.)
سيدوري (خائفة) :
إذن فارجع إلى أوروك. (ينصرف منفعلا وهو ينادي): «يا أورشنابي الملاح !» ترفع سيدوري الكأس إلى شفتيها وتجرعه على مهل، ثم تردد بعض سطور الأغنية التي سمعناها وهي تشيعه بازدراء :
متع نفسك ليل نهار.
أسعد زوجك في أحضانك.
آه! ليتك ترجع إلي أو إلى وطنك أوروك! (يتردد نداء جلجاميش على أورشنابي الملاح.) (إظلام) (على أطراف الغابة، جلجاميش مندفع غاضب، وفي يده البلطة والسيف.)
جلجاميش :
أورشنابي! أنت أيها الملاح! (ينهال في ثورة غضبه على بعض الرقم أو الصور الحجرية التي يجدها في طريقه تكسيرا وتحطيما.)
10
إنني أسمعه ولا أراه. وها أنت ذي تحولين بيني وبينه. (يحطم الصور الحجرية) : أنت أيها الملاح!
قالت حارسة الحانة إنه يحتطب في الغابة ويجمع الأعشاب والثمار.
كيف أسمح له بتعطيل طريقي إلى جدي الخالد؟
أورشنابي : (يظهر بين الأشجار ويرى البلطة في يده والشرر في عينيه ويقول لنفسه) : آه! طائش جديد؟ (لجلجاميش) : أراك تتعجل الوصول إلى جزيرة الحياة؟
جلجاميش :
وإلى الخلود الذي فاز به جدي أوتنابشتيم.
أورشنابي :
خلود الجد الخالد؟ نفس القصة! اسمي أورشنابي، ملاح سفينة أوتنابشتيم. ما اسمك أنت؟
جلجاميش :
جلجاميش، من أوروك ذات الأسوار والأسواق من بيت إله الأفق العالي آنو. مضيت عبر المهالك والأخطار. عانيت الجوع والظمأ، وجربت الموت والظلام، حتى دلتني ساقية الحانة عليك.
أورشنابي :
سيدوري؟ ليتك بقيت عندها لتجرب الحياة!
جلجاميش :
الحياة التي عندها ليست هي الحياة التي أبحث عنها.
أورشنابي :
ولذلك خرجت من عندها وأنا واقف على بابها لا أستطيع الدخول.
جلجاميش :
وأنا واقف أمامك لتدلني عليه.
أورشنابي :
وتجرب الموت والظلام من جديد؟
جلجاميش :
ماذا تعني؟ أريد أن أصل إلى جدي أوتنابشتيم.
أورشنابي :
لتجد الحياة والخلود لديه؟
جلجاميش :
وأسأله عن معنى الحياة والموت. هيا لا تضيع وقتي!
أورشنابي :
أنا الذي أضيعه؟ كانا بين يديك في بستان الآلهة وحانة سيدوري، لماذا تركتهما أيها الحفيد السعيد؟
جلجاميش :
هل تجرؤ أن تسخر مني؟ ألأن وجهي ...
أورشنابي :
أنا لا أسخر إلا من نفسي، ولكن لماذا أرى الذبول على وجنتيك، والتجاعيد على جبهتك؟ ولماذا ران الكمد على قلبك، وأحرق وجهك برد الليل وحر الشمس، حتى أصبح شبيها بوجه متجول شريد؟
جلجاميش :
كيف لا تذبل وجنتاي وينقبض قلبي؟ كيف لا يحرق البرد والحر وجهي ولا أهيم في البراري؟ إن صديقي إنكيدو، فهد البرية وحمار الجبل الوحشي، من لازمني في كل المصاعب والمهالك، فقتلنا معا ثور السماء، وصرعنا خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، وقضينا على الأسود في مسالك الجبال. صديقي الذي أحببته فوق كل الحدود وشاركني في كل المشقات، قد عاجله حظ البشرية.
أورشنابي :
وماذا في هذا؟ هل حسدته على حظه؟
جلجاميش (مواصلا كلامه) :
بكيت عليه ستة أيام وسبع ليال. لم أوافق على دفنه في التراب؛ لعل بكائي أن يوقظه من نومه.
أورشنابي :
يوقظه من نومه؟
جلجاميش :
حتى هجم الدود على وجهه، فأصابني الرعب من منظره، واشتد علي الخوف من الموت، فهمت على وجهي في البرية. إن مصيره يرزح على صدري؛ فصديقي، من أحببت كثيرا، قد صار ترابا. صديقي، من أحببت كثيرا، قد صار ترابا. ألن أرقد مثله في التراب فلا أنهض أبدا؟ أيكون مصيري كمصيره؟
أورشنابي :
لهذا تسعى إلى جدك الخالد ليرزح مصيره على صدرك؟ (يضحك.)
جلجاميش (بغير أن يفهم) :
والآن بعد أن عرفت يا أورشنابي، كيف الطريق إليه؟ ما العلامة التي تدلني عليه؟ أرجوك أعطني العلامة! إذا استطعت عبرت البحر إليه، وإذا لم أستطع همت على وجهي في البرية.
أورشنابي :
وكيف تستطيع وقد حطمت الصور الحجرية؟ يدك هي التي حالت بينك وبين عبوره.
جلجاميش :
أتوسل إليك.
أورشنابي :
هذه البلطة التي في يدك، خذها يا جلجاميش وارجع للغابة. اقطع مائة وعشرين عودا طول كل منها ستون ذراعا. اصقلها واصفح أطرافها ثم جئني بها. سأجهز السفينة ريثما تحضر، ثم ندفعها على الأمواج وننطلق بها إلى مياه الموت. (جلجاميش ينحدر مسرعا إلى الغابة ويقتطع الأعواد المطلوبة، ويصقلها ويصفح أطرافها لتصلح للتجديف، بينما يواصل أورشنابي كلامه.)
ما دمت مصرا؟ هذا شأنك. ستكون أول بشر يعبر مياه الموت، وسيكون علي أن أرجع بك. آه لو سمعت نصيحتي! لو كنت مكانك! لكنك بشر لا يتعلم إلا بعد أن يجرب، ومهما جرب لا يتعلم، فلأجرب أنا أيضا. لقد تعبت من نقل الآلهة إلى هنا، يدخلون بستانهم ويتركونني. تعبت من رؤيتهم من وراء السور وهم يأكلون ويشربون في حانة سيدوري. آه يا سيدوري! وأنت أيضا لا تتعلمين. ألم تملي من الخالدين؟ ألا تحنين لبشر يحبك ويحن إليك. ودائما من وراء السور؟ هل يمكن أن تفهم يا جلجاميش؟
جلجاميش (عائدا يحمل الأعواد) :
فهمت يا أورشنابي، وهذه هي المائة والعشرون.
أورشنابي :
اغرز واحدا منها في أعماق الماء. اغرزه بكل قوتك. (جلجاميش يفعل ما يأمره به.)
أورشنابي :
لكن حذار أن تلمس يدك الماء وإلا مت على الفور. اغرز عودا ثانيا. ألا يستحق الخلود هذا الجهد؟ وعودا ثالثا. هيا يا جلجاميش! وثالثا ورابعا. جدك ينتظر هناك، لكن هل ينتظرك أنت؟ آه! وعودا خامسا وسادسا. أبدا لم يزره أحد من البشر؛ ولذلك لا ينتظر أحدا ولا شيئا. والسابع هيا والثامن، ادفعه بكل قوتك إلى عمق الماء. سيعاقبني حتما حين يراك، لكن كيف يكون عقابه؟ والتاسع والعاشر، لا تيئس، لا تتململ؛ فالملل هناك وفير، والعدم كذلك يا جلجاميش. هيا كي تصل إليه. اغرز فيه التاسع أيضا، والعاشر والحادي عشر بقوة. ستعانقه حتى تفنى فيه ويفنى فيك، ستقول لنفسك: ليتني سمعت كلامك يا أورشنابي! ليتني استجبت لك يا سيدوري! ادفع الثاني عشر ثم الثالث عشر، ادفعه إلى الأعماق بقوة. آه يا سيدوري! أأموت ولما أتذوق كأسك؟ والرابع عشر والخامس عشر، اغرزه، اغرزه وحاذر أن تلمس يدك الماء. لو كنت مكانك لشربت ومت. والسادس عشر والسابع عشر. وستشبع من هذا الموت الميت وتلح علي: عد بي للموت الحي! وإذا خفت سآخذه من يد سيدوري بدلا عنك. والثامن عشر والتاسع عشر، لكن آه! بعد فوات الوقت، بعد فوات الوقت. والعشرين اغرزه بقوة، ادفعه لقلب الأعماق، وتكتمل المائة والعشرون. ها هي ذي اكتملت، لم تبق سوى خطوات، ما أروع هذا منك! نفدت منك الأعواد وها أنت تفك حزامك، تخلع جلد الأسد وتصنع منه شراعا. والشاطئ يقترب، اقترب. وها هو أوتنابشتيم الخالد، ينظر ناحيتك، يعجب، ويشير إليك . اسمعه، سينادي الآن عليك.
أوتنابشتيم :
من هذا القادم مع أورشنابي؟ ماذا يطلب مني؟
11
وبأي حق ركب سفينتي؟ هل هو إنسان؟ لا. لا. لم يسبق أن وصل إنسان إلي. عجبا! إنه يشبهني. أنت أيها الغريب! ما الذي جاء بك؟ لماذا تعبر بحر الموت إلي؟ اذكر اسمك. أنا أوتنابشتيم الخالد، من أعطاه الآلهة حياة الخلد. ماذا تبغي؟ من هذا يا أورشنابي؟
أورشنابي (ينادي على البعد) :
هو من نسلك وحفيدك. تكلم يا جلجاميش!
أوتنابشتيم :
ولماذا اختفت الصور الحجرية؟
أورشنابي :
اسأل بلطته عنها، من شدة لهفته لك حطمها.
أوتنابشتيم :
كيف يحطمها؟ كيف سمحت له أن يفعل هذا؟
أورشنابي :
تكلم يا جلجاميش.
جلجاميش :
اسمي جلجاميش، جئت إليك من أوروك ذات الأسوار والأسواق، قطعت طريقا بعيدا إليك، وها أنا أراك أخيرا، يا أوتنابشتيم البعيد.
أوتنابشتيم :
وأنا أراك كما تراني، لكن لماذا ذبلت وجنتاك وشحب وجهك؟ لماذا نفذ الكمد إلى قلبك وتغشى الأسى وجدانك، فبدوت كجواب أحرق البرد والحر وجهه وانطلق يهيم في البراري؟
جلجاميش :
كيف لا تذبل وجنتاي وينقبض وجهي؟ كيف لا يغشى الأسى فؤادي، وتضمر قسماتي، وأشبه جواب البراري الذي أحرق البرد والحر وجهه؟ إن صديقي إنكيدو، فهد البرية وحمار الجبل الوحشي، من لازمني في المصاعب والمشاق، فارتقينا الجبال وقتلنا ثور السماء، وصرعنا خمبابا الذي يسكن غابة الأرز، وقضينا على الأسود في مسالك الجبال، صديقي إنكيدو الذي أحببته فوق كل الحدود، وعبر معي كل المهالك؛ قد أدركه حظ البشر وقسمتهم. بكيت عليه ستة أيام وسبع ليال، لم أوافق على دفنه في التراب، حتى هجم الدود على وجهه، داهمني الرعب من منظر صديقي، واشتد علي الخوف من الموت، فانطلقت جريا في البراري. ظل مصير صديقي يرزح فوق صدري، حتى قطعت الطريق البعيد في البرية. آه! صار صديقي وحبيبي ترابا، كيف تراني أسكت أو أصمت؟ إنكيدو صار ترابا، أولن أرقد مثله في التراب فلا أصحو أبدا؟ (فترة صمت.)
أوتنابشتيم :
أكمل يا جلجاميش!
جلجاميش :
ولكي أصل إلى أوتنابشتيم الذي يسمونه البعيد، رحت أجوب البلاد، وأجتاز الجبال الوعرة، وأعبر كل البحار. لم ينعم وجهي بالنوم الحلو، أتلفت نفسي بالأرق، وأسكنت الوجع في أعضائي، وقبل أن أبلغ بيت ساقية الحانة كانت ثيابي قد أصبحت مزقا بالية، وكنت قد قتلت الدب والضبع، والأسد والفهد، والنمر والأيل والوعل، ووحوش البرية وحيوان الفلاة. قتلتها، وأكلت لحومها، واكتسيت بجلودها.
12 (أوتنابشتيم يتفكر طويلا حتى ليبدو كالغارق في النوم، ثم يشير لجلجاميش أن يتقدم منه.)
أوتنابشتيم :
تقدم يا جلجاميش! تقدم! أما أنت فلا.
أورشنابي :
سيدي الخالد ...
أوتنابشتيم :
أنت مطرود. اذهب يا أورشنابي!
أورشنابي (في فرح ظاهر) :
هل قلت اذهب؟ هل قلتها؟
أوتنابشتيم :
اذهب مطرودا من الشاطئ؛ عسى ألا يرحب بمقدمك المرفأ، وليبرأ منك موضع العبور. تقدم أنت. تقدم يا ولدي.
أورشنابي (ساخرا) :
أنا يا جدي الخالد؟
أوتنابشتيم (غاضبا) :
قلت اذهب مطرودا من هذا الشاطئ. (أورشنابي يدير ظهره ويتهيأ للانصراف)
بل انتظر. انتظر. انتظر لترجع من حيث أتيت.
أورشنابي :
إلى شاطئ بحر الموت؟ قريبا من سيدوري؟ من بستان الآلهة؟
أوتنابشتيم :
قلت انتظر أيها المطرود إلى الأبد. انتظر أوامري وتعليماتي.
أوتنابشتيم (فرحا يرقص ويغني لنفسه) :
مطرودا وإلى الأبد؟!
من هذا السأم الأزلي بأرض الخلد؟
من خدمة أوتنابشتيم الخالد؟
من جنة هذا العدم الراكد؟
شكرا يا أوتنابشتيم الخالد!
شكرا وانعم بخلودك وحدك.
سيدوري يا سيدوري!
ما أقسى بعدك!
آه يا جلجاميش لو تصدق وعدك،
وأعيدك لأوروك ذات الأسوار،
وأحتفل بنصرك وأبارك مجدك! (يختفي أورشنابي مؤقتا من المكان. يسمع صوت أوتنابشتيم وهو ينادي من بعيد):
أوتنابشتيم :
تقدم يا جلجاميش! أنا وزوجي في انتظارك. تعال لأفضي لك بالسر. (إظلام وستار.)
الفصل الثامن
لقاء مع أوتنابشتيم وأخبار الطوفان عودة جلجاميش بالنبتة
(يتقدم جلجاميش حذرا من مرقد أوتنابشتيم الذي يتمدد على ظهره كجثة مريض مخدر، وهو عجوز نحيل، ينبعث صوته كصفير الريح بين أعواد القصب.)
أوتنابشتيم :
تريد الدوام والثبات؟ تعال يا ولدي. (مناديا زوجته) : تعالي أنت أيضا يا زوجتي، تعالي لتري القادم إلينا من بحر الزوال والموت.
الزوجة :
إلينا نحن؟ نحن الأسماك الملقاة على رمل الأبدية؟
أوتنابشتيم : (لجلجاميش)
جئت تبحث عندي عن الحياة ؟
الزوجة : (بعد أن تنظر طويلا إلى جلجاميش)
يبحث عندك أنت عن الحياة؟
أوتنابشتيم :
انتظري يا زوجتي. تكلم يا جلجاميش.
جلجاميش :
قلت لنفسي بعد أن أدرك أخي وصديقي حظ البشر: فلأذهب إلى جدي أوتنابشتيم.
الزوجة (مقاطعة) :
جدك أوتنابشتيم، انظر إليه يا ولدي.
أوتنابشتيم (غاضبا) :
قلت انتظري يا امرأة. أكمل يا جلجاميش.
جلجاميش :
فلأذهب لأوتنابشتيم البعيد، الذي باركته الآلهة ووجد الحياة.
الزوجة (بازدراء) :
باركته الآلهة وباركتني معه! نعم. نعم.
أوتنابشتيم (ينظر إليها شزرا) :
وآسفاه! حتى الأبدية لا تسكت لسان امرأة ولا تغلق فمها! ثم ماذا يا جلجاميش؟
جلجاميش :
وهكذا غادرت أوروك وطفت البلاد. قطعت الطرق البعيدة، تسلقت الجبال الوعرة. عبرت الأنهار والبحار. جعت وطعمت زاد الألم. عطشت وشربت كئوس العذاب. صوبت سهامي للوحش السادر في البرية وتغذيت بلحمه، وكسوت الجسد المعتل بجلده، حتى وصلت قدماي إلى حافة بحر الموت. هناك رأيت سيدوري. رقصت، غنت، مدت يدها بالكأس.
الزوجة (صائحة) :
سيدوري ساقية الحانة؟ ما أسعدها بالخمرة وغناء الكأس!
أوتنابشتيم : (ينظر إليها في غضب)
أكمل يا جلجاميش!
جلجاميش :
لتهدم حانتها ولتنسكب الخمرة في جوف البحر! ولتهجم أرواح الموتى من أعمق ظلمات الأرض فتلتهم اليابس والأخضر!
الزوجة :
إلى هذا الحد تريد الخلود؟ ألم تجد الحياة لديها؟
جلجاميش :
لم تكن هي الحياة التي أبحث عنها، لم تكن هي الحياة التي فزت بها يا أوتنابشتيم. أتوسل إليك؛ دلني عليها! دلني عليها!
أوتنابشتيم :
أية حياة تقصد يا ولدي؟
جلجاميش :
الحياة بلا موت، ولا ألم، ولا ظلام. الحياة ...
الزوجة (تقاطعه) :
مثل حياتي وحياتك يا زوجي الخالد؛ بلا موت ولا ألم ولا ظلام، بلا حياة ولا فرح ولا نور.
جلجاميش :
أريد الحياة التي لا تنتهي إلى التراب؛ التراب الذي أهيل على أخي وصديقي ولن ينهض منه أبدا (يبكي) .
الزوجة :
تريدها لنفسك يا جلجاميش؟
جلجاميش :
ولشعبي في أوروك، ولكل إنسان.
الزوجة :
حقا! حقا! لشعبك في أوروك، ولكل إنسان.
أوتنابشتيم :
يا ولدي كف عن الشكوى ودع السخط.
آه ما أقسى الموت!
قدره آلهة الكون على البشر،
ولن ينعم بخلود
إنسان فان قط .
جلجاميش (لنفسه) :
آه من هذا الملل القاتل!
هل جئت لأسمع من جدي الكامل
حكمة رجل فاشل؟
أوتنابشتيم (مواصلا) :
تبغي للحي دواما؟
هل دام الحال لحي؟
هل نبني بيتا للأبد،
ونختم عقدا،
أو نبرم عهدا لا يمحى؟
هل يقتسم الإخوة ميراثا يبقى؟
أم يبقى الحقد بقلب الحاقد لا يفنى؟
أتدور الدورة حتما، ويفيض النهر
ولا يخلف وعدا؟
واليعسوب الأعمى
إن أبصر ضوء الشمس
ألا يلقى حتفه؟
أيرفرف كيلولو أو كيرريبا
1
في ظل ربيع لا يذبل يوما؟
أم تنظر وجه الصبح الناصع
عيناه دوما؟
منذ القدم وليس هناك ثبات.
ليس هناك خلود.
منذ القدم وللأبد.
كم يشبه وجه النائم وجه الميت في اللحد!
من سيميز - إن وافى الأجل الفاجع -
بين السيد والعبد؟
منذ تشاور جمع الآلهة العظمى
قسمت «مامتوم»
2
سيدة القدر الكبرى
حظ الانسان.
ولكن لم تكشف أبدا عن يومه؛
ولذلك غاب
وسوف يغيب دواما عن علمه.
جلجاميش :
هل جئت لأسمع هذا منك؟ إنني أنظر الآن إليك فلا أراك تختلف عني؛ فأنت تشبهني كما يشبه الوالد ولده، وقسمات وجهك مثل قسمات وجهي، تصورتك بطلا متهيئا للمعركة، وجئت إليك وقلبي مصمم على الصراع معك، وها أنا أجدك راقدا في هدوء على ظهرك. قل لي: كيف دخلت مجمع الآلهة؟ كيف فزت بالحياة الخالدة؟
أوتنابشتيم :
سأكشف لك يا جلجاميش عن أمر خفي، سأطلعك على سر من أسرار الآلهة، لا شك أنك تعرف مدينة شورباك
3
على شاطئ الفرات، كانت هذه المدينة قد ألمت بها الشيخوخة كما شاخت الآلهة التي تعيش فيها. ولما فاحت رائحة الفساد بين أهلها وارتفع ضجيجهم في أسماع الآلهة، صمموا على تسليط الطوفان عليها، واجتمعوا للتشاور فيما بينهم: أبوهم «آنو» إله السماء العالية، «إنليل» البطل رب العواصف العاتية، «ونينورتا» رب السدود والقنوات، و«آيا» رب الحكمة والمياه العذبة. واتفق الآلهة على إفناء البشر، غير أن «آيا» الذي أقسم على الوفاء للبشرية حذرني في الحلم وهمس لبيتي بما دار بينهم (يقلد صوت آيا وهو يهمس لكوخ القصب وجدرانه) : يا كوخ القصب! أيها الجدار! أنصت يا كوخ القصب! وافهم يا جدار! يا رجل شورباك! يا ابن أوبار-توتو،
4
اهدم بيتك وابن سفينة، ازهد في الثروة وانج بنفسك، اهجر ممتلكاتك، أنقذ روحك! واحمل في فلكك بذرة كل حياة! اجعل عرضها مساويا لطولها، وغطها بسقف يشبه سقف الآبسو.
5
سمعت ما قاله آيا وفهمته، ثم قلت: سأفعل يا مولاي ما أمرتني به، ولكن ماذا أقول للمدينة وشعبها وشيوخها؟ فتح آيا فمه وقال لعبده: قل لهم لقد علمت أن إنليل غاضب علي؛ ولهذا حرم علي أن أعيش في مدينتكم، ولن يسمح لي بأن أمشي على أرضه، سأهبط لهذا السبب إلى بحر المياه العذبة حيث أعيش مع ربي وإلهي آيا، وسيمطركم ربي خيرات وطيورا وأسماكا وفيرة، ويهبكم من الحصاد ثروة لا تنفد، ويرسل عليكم البقول في الصباح، ويمطر عليكم القمح في المساء. وما إن لاحت تباشير الفجر حتى تجمع الناس من حولي، بعضهم قدم الأضاحي من الشياه المنتقاة، والبعض الآخر أحضر معه أغنام البرية، والأطفال حملوا معهم القار، والأقوياء من الرجال جلبوا معهم كل ما يلزم.
جلجاميش :
وخدعتهم يا جدي أوتنابشتيم؟! هل تعترف بخطئك في حق الناس؟
أوتنابشتيم :
وأي خطيئة ارتكبتها يا ولدي لإنقاذ الحياة؟ في اليوم الخامس صممت هيكل السفينة، جعلت مساحة سطحها حقلا واحدا،
6
وارتفاع جدرانها مائة وعشرين ذراعا. ثم أكملت شكلها الخارجي على هذه الصورة؛ صنعت فيها ستة طوابق، وقسمتها إلى سبعة أدوار، والأرضيات إلى تسعة، وثبتها من الوسط بمصدات المياه. زودتها بالمجاديف وخزنت فيها المؤن، وسكبت في الفرن ست وزنات من القار، وثلاث وزنات من الأسفلت. أحضر حملة السلال وزنات من الزيت، استهلك الطحين واحدا منها، وخزن ملاح السفينة اثنتين. ذبحت للناس عجولا، ورحت أنحر الخراف كل يوم، وسقيت الصناع العصير ونبيذ السمسم والزيت والخمر،
7
فأقبلوا عليها كأنهم يشربون من نهر جار، ويحتفلون بعيد من أعياد رأس السنة. واكتملت السفينة في اليوم السابع مع غروب الشمس،
8
فحملتها بكل ما أملك من فضة وذهب ومن بذور كل كائن حي، ثم أدخلت إليها كل أهلي وأقاربي، ووحوش البرية وحيوانها، وجميع أصحاب الحرف والصنائع جعلتهم يدخلون. كان شمش
9
قد حدد لي مهلة معينة، وقال لي: «سأرسل في الصباح بقولا، وفي المساء مطرا من القمح، عند ذلك ادخل السفينة وأغلق بابك.» رحت أقلب بصري في الأفق وأراقب أحوال الطقس، وعندما حل الموعد الذي ضربه الإله ونصب المساء خيمته، أرسل «حدد»
10
رب العاصفة مطرا مخيفا. نظرت إلى الأفق ففزعت، ودخلت السفينة وأغلقت الباب، ثم أسلمت قياد الفلك بكل ما فيه من متاع لملاح الدفة بوزر-أموري.
11
وما إن لاح أول ضوء حتى ارتفعت في السماء سحابة كثيفة السواد يركبها حدد ويرعد فيها ويبرق، يتقدمه رسولا العاصفة «شولات» و«خانيش» اللذان انطلقا فوق التلال والجبال والسهول. اقتلع «أرجال» الدعائم
12
وفتح نينورتا السدود، فسالت المياه من الخزانات. رفع الآنوناكي، قضاة الجحيم السبعة، مشاعلهم عاليا ليحرقوا الأرض بوهجها المرعب، وغشى السماء الضيق والحصر لما أحال «حدد» كل نور إلى ظلام، وتحطمت الأرض الشاسعة كما تتحطم قدر الفخار، هبت العاصفة الجنوبية يوما بأكمله، وأخذت تتدافع مسرعة حتى أغرقت المياه الجبال، وداهم مدها البشر فأتى عليهم كالحرب المهلكة. لم يستطع أحد أن يتعرف على أحد، ولم يعرف الأخ أخاه، ومن السماء لم يظهر أثر لأبناء البشر، وذعر آلهة بابل من هذا الطوفان فلجئوا إلى سماء آنو، وأقعوا عند الجدران كالكلاب المرتعدة، وصرخت عشتار سيدة الآلهة ذات الصوت العذب كما تصرخ امرأة في المخاض:
عشتار (أو صوتها) :
ويلي! يا ويلاه! ليت هذا اليوم صار إلى الوحل والطين!
13
كيف أمكنني أن أوصي بهذا الشر في مجمع الآلهة؟ كيف أمرت بتسليط الحرب على البشر لتفتك بهم؟ ألست أنا التي أنجبت أحبابي من الناس؟ وهل أنجبتهم لكي يملئوا البحر كصغار الأسماك؟
أوتنابشتيم (مواصلا كلامه) :
وبكى معها الآلهة الكبار.
14
انكفئوا في مجلسهم وأخذوا ينوحون بشفاه جافة. ستة أيام وست ليال والرياح تواصل هبوبها، والطوفان والعاصفة الجنوبية يجتاحان الأرض، حتى إذا جاء اليوم السابع خفت وطأة الحرب التي شنها الطوفان والعاصفة، بعد أن أطاحت بما حولها كامرأة في المخاض. هدأ البحر وسكنت أمواجه، وخمدت العاصفة وتراجع الطوفان. عندئذ فتحت الكوة فسقط الضوء على وجهي، وتطلعت أبحث عن اليابسة فلم أجد غير السكون الشامل من حولي، والبشر جميعا قد تحولوا إلى طين، والسطح المنبسط أمامي مستو كأسطح البيوت. ركعت على قدمي وبكيت، جرت الدموع على وجهي وبكيت. (يحاول عبثا أن يبكي، تقف زوجته غاضبة وهي تصيح) :
الزوجة :
ابك يا أوتنابشتيم! حاول أن تبكي على نفسك وعلي!
أوتنابشتيم (صارخا) :
ومن أين لي بالدموع؟ هل نسيت أنني خالد؟ إنك أيضا خالدة مثلي؟
الزوجة :
لم أنس أننا تحولنا إلى طين.
أوتنابشتيم :
لو حدث هذا لما عجزت عن إسكاتك منذ أن انحسر الطوفان. ذكرني يا جلجاميش.
ماذا كنت أقول؟
جلجاميش (متفكرا) :
أجل. أجل. كنت تبكي على البشر الذين تحولوا إلى طين.
أوتنابشتيم :
وما زلت أبكي يا ولدي، لكن بلا دموع. (مواصلا حكاية الطوفان)
مددت بصري إلى تخوم البحر مستطلعا الشواطئ. برزت جزيرة على بعد اثنتي عشرة ذراعا مضروبة في اثنتي عشرة. واقتربت السفينة من جبل نصير
15
الذي أمسك بها فاستقرت عنده ولم تهتز. أمسك بها الجبل ومنعها من الاهتزاز يوما ويوما ثانيا، أمسك بها ومنعها من الاهتزاز يوما ثالثا ورابعا، أمسك بها ومنعها من الاهتزاز يوما خامسا وسادسا. وعندما أقبل اليوم السابع أتيت بحمامة وأطلقتها. طارت الحمامة بعيدا ثم رجعت، لم تر عينها مكانا تستقر فيه فعادت أدراجها. أتيت بعصفور سنونو وأطلقته. طار السنونو بعيدا ثم رجع، لم تر عينه موضعا يستقر فيه فعاد أدراجه. أتيت بغراب وأطلقته. طار الغراب كذلك بعيدا، ولما رأى الماء قد انحسر، أخذ يأكل ويحوم وينعب ثم لم يرجع. تركت الجميع
16
ينطلقون لجهات الريح الأربع وقدمت أضحية. أقمت وليمة قربان سكبت فيها الخمر على قمة الجبل، ووضعت سبعة مراجل وسبعة أخر، أفرغت في أوعيتها أعواد القصب وخشب الأرز والآس. شمت آلهة بابل الرائحة الزكية، فتجمعت حشودها كالذباب حول الضحية والمضحين، ولما أن حضرت «عشتار» سيدة الآلهة
17
رفعت عقدها الكريم الذي صنعه لها «آنو» ليدخل السرور على قلبها، وصاحت قائلة (تظهر عشتار سيدة الآلهة على أحد مستويات المسرح الأخرى ويسلط الضوء عليها، ثم يتوالى ظهور «إنليل» رب العاصفة الغضوب، و«آيا» رب الحكمة والمياه العميقة وصديق البشر، ونينورتا إله السدود والقنوات، وأوتنابشتيم وزوجته) :
عشتار (ترفع العقد في يدها) :
أيها الآلهة الحاضرون جميعا، بحق هذا العقد الكريم، وبحق أبي آنو الذي أهداه إلي، أبدا لن أنسى هذه الأيام المخيفة، كما لن أنسى اللازورد واللؤلؤ الإلهي الذي يلتف على جيدي، أبدا لن أنساه أبدا. فليأت الآلهة جميعا إلى هذه الوليمة، ولنبتهج بإنقاذ الحياة. أما إنليل فليس له أن يحضرها، ليس له أن يذوق طعامها أو يشرب من خمرها. محال أن نراه معنا بعد أن سلط الطوفان على الأرض بغير تدبر، وحكم على أبنائي البشر بالموت والهلاك. ليس من حقه أن يشاركنا هذه الوليمة.
إنليل (في غضب بعد أن سمعها وهو يتلفت حوله) :
ما هذا الذي أسمعه من سيدة الآلهة؟ كيف نجت هذه السفينة بمن فيها من لعنتي؟ ألم يصدر حكمي على البشر جميعا؟ ألم آمر بإهلاكهم عن آخرهم؟ كيف نجا هؤلاء من عقابي؟
نينورتا (متلطفا) :
رويدك يا سيد العواصف والأرضين! أطلقت رياح الغضب على الأرض ومن فيها. دعها الآن لتسكن فوق ذرى جبل الحكمة.
إنليل (غاضبا) :
ماذا تقصد بجبل الحكمة؟
نينورتا (مشيرا إلى رب الحكمة آيا) :
ها هو ذا قادم.
الجميع :
آيا؟
أوتنابشتيم وزوجته (هامسين) :
صديق البشر.
نينورتا :
من وهب التدبير مع الحكمة غيره؟ من يعرف سر الأشياء سواه؟
إنليل :
ومن أفشى سر الآلهة سواه؟
آيا :
يا أحكم الآلهة جميعا، أنت يا أبي البطل إنليل!
18
كيف تغلب غضبك على حكمتك فأرسلت هذا الطوفان؟
إنليل :
وكيف تغلب عطفك على البشر على صون الأمانة وكتمان الأسرار؟
آيا :
هل تسمع من لا ترقى حكمته إلى حكمتك؟
إنليل :
وسيسمعك من لا يرقى دهاؤه إلى دهائك.
آيا :
أعلم أنهم فسدوا عن آخرهم، أنهم استحقوا اللعنة
منك ومن كل الآلهة، لكن يا إنليل،
هل استحقوا الفناء مع كل الأحياء؟
من يرتكب الإثم فحمله جريرة إثمه.
من يخطئ دعه يكفر عن خطئه .
لكن لا تشتد عليه لئلا يهلك.
لا تقس عليه لكيلا يختنق ويفنى.
لو أرسلت إليهم أسدا يأكل بعضا منهم
بدلا من هذا الطوفان،
ذئبا ينتقم ويغدر،
جوعا أو قحطا أو طاعونا،
بدلا من هذا الطوفان؟!
إنليل :
ماذا أرسلت عليهم أنت؟
آيا :
أنزلت عليه الأحلام.
إنليل :
الأحلام؟ ومن هو هذا الحالم العاصي؟ ما اسمه؟
آيا :
ها هو يقف أمامك؛ أوتنابشتيم.
إنليل :
أوتنابشتيم؟
آيا :
دمه في رقبتك ولحمه.
إنليل (يتقدم من أوتنابشتيم وزوجته) :
أأنت العاصي؟
آيا :
الذي أنقذ بذرة الحياة.
إنليل (مداعبا) :
كما أنقذ زوجته أيضا. إلي يا أوتنابشتيم. تعال مع زوجتك.
الزوجة :
مولاي!
إنليل :
تعالا! اركعا أمام إلهكما الذي عصيتماه! ها هو ذا يضع يده على جبهتكما ويبارككما إلى الأبد.
الزوجة :
إلى الأبد؟!
إنليل :
كان أوتنابشتيم حتى الآن بشرا فانيا. منذ الآن سيصبح مثل الآلهة.
الزوجة :
أنا أيضا يا مولاي؟
إنليل :
ستعيشان بعيدا عن البشر.
الزوجة :
آه!
إنليل :
وحدكما في جزيرة الحياة.
الزوجة :
وحدي مع أوتنابشتيم؟
إنليل :
في جزيرة الخلود.
الزوجة :
بعيدا عن البشر؟
إنليل :
وعن الأحياء جميعا.
الزوجة :
وتسمي هذا خلودا؟!
إنليل :
وأباركه إلى الأبد. هيا يا أوتنابشتيم الخالد. عيشا في جنة ديلمون، بعيدا عند فم الأنهار. لقد كتبت عليكما الخلود. كونا خالدين!
أوتنابشتيم وزوجته (وهما يركعان في خشوع) :
آه! كتبت علينا الخلود. كتبت علينا الخلود.
أوتنابشتيم :
وانهارت زوجتي فوقعت على وجهها مغشيا عليها، وانصرفت الآلهة واحدا بعد الآخر بعد أن أكلوا وشربوا وهم يغنون:
كتبنا الخلود عليكم! كتبنا الخلود! ورحت أنثر الماء على وجهها حتى أفاقت.
الزوجة :
لا تصدقه يا جلجاميش.
أوتنابشتيم :
ومنذ ذلك اليوم ونحن ننعم بالخلود.
الزوجة :
نعم. نعم. ولا نفيق من لعنته.
أوتنابشتيم :
أرأيت يا جلجاميش؟ من يجمع آلهة بابل لتنقذك من الطوفان؟ هل يرضيك فناء البشر لتحظى وحدك بحياة الأبدية؟
الزوجة :
وهل عرفت الآن ما هو الخلود الذي تسعى إليه يا جلجاميش؟ هل وجدت الحياة؟
جلجاميش (متفكرا لحظة، ثم مخاطبا نفسه) :
أهذا هو الخلود؟ أهذه هي الحياة؟ (ثم بصوت مرتفع)
كيف أتحمل أبدية بلا حياة ؟
الزوجة :
ما دمت رفضت حياة بلا أبدية؟
جلجاميش :
أبدية بلا حياة، حياة بلا أبدية. ما هذا اللغز؟ إني لا أفهم شيئا.
الزوجة (مقتربة منه، تهمس في أذنه) :
ربما تفهم عندما ترجع إلى أوروك. ربما تجدهما معا.
جلجاميش :
أجدهما معا؟
الزوجة :
نعم. نعم . الحياة والأبدية عندما ترجع إلى أوروك.
جلجاميش (يبتعد عنها في خوف) :
عندما أرجع إلى أوروك؟
أوتنابشتيم (في غضب، كأنما يحاول أن يبعدها عنه) :
اسمع يا جلجاميش.
جلجاميش :
نعم يا جدي، الخالد.
أوتنابشتيم :
سمعتني وأنا أقول كم يشبه وجه النائم وجه الميت.
الزوجة :
وأنا وجدك لا ننام منذ الطوفان.
أوتنابشتيم :
إننا نقاوم النوم منذ أن باركتنا يد إنليل, هل يمكنك أن تقاوم النوم مثلنا.
جلجاميش :
أقاوم النوم؟ منذ أن خرجت من أوروك وعيناي لم تعرفا النوم العذب.
أوتنابشتيم :
حاول أن تقاومه ستة أيام وسبع ليال. أتريد أن تجرب الامتحان؟
جلجاميش :
أجرب يا جدي (يتثاءب ويجلس على الأرض وسرعان ما يغيب في النوم) .
أوتنابشتيم (لزوجته) :
انظري إليه، إلى البطل الذي يريد الحياة الخالدة.
الزوجة (لنفسها وهي تتأمل النائم في وله صامت) :
ما أجمل وجهه!
أوتنابشتيم (في سخرية) :
وما أسرع ما لفه النوم كالضباب!
الزوجة :
المسه يا رجل، حركه ليصحو من نومه، ليرجع في سلام على الطريق الذي أتى منه، ليخرج من الباب الذي دخل منه، ليعود إلى وطنه.
أوتنابشتيم (لزوجته التي ما زالت مستغرقة في تأمل وجه جلجاميش) :
لا تأمني للبشر يا عزيزتي. البشر خادعون، وسوف يخدعك أنت أيضا.
الزوجة (بغير أن ترفع عينيها عن وجه النائم) :
ماذا تعني؟
أوتنابشتيم :
هيا يا زوجتي الخالدة، اخبزي له أرغفة، ضعيها عند رأسه، وكل يوم ينامه ضعي له علامة على الجدار. (تمضي الزوجة لخبز الأرغفة التي طلبها زوجها. تشجب الإضاءة ونرى ظلها يرسم علامات على الجدار بعدد الأرغفة التي خبزتها، والأيام التي نامها جلجاميش، وعندما ترسم الزوجة العلامة السابعة على الجدار يمد أوتنابشتيم يده ويلمس جلجاميش الذي يفزع من نومه.)
جلجاميش :
من؟ ما هذا؟
أوتنابشتيم :
استيقظ أيها الخالد الذي قاوم الموت!
جلجاميش :
لم يكد النوم ينسكب علي حتى لمستني وأفزعتني.
أوتنابشتيم :
انهض يا جلجاميش. انهض لتعد الأرغفة التي خبزتها لك زوجتي. إن عدد العلامات التي رسمتها على الحائط يخبرك بعدد الأيام التي نمتها.
جلجاميش (وهو يمسح وجهه) :
الأيام التي نمتها؟ يا لهذا الحلم العجيب!
أوتنابشتيم :
وقد صحوت الآن منه.
جلجاميش :
لم يستغرق لحظة واحدة.
أوتنابشتيم :
الأرغفة تقول شيئا آخر.
جلجاميش :
الأرغفة؟ (يتطلع في وجه الزوجة التي تنظر إليه في حنان وهي تهز رأسها موافقة.)
جلجاميش :
وماذا تقول الأرغفة؟
أوتنابشتيم (شامتا) :
تقول إنك نمت ستة أيام وسبع ليال.
الزوجة (في حزن) :
ولم تستطع أن تقاوم النوم.
أوتنابشتيم :
فكيف إذن تقاوم الموت؟ انظر إليها بنفسك. الرغيف الأول قد تيبس، والثاني تغضن، والثالث لم يزل رطبا، والرابع أبيض، والخامس حال لونه، والسادس قد خبز لتوه، أما السابع ... (يضحك ويواصل ضحكه طوال الحوار الدائر بين زوجته وجلجاميش.)
الزوجة :
فقد صحوت من نومك وهو على الجمر!
جلجاميش :
ما أشقاني! ما أتعس حظي! كم كان الحلم جميلا!
الزوجة :
والحلم تبدد يا جلجاميش.
جلجاميش :
آه! داهمني اللص كما داهم إنكيدو الطيب.
الزوجة :
استيقظ يا جلجاميش.
جلجاميش :
من نومي أم من موتي؟
آه! سأصير ترابا مثله.
سأصير ترابا، طينا من طين الأرض. (يبكي ثم يجفف دموعه ويحدق في وجه أوتنابشتيم ويقول):
ماذا أفعل يا أوتنابشتيم؟
إلى أين أوجه وجهي؟
اللص تسلل في الليل، تمكن مني.
طوق جنبي وأعضائي.
في مرقدي ينام الموت.
وأنى رحت وأنى جئت
وجدت الموت إزائي.
الزوجة (وهي تنحني عليه وتأخذ بيده) :
انهض يا جلجاميش.
جلجاميش (يائسا) :
تبدد الحلم. استيقظ من النوم. أليس هذا ما تريدين قوله؟
الزوجة (وهي تضغط على يده في حنان) :
لم يعد لدي شيء أقوله.
جلجاميش :
لا شيء أبدا؟
الزوجة :
عندما ترجع إلى أوروك، تذكر ما قلته لك.
أوتنابشتيم (صائحا) :
إلى أوروك، إلى أوروك يا أورشنابي! يا أورشنابي!
جلجاميش (لنفسه) :
أنت كذلك يا جدي الخالد، يا جدي النائي.
أنت كذلك ترفض أن تؤويني.
آه! ماذا أفعل؟
وإلى أين أوجه وجهي؟
من سيرد إلي يقيني ؟
هل هذا هو آخر سعيي
ونهاية شوقي وحنيني؟
ألتمس حياة وخلودا
والموت أمامي وورائي؟
أوتنابشتيم (صائحا) :
أورشنابي. يا أورشنابي.
أورشنابي (يظهر مترددا) :
سيدي.
أوتنابشتيم :
طلبت منك أن تنتظر تعليماتي وأوامري.
أورشنابي :
وطردتني من خدمتك قائلا: فليبرأ منك شاطئ البحر الذي مشيت عليه ، ولينبذك المعبر والمرفأ.
أوتنابشتيم :
وليكن آخر عمل تقوم به.
أورشنابي :
أن أعود بآخر إنسان فان تطأ قدماه أرض الخلود إلى وطنه. فهمت يا سيدي.
أوتنابشتيم :
لم تفهم كل شيء. عليك أولا أن تنظف جسده من الأوساخ التي تغطيه، وتلقي بجلود الحيوان التي شوهت جمال أعضائه في البحر. خذه إلى مكان الغسل وطهره ليصبح كالثلج. استبدل بعصابة رأسه أخرى جديدة. ضع عليه ثوبا يستر عريه. وليبق الثوب جديدا حتى يصل إلى مدينته، حتى يجد طريقه.
أورشنابي (لجلجاميش الذي يقف مذهولا في مكانه) :
هيا يا جلجاميش.
جلجاميش :
ماذا تريد؟
أورشنابي :
هيا إلى الماء.
جلجاميش :
لنعبر بحر الموت من جديد.
أورشنابي :
بجسد جديد وثوب جديد! سأزيل عنه الأوساخ وأنفض عنه جلد الحيوان، سأطهره حتى يصبح كالثلج.
جلجاميش :
أهذا ما يريده جدي الخالد؟ أهذا هو نصيبي من الخلود؟
أورشنابي :
ولم لا؟ أن يتطهر الجسد فيصبح كالشج، أن يظهر في جماله الإلهي ويرفل في ثوب رائع.
جلجاميش (وهو يمضي معه) :
ما الفائدة يا أورشنابي؟ إذا كان الدود سيسقط من أنفه، إذا كان الثوب سيبلى. آه يا إنكيدو! أنت أيضا كان لك جسد إلهي.
أورشنابي :
ما لنا الآن ولإنكيدو؟ قلت هيا إلى الماء. (يخرجان. ينحسر عنهما الضوء ويسلط على الزوجة التي كانت تراقبهما حتى صعدا إلى السفينة وبدءا يستعدان للإبحار.)
الزوجة :
أوتنابشتيم! يا أوتنابشتيم الخالد! (أوتنابشتيم صامت يتطلع إلى البحر.)
الزوجة :
لقد دفعا السفينة فوق الأمواج. ها هما يصعدان إليها، جلجاميش يمسك مجدافا ويحركه في الماء. ألا تريد أن تقول له شيئا؟ (أوتنابشتيم يواصل صمته.)
الزوجة :
لقد أتعب جلجاميش نفسه حتى وصل إلينا. هل ستتركه يرجع صفر اليدين؟
ألا تعطيه شيئا يعود به إلى بلده وشعبه؟
أوتنابشتيم :
وماذا عندي أعطيه؟
الزوجة :
أعطه أملا، وعدا .
أوتنابشتيم :
أمل؟ وعد؟ ماذا تقصدين؟
الزوجة :
أقصد ما يدور في بالك.
أوتنابشتيم :
أتريدين أن أفشي السر؟
الزوجة :
ما المانع إن كان سر الأمل الذي لا يتحقق، سر الوعد الذي لا يتم؟
أوتنابشتيم :
النبتة! تريدين أن أبوح بسر النبتة؟
الزوجة :
ولن أطلب شيئا بعدها.
أوتنابشتيم :
حتى لو ضاعت منه؟
الزوجة :
يكفي أن يؤلمه شوكها. أرجوك يا أوتنابشتيم (تنظر إليه طويلا) .
أوتنابشتيم (ينادي بصوت عال) :
جلجاميش! يا جلجاميش! (يدفع جلجاميش السفينة إلى الشاطئ. يخاطبه أوتنابشتيم بحيث نسمع صوته ولا نراه.)
سأكشف لك عن أمر خبيء. سأطلعك على سر خفي.
صوت جلجاميش :
سر آخر من أسرار الآلهة؟
أوتنابشتيم :
نعم يا جلجاميش. هنالك نبتة تشبه الشوك. هي كالوردة يخز شوكها يدك، فإذا وصلت إليها يداك وجدت الحياة.
جلجاميش :
الحياة الخالدة يا جدي؟
أوتنابشتيم :
فتش عنها في أعماق مياه البحر العذبة. احملها معك إلى أوروك.
جلجاميش :
هل أغرسها في أرض بلادي؟
أوتنابشتيم :
أطعم منها الشيخ فيرتد إليه شبابه.
جلجاميش :
الشباب الأبدي يا جدي؟
أوتنابشتيم :
اذهب يا جلجاميش.
جلجاميش :
أهذا هو الخلود يا أوتنابشتيم؟ (أوتنابشتيم لا يرد.)
جلجاميش :
أهذا هو الخلود؟
أورشنابي :
هيا يا جلجاميش.
جلجاميش (فرحا) :
هيا نغص في الماء، في عمق الوجود،
بحثا عن النبتة؛ نبتة الخلود.
فإنه الخلود! وإنه الخلود! (يخفت صوته بالتدريج. إظلام.)
الفصل التاسع
ضياع النبتة والعودة إلى أوروك
الراوية :
فرح جلجاميش فرحة الطفل اليتيم بهدية جده الحكيم. لم يكد يسمع منه كلمة السر حتى انتفضت شجرته الذابلة بالربيع القادم، واهتز على فرعها طير الأمل الباسم، وها هو يطير بهذا الأمل إلى أوروك. (صوت جلجاميش) : انظروا يا شيوخ أوروك وشبابها، لم يضع العمر هباء، لم تكن الرحلة عبثا. ها هي ذي بين يديكم، عدت إليكم بالأبدية! ها هي ذي النبتة يأكل منها الشيخ العاجز فترد إليه شبابه، يذوقها الشاب اليافع فيسكن البطل إهابه. إنه الأمل يا شعب أوروك. إنه الوعد يا مدينة الأسوار والأسواق والأبراج.
انحدرت السفينة بجلجاميش وأورشنابي إلى مياه «الآبسو» العميقة، بعد عشرين ساعة مضاعفة من السفر في بحر الموت لاحت السدود التي تفصل الماء العذب عن الماء الملح، وتراءت القنوات التي تصل إلى الأعماق. أوقفا السفينة عند الحاجز، نزل جلجاميش ففتح السد وحفر قناة. ربط قدميه بحجرين ثقيلين وغاص في الماء.
1
هنالك وجد النبتة العجيبة. مد ذراعه نحوها فخز الشوك يده. صعد إلى سطح الماء وسبقته يده القابضة على الإكسير المعجز. هتف بأورشنابي والدم ينزف من كفه: النبتة يا أورشنابي. أملي في الأبدية. أمل أوروك وحلم الشعب.
مد أورشنابي ذراعه وساعده على الصعود إلى السفينة. لم ينطق بكلمة واحدة، لم ينظر إلى اليد التي تقبض على النبتة، لم يهتم بالفرحة التي أضأت وجه البطل. فتح جلجاميش فمه وقال:
جلجاميش :
هل تعرف اسم هذه النبتة؟
أورشنابي :
لا. لا أعرفه.
جلجاميش :
اسمها الشيخ الهرم يرد إليه شبابه. انظر.
أورشنابي :
لست في حاجة إليها.
جلجاميش (ضاحكا) :
لا بد أنك شاب برغم الثلج على رأسك.
أورشنابي :
وشبابي أبدي في كل لحظة.
جلجاميش (تزداد ضحكاته) :
سمعت أنها تقضي على القلق،
2
حتى أمي الحكيمة لا تعرف هذا.
أورشنابي :
وما دخل أمك في هذا؟
جلجاميش :
لأنها تناديني على الدوام بقولها يا ولدي القلق المضطرب الحائر.
أورشنابي :
أتظن أنها ستناديك باسم آخر؟
جلجاميش :
بعد أن يزول القلق والاضطراب إلى الأبد وأحصل على الشباب والخلود؟
أورشنابي :
تحصل على الشباب والخلود؟ أنت وحدك؟
جلجاميش :
طبعا لن أستأثر به. سيأكل منها الشيوخ والشباب. سأقدمها لهم قبل أن يذوقها لساني ويلمسها فمي. ليتني أستطيع أن أفرقها على الأرض والنبات والطير والحيوان! ليت كل شيء وكل مخلوق في أوروك يسترد الشباب الأبدي! ألا تحس الأمل الرائع يا أورشنابي؟! ألا تراه؟!
أورشنابي :
لا. لا أحسه، ولا أراه.
جلجاميش :
ما أغربك! ولا تشتاق لأن تأكل منها؟
أورشنابي :
ما دمت لا أحتاج إليها.
جلجاميش :
ولا إلى الأمل في الشباب الأبدي؟
أورشنابي :
هل آمل في شيء أعيشه كل لحظة؟
جلجاميش (ضاحكا) :
تعيشه كل لحظة يا أورشنابي؟! رغم طردك من الشاطئ والمرفأ؟ رغم نفيك من جزيرة الحياة والخلود؟
أورشنابي :
أو بسببها يا جلجاميش. هيا نواصل طريقنا إلى أوروك.
جلجاميش :
إذن فالأمل يحركك إليها.
أورشنابي :
وإلى وعدك لي. هل نسيت؟
جلجاميش :
لم أنس شيئا. البيت والزوجة والبستان في حدائق أوروك. هيا يا ملاح بحار الموت الأبدي.
أورشنابي :
لكن بسفينة الحياة الأبدية. هيا. هيا.
الراوية :
مضت بهما السفينة ساعات وساعات ؛ فبعد عشرين ساعة مضاعفة تناولا شيئا من الزاد، وبعد عشرين ساعة أخرى أسلما عيونهما للنوم بعد أن أضر بهما لفح الشمس والريح، ولمح جلجاميش اليابسة على البعد فوجها الدفة والمجاديف إلى الشاطئ، ودقق جلجاميش النظر فرأى نبعا يتدفق منه الماء. رسيا بالسفينة على البر ونزلا منها. لمس جلجاميش الماء وذاقه، فإذا هو ماء عذب بارد. خلع ملابسه ليغتسل وينعش جسده المضنى، بينما أخذ أورشنابي يجوب الشاطئ المقفر بحثا عن شجرة خضراء أو بشر حي. كان جلجاميش قد ترك النبتة على الشاطئ مع ما ترك من ثيابه، وشمت حية عبق الرائحة الزكية، فتسللت من النبع الذي كانت تشرب منه والتهمت النبتة. وقبل أن ترجع للنبع الذي فيه جلجاميش كانت قد غيرت جلدها الذي انسلخ عنها بجلد جديد. لمحها جلجاميش فجرى وراءها وهو يصرخ من هول جريمتها الشنعاء. رجع إلى ثيابه فلم يعثر للنبتة على أثر. ارتفع صوته بالبكاء وجرت الدموع على وجهه. هتف بأورشنابي الذي وقف على رأسه وعلى فمه ابتسامة لم تلاحظها عيون جلجاميش المبتلة:
صوت جلجاميش :
أورشنابي! يا أورشنابي!
ضاعت مني النبتة،
والتهمتها الحية.
يا أوتنابشتيم الخالد!
يا ساقية الحانة!
يا روح صديقي الطيب!
ضاعت منى النبتة،
والتهمتها الحية.
أورشنابي! يا أورشنابي!
لمن أضنيت يديا؟
لماذا نزف القلب دماه؟
آه! لم أجن لنفسي شيا.
ضاع الأبد على أوروك
وضاع عليا.
النبتة أكلتها الحية.
نفضت جلد الشيخوخة
ورمته إليا.
آه! ماذا بقي لديا؟
طار الأمل وتاه،
وهجر الحلم يديا.
أورشنابي! يا أورشنابي!
ماذا أفعل؟
ولمن أضنيت يديا،
ونزف القلب دماه؟
أتراني رحت وجئت،
شقيت تعبت؟
لكي يسرقني أسد الترب،
3
لكي ينتصر عليا؟
آه! ضاع العمر سدى.
لم أكسب شيا
صوت أورشنابي :
ليتنا لم نرس على الشاطئ!
صوت جلجاميش :
بل ليتنا نترك السفينة عليه ونمشي على أقدامنا.
الراوية :
واستأنفا السير بعد أن جفف جلجاميش دموعه، لا ندرى ماذا جرى بينهما من حديث، ولا ماذا فعلا قبل أن تلوح لأنظارهما أبراج أوروك العالية. ربما يكون جلجاميش قد طوى حزنه في صدره، وأطرق برأسه طوال الطريق ولم يفتح فمه بكلمة، وربما يكون أورشنابي قد سخر منه في نفسه وحول وجهه عنه أثناء الرحلة لكيلا يرى ابتسامته العذبة أو المرة، أو ذكره بوعوده التي بذلها له عن البيت والزوجة والبستان الصغير في أحضان أوروك. لا ندري؛ لأن كاتب الملحمة لا يشرح ولا يحلل شيئا، ولا يدخل في حنايا العقل والضمير.
فكل ما يقوله بعد هذه الفاجعة لا يتعدى سطورا قليلة يضع فيها نهاية سريعة لملحمته، ومن هذه السطور نفهم أنهما قطعا في سيرهما عشرين ساعة مضاعفة تناولا بعدها شيئا من الزاد، وبعد عشرين ساعة أخرى أخذ التعب منهما فأخلدا للراحة عند حلول المساء. ولا بد أن جلجاميش قد نسي جرحه عندما لاحت له أسوار أوروك المنيعة، وتذكر مجده السالف وعمله الخارق، فجرى نحوها فرحا فرحة الطفل العائد لأبويه وهو يهتف بهذه العبارات التي ختم بها الكاتب الملحمة كما بدأها بها:
أورشنابي!
انظر يا أورشنابي الملاح.
اعل السور.
تمش عليه.
تفحص صنعة آجره،
والمس قاعدته.
أوليس الحكماء السبعة
4
من أرسوا أسسه؟
انظر للإفريز المعجب،
يتوهج بنحاس
يسطح كالنجم الأشهب.
اعل السور.
تمش عليه،
ومد الطرف إلى الأفق الأرحب.
هذا ثلث يشغله بستان النخل،
وثلث آخر للمرج وحوض النهر،
وثلث لأوروك الساحة والمسكن
والمعبد والملعب.
يا أورشنابي الملاح،
تفحص قاعدة السور.
تلمس واعجب.
الراوية :
هذه هي النهاية التي وضعها كاتب الملحمة أو كتابها المجهولون، وهي نهاية سعيدة تتفق مع البداية كما رأيتم من قبل، وتنطوي على الإشادة بالعمل والبناء الحضاري، ولكننا يمكن أن نفترض نهايتين أخريين، كانت أولاهما مفاجأة قاسية لجلجاميش. (يندفع جلجاميش نحو السور ويغيب شبحه بين ظلاله الشاحبة التي تخيم على عمق المسرح في أقصى اليسار. يقف أورشنابي مترددا لحظات، ثم يتفحص المكان مستطلعا السور والأبواب أو ما بقي منهما، وآثار الأبراج والمعابد والبيوت التي تبدو من بعيد في سواد نسوة عجائز تكومن في مأتم كبير.)
الشيوخ (وهم يشيرون إلى جلجاميش ويقولون في سخرية مرة) :
آه! جلجاميش غاب وعاد.
لكن البطل العائد لم يعلم بعد
بأن السور تهدم،
والمعبد والبرج تحطم،
والمرج هشيم ورماد،
والساحة والملعب مأتم.
انقضت كيش وأور
على أوروك،
فغرقت في بحر الدم.
والمجد السالف
شب حريق فيه
فلم يبق سوى الطلل الأبكم.
الراوية :
غير صحيح. هذا شيء لم تذكره الملحمة ولم ...
الشيوخ (مشيرين إليه أن يسكت) :
انظر تجد البطل العائد،
كالبومة فوق الأطلال تحوم،
أذهله اليأس فصار
كحجر أخرس أبكم.
ويلي من هذا الشبح الهائم
بين الأشباح يئن
أنين الطفل الضائع،
يبحث عن أبويه
ولا يجد الحرف ولا الكلمة والاسم.
ويلي من هذا البطل العائد،
للوطن البائد،
لا يملك أن يفعل شيئا،
لا يقدر حتى أن يندم.
انظر عما يفتش،
ماذا يبحث عنه؟
الراوية :
عن حجر سجل فيه بطولته،
أو لوح ...
الشيوخ :
اللوح تفتت والنقش تهشم.
لم يبق من المجد الكاذب
حرف يمكنه أن يتكلم.
الراوية :
غير صحيح بالمرة؛ فالملحمة تقول ...
الشيوخ :
لتقل ما شاءت،
أو ما شاء الكهنة والكتاب.
انظر أنت إلى البطل العائد
يتردد حول الأبواب،
يدور يدور على الأعتاب،
وينظر للسور
ولكن السور خراب.
ها هو يبحث عن بلد
كانت تدعى أوروك
وأوروك اليوم تراب.
انظر للبطل الكامل
والملك العادل.
الراوية :
بل أتعاطف معه،
ولن أتركك تدينه.
ها هو يتقدم منا
والخطوات حزينة.
يبغي أن يتكلم
لكن الكلمات ضنينة.
جلجاميش :
أورشنابي! يا أورشنابي!
الراوية :
ها هو يهتف.
الشيوخ :
من يسمعه في مقبرة
كانت بالأمس مدينة؟
جلجاميش :
أين أنت يا أورشنابي؟
أورشنابي :
أبحث مثلك يا جلجاميش.
جلجاميش :
لا أحد. لا صوت ولا حركة. لا بشر ولا أهل. هل غبت وتعبت لكي أجد العدم في انتظاري؟
أورشنابي :
وأنا؟ ماذا أقول أنا؟ لا زوجة ولا بيت. لا حياة ولا زمن. هل طردت من جنة الخلود الممل إلى جنة الملل الخالد؟
جلجاميش :
اسخر ما شئت يا أورشنابي. لا تقل شيئا. الأفضل أن تجيب عن سؤالي: ماذا أفعل؟
أورشنابي :
ما فعلته دائما، تجلس وتبكي.
جلجاميش :
أجل يا أورشنابي. أبكي شعبا لم أجده في استقبالي، أما كنت أظنها في انتظاري، شبابا وشيوخا كنت أريد أن يأكلوا من نبتة الخلود.
أورشنابي :
وأكلها أسد التراب وجدد شبابه.
جلجاميش :
آه يا أورشنابي! ضاعت النبتة! ضاع الخلود! ضاعت أوروك وضاع الحلم! لمن أتعبت يدي؟
أورشنابي :
لماذا نزف القلب دماه؟
ضاع العمر سدى.
جلجاميش :
لم أكسب شيا
ضاع الأمل وتاه. (يجلس ويبكي. أورشنابي ينظر إليه مبتسما.)
الراوية (يقاطعهما) :
لا، لم يضع شيء، لا يمكن أن يضيع كل شيء.
الشيوخ :
أوما زلت تدافع عنه؟
الراوية :
ولن أتركك تدينه.
الشيوخ :
فلماذا جئت؟ لماذا جئنا من أعماق الماضي؟
دارت كل الأحداث أمامك
فكن الشاهد وكن القاضي.
الراوية :
لم أشهد في الملحمة خراب السور،
ولم أقرأ عن هجمة كيش أو أور.
الشيوخ :
نحن شهدنا المحنة.
كنا بعض ضحاياها.
لما احترقت أوروك
وغرقت في بحر دماها،
وتكدست الجثث على الطرقات
وكنا من قتلاها.
الراوية :
لم أقرأ هذا في الملحمة.
الشيوخ :
رجعت إلى الملحمة،
وهل نسج الشعراء مؤكد؟
ماذا تتوقع لقطيع
يتركه الراعي المسئول
ويمعن في الغربة عنه ويبعد؟
يترك للوهم قياد العقل،
ويرجع صفر اليد،
لا أمل لديه ولا وعد؟
الشعب تفرق، والبيت تشقق،
واللحم تمزق.
ضاع الحلم وضاع المجد.
الراوية :
ولماذا اغترب البطل؟
الشيوخ :
البطل أمامك فاسأله أنت.
اغترب ليهرب من قدر البشر
وقدر البشر هو الموت.
الراوية :
بل ليكشف عن سر الحياة وسر الموت. ليضمن لكم الحياة ويحميكم من الموت.
الشيوخ :
ليت البطل الحالم
فتش في قلب الشعب عن السر!
ليت البطل المغرور الظالم
لم يغتر!
الراوية :
هل أصبح البحث عن سر الحياة ظلما؟ هل أصبح البحث عن سر الموت غرورا؟
الشيوخ :
موت الناس طوال الوقت؟
جثث القتلى في أوروك - ليلة موكبه الظافر
لما أن صرع الثور -
وجثث الغرقى فوق مياه النهر؟
والموت الناطق في وجه الثكلى
والأرملة،
وموت يتيم عذبه الغدر،
وأضناه الدهر؟
هل طاف بعقل البطل الحالم
هذا الموت؟
قلنا يا جلجاميش
ليتك تنظر تحت القدمين
لتجد السر.
ليتك تبحث في قلب الشعب
عن السر.
ليتك لا تدع قطيعك
في فك الذئب أو النمر.
أغلق باب السمع عليه
وها هو يرجع كي يبكي العمر.
آه! لو أخذ بيد أوروك
وداوى الجرح
لقلم أظفار الموت.
لو بسط ظلال العدل على أوروك
لقلم أظفار الموت.
لو عرف بأن القهر
وأن الجوع وأن الذل هو الموت!
الراوية :
تسرعت في الحكم عليه.
الشيوخ :
أسرع مني كان خراب الدار
وكان الموت.
الراوية :
لم تذكر الملحمة شيئا مما قلت.
الشيوخ :
هل شهد الشاعر ما شاهدت؟
هل قاسى الشاعر
ما قاساه الشعب الحائر
في أوروك وما قاسيت؟
الراوية :
ليس لدينا دليل على ما تقول.
الشيوخ :
هل يعني هذا تأجيل الحكم؟
الراوية :
حتى ننظر في بقية القرائن والأدلة والشهود.
الشيوخ :
ماذا تقصد بأدلتك؟
شهودك من هم؟
الراوية :
هم العلماء والأدباء الذين يقدمون التفسيرات المختلفة لنهاية جلجاميش بعد عودته إلى أوروك. لا تنس أيضا.
الشيوخ :
ماذا أذكر أو ماذا أنسى؟
أهو الواقع ما نشهده
أم هو حلم؟
وسقوط المدن
وموت البشر
وطغيان الظلم،
ألا يكفي لصدور الحكم؟
الراوية :
يكفي كي نتريث في الحكم.
يا جلجاميش قم (لا يتحرك).
أورشنابي :
قم يا جلجاميش. ماذا تنتظر؟ (جلجاميش لا يتحرك. يقترب منه)
تعال نبحث عن حظنا في الصحراء، أو نتسول لقمتنا من مدينة أخرى. (يمد يده ويلمس كتفه ويحركه، يهب جلجاميش واقفا ويتخبط حوله.)
جلجاميش :
افتح الباب. قلت افتح الأبواب السبعة كلها.
أورشنابي :
أبواب؟ ألا ترى الخراب حولك؟
جلجاميش :
افتح أبواب العالم السفلي. ألا تعرف جلجاميش؟
الملك الذي رأى كل شيء وعرف كل شيء؟
أورشنابي (ضاحكا يضرب كفا بكف) :
ومع ذلك لا يراني ولا يعرفني!
جلجاميش :
قلت افتح الأبواب لجلجاميش! أريد أن أبحث عن طبلتي وعصاي، لقد سقطا في عالمكم ونزل صديقي لإحضارهما ولم يرجع. أين طبلتي وعصاي؟ أين تاجي وصولجاني؟
أجبني يا إنكيدو! كلمني يا صديقي وأخي!
أورشنابي :
أنا الذي أكلمك يا جلجاميش. ماذا تريد؟
جلجاميش :
أريد أن أسألك عن قانون الأرض التي تعيش فيها.
أورشنابي :
لا أستطيع يا صديقي. لو أخبرتك لجلست على الأرض وبكيت، لقد قطعت الطريق الذي لا عودة منه، وأنت الآن في البيت الذي حرم سكانه من النور. غذاؤهم من التراب، وطعامهم من الطين، يجلسون في الظلام، يلبسون الريش ولهم أجنحة كالطيور.
جلجاميش :
لقد قرر الآلهة قدري، وقدري أن أكون نورا في ظلام هذا العالم. لم يترك أحد من البشر وراء أثرا يدل عليه كما تركت، لم يفعل أحد من الأبطال والحكماء ما فعلت.
أورشنابي :
ولكن أحدا لا يعرفك هنا.
جلجاميش :
كيف لا يعرفونني؟ أهناك من لا يعرف جلجاميش؟!
أورشنابي :
لا يعرفك أحد ولا ينتظرك أحد، لا في العالم السفلي ولا في أوروك. ارجع يا جلجاميش قبل أن تصيبك لعنة نرجال وزوجته المخيفة أريشكيجال. ارجع فعالمك ظلام.
جلجاميش :
أنا نور العالم. قلت هذا قدري الذي قسمته لي الآلهة.
أورشنابي :
وقدري أن أوقظك من النوم. استيقظ يا جلجاميش! افتح عينيك على الظلام الذي قدرته الآلهة علي وعليك! استيقظ! استيقظ!
جلجاميش (وقد رجع إلى نفسه وأخذ يتلفت حوله) :
هل يمكن ألا يعرفني أحد؟
أورشنابي :
ولا ينتظرنا أحد.
جلجاميش :
كل هذا الظلام؟ كل هذا الخراب؟
أورشنابي :
نعم. نعم. كل هذا الظلام. كل هذ الخراب. أليس الأفضل أن تذهب؟
جلجاميش :
تذهب؟ إلى أين؟
أورشنابي :
حقا. حقا. إلى أين؟
الراوية :
أتريد أن تذهب يا أورشنابي؟
أورشنابي :
أنت أيضا تسأل؟
الراوية :
وإلى أين؟ لسفينتك على شاطئ بحر الموت؟
أورشنابي :
أو للحانة، أو أي مكان حر؟
أجد حياتي فيه
وأشرب أشرب
حتى يسكرني السكر.
الراوية :
لن تنصرف. ستبدأ.
أورشنابي :
بعد نهايتنا في أوروك؟
الراوية :
قلت ستبدأ، ومن الصفر.
جلجاميش :
نبدأ ومن الصفر؟
الراوية :
فهنالك فرض آخر، يضع لملحمتك خاتمة أخرى، إما أن تتطهر أو تسقط في الدرك الأسفل من عالمك السفلي ولا تظهر.
أورشنابي :
بل نبدأ نبدأ.
هيا يا جلجاميش، ومن الصفر. (يأخذ بيد جلجاميش الذي يتبعه كالطفل. يتهيآن لإعادة المشهد وللعودة إلى أوروك من جديد.)
مسك الختام
الراوية :
بعد أن شهدنا النهاية السابقة، ورأينا كيف واجه جلجاميش العدم والخراب، واكتأب وبكى وأحس بالضياع والاغتراب؛ دعونا الآن نتابع نهاية أخرى، ونشاهد حلما ورديا ربما يبعث فينا شيئا من الأمل والتفاؤل، وربما يساعدنا - بعد أن نرجع إلى بيوتنا - على أن نحلم حلما سعيدا لم يزرنا طيفه من أمد بعيد. ولنتخيل أورشنابي وهو يلح على بطلنا اليائس بأن يكف عن البكاء وينهض من مجلسه ليستقبل الحياة الجديدة، ويدخل أوروك دخول البطل المنتظر، وإن لم يكن هو البطل المنتصر. لقد وصلا قبل قليل إلى أبواب أوروك، وجرى جلجاميش كما عرفنا نحو السور الذي أمر ببنائه قبل سنوات، وبقي موقع فخره وفخر حضارته لآلاف السنين من بعده. لمس قاعدته مع صاحبه وتفحص صنعة آجره، ومتع نظره بمشاهدة إفريزه النحاسي الذي يشع كالذهب الساطع في ضوء الشمس. لثم الأعتاب ومرت كفاه على الأبواب، وأرسل البصر إلى الزقورة والأبراج المرتفعة فوق معبد آنو المقدس ومزار عشتار إلهة الحب والخصب والحرب، وسيدة الآلهة الجميلة والجليلة. أقلقه وهو الملهوف على صيحات شعبه وطبول حرسه وأحضان أمه وحكمة شيوخه وقوة شبابه - أقلقه ألا يجد أحدا في استقباله، ولكن من كان يحسب اليوم الذي سيرجع فيه بعد الغيبة والغربة؟ من كان يتصور أن يعود فجأة بلا ضجيج؟
أخذ يتجول حول السور الحجري الهائل، وربما تفكر في الموضع الملائم الذي سيثبت فيه الحجر الذي سينقش عليه قصة أعماله وأتعابه ومغامراته، ولكن يبدو أنه راجع نفسه وكاشفها بأنه قد رجع كما سمعنا صفر اليدين، واكتأب كعادته، واصفر وجهه، وتغضن جبينه، وكسا الحزن قسماته.
ولهذا أقبل أورشنابي الملاح العجوز الذي كان قد أكمل جولته السريعة في المكان، وأحاط به إحاطة النسر النهم الجسور، أقبل عليه محاولا أن يبعد عنه شبح الضياع والاكتئاب. أليس كذلك يا أورشنابي الملامح؟
أورشنابي :
أجل. أجل.
حاولت أخفف عنه
حمول القلب المتعب،
وأرد البسمة
للوجه الشاحب،
وأعيد الخضرة
للروح المجدب.
يا جلجاميش لا تتلف نفسك،
لا تذرف دمعك،
كالطفل المذنب .
بعد قليل يحدوك الموكب،
ويغني الشعب.
تدخل أوروك،
العش الدافئ،
والقصر الهانئ.
تحضنك الأم
مع الزوجة والأب والجد الطيب.
بعد قليل تجد جواريك وخدمك،
وتضاء شموع الحب.
هل تتذكر وعدك،
بالبيت الهادئ،
والعش الدافئ،
والبستان العامر،
بالنخل أو العنب الرطب؟
قم يا جلجاميش
وافرح بالأمل العذب.
الراوية :
لكن جلجاميش لا يستطيع أن يتخلص من حزنه ولا حلمه؛ فهو يتطلع إليه والدموع تملأ عينيه، ويفتح فمه ليقول:
جلجاميش :
آه! تتحدث يا أورشنابي
عن أمل عذب،
لكن ضاع الأمل وتاه،
وهجر الحلم يديا.
قل لي ماذا أفعل
ولمن أضنيت يديا
ونزف القلب دماه؟
وإذا جاء الشعب
ورحب بالبطل العائد
ماذا بقي لأعطيه؟
ماذا بقي لديا؟
أورشنابي (يمسك بيده ويساعده على النهوض) :
ويلك يا جلجاميش؟ أبعد هذه الصحبة الطويلة لم تتعلم مني الرقص على الجمر؟
جلجاميش :
ماذا تقصد بالرقص على الجمر؟
أورشنابي :
أن تبتهج وتفرح وتصيح وتهتف رغم الجرح النازف بالدم.
جلجاميش :
لا تذكرني بالنبتة الضائعة. لقد ضاع معها كل شيء.
أورشنابي :
الضائعة! الضائعة! أليس لديك غير هذه الكلمة؟ لم يضع شيء يا جلجاميش. لا يمكن أن يضيع كل شيء. ما زلت حيا. ما زالت الأبدية ...
جلجاميش :
الأبدية؟ وأنت الذي تقولها؟
أورشنابي :
نعم يا جلجاميش. هل نسيت ما قالته زوجة جدك الخامل؟ معذرة! جدك الخالد؟
جلجاميش :
وكيف أنسى اللغز الذي همست به في أذني؟
أورشنابي :
هيا إذن! ذكر نفسك به!
جلجاميش :
أجل. أجل. لن أنسى غضبي وسخطي وأنا ألعن أبدية بلا حياة وحياة بلا أبدية.
أورشنابي :
وماذا قالت لك؟
جلجاميش :
ربما تجد الحياة والأبدية معا عندما ترجع إلى أوروك.
أورشنابي :
حقا يا أورشنابي! لكن قل لي كيف.
أورشنابي :
أقول ... أقول؟ هذا شيء لا يقال!
جلجاميش :
شيء لا يقال؟
أورشنابي :
ألا ترى معي؟
أنظر إلى يديك؟ إنه شيء يتم بالعمل.
جلجاميش :
أي عمل؟
أورشنابي :
اقتربت السفينة من الشاطئ. هذا هو ما يقوله أورشنابي الملاح، والآن انظر.
جلجاميش :
أنظر أم أعمل؟
أورشنابي :
ها هي أبواب أوروك تفتح على اتساعها، لا بد أنهم سمعوا أصواتنا عندما جرينا نحو السور.
جلجاميش :
نعم. نعم. الحراس مقبلون، وأفراد الشعب يتقاطرون واحدا بعد الآخر. إنهم يقبلون علينا ويلتفون حولنا. انظر يا أورشنابي. تكلم. قل شيئا.
أورشنابي :
ألم نتفق على التخلص من الكلام والقول؟
جلجاميش (وهو يتابع ببصره تدفق الناس على المكان) :
وها هم بعض الشيوخ يقتربون، أعرفهم من مجلس الحكماء، والشباب القوي الذي طالما حارب في صفوف جيشي، طالما حصن الجدران في سوري المشهور، والفعلة والصناع؛ الحدادون والبناءون والنحاتون والنحاسون والصاغة الذين نفذوا أوامري، وأبدعوا تمثال إنكيدو ورصعوه بالذهب واللازورد، والسحرة والعرافون والمنجمون والمعوذون، حتى الأجراء الفقراء، وزراع الحقول، حتى البستاني العجوز في قصري العظيم على ضفاف الفرات.
أورشنابي :
وهذه الكاهنة الجليلة التي تتوسط العذارى والنساء.
جلجاميش :
أورشنابي! إنها أمي!
أورشنابي :
نينسون الإلهية؟ نينسون الحكيمة؟
يجري جلجاميش نحوها ويغيب بين ذراعيها يقبلها. تبتل عيناه بالدموع بينما تحوطهما الجموع التي يتزايد عددها ويتطلعون نحوهما في خشوع وهم يرددون:
أصوات الجموع :
جلجاميش!
جلجاميش!
مرحى! مرحى!
بالبطل العائد،
لحماه الصامد.
مرحى بالقائد،
والنجم الرائد،
للشعب الواحد.
بالملك الكامل،
والراعي العادل.
بالثور الناطح،
والأسد الكاسح،
لعدو حاقد.
مرحى بالعائد،
لحماه الصامد.
نينسون (همسا وهي تمسك بيده) :
مرحى يا جلجاميش!
جلجاميش :
أمي.
نينسون :
مرحى بالقلق الحائر!
جلجاميش :
ما زلت كذلك يا أمي؟
نينسون :
ولماذا يا ولدي؟ وكل هؤلاء البشر من حولك؟
جلجاميش :
أعرف الآن أنني واحد منهم.
نينسون :
كانت أمنيتي أن تعرف هذا.
جلجاميش :
أعرفه الآن وأعترف به.
نينسون :
وما العجب في هذا؟ بعد كل الأسفار والأخطار.
جلجاميش :
وبعد كل الضياع والتشرد والبحث عن الخلود.
نينسون :
الخلود؟ أما زلت تحلم بالحلم المستحيل؟
جلجاميش :
خشيت أن تلوميني لأنني أعود فارغ اليدين.
نينسون :
فارغ اليدين؟ وهذه القلوب التي تنبض بحبك؟ هذا السور وهذه المعابد والأبراج والحصون والبيوت والمروج والبساتين؟
جلجاميش :
كنت دائما الأم الحكيمة؛ الأم الإلهية.
نينسون :
الإلهية؟ ألست بشرا أمامك كما أنك بشر؟ كم حاولت أن أخبرك بهذا.
جلجاميش :
فهمت يا أمي، بعد أن ضاعت النبتة من يدي.
نينسون :
أية نبتة يا بني؟ عم تتكلم؟
جلجاميش :
إنها قصة طويلة يا أمي. أردت أن يأكل منها الشيوخ فيرجعوا لصباهم، أن يذوقها الشباب فيزدادوا قوة، أن أقسمها على أوروك ثم آخذ ما بقي منها.
نينسون :
لا أفهم شيئا يا جلجاميش.
جلجاميش :
لكنها ضاعت يا أمي، وضاعت معها الحياة والخلود.
نينسون :
ما زلت حيا يا ولدي، وهؤلاء ...
جلجاميش :
هل تذكرين ليلة مات إنكيدو؟ هل تذكرين بكائي عليه وتمزيق شعري وثيابي؟ خرجت من أوروك بحثا عن الخلود، خفت أن يحولني قدر البشر الذي أصاب صديقي إلى تراب. تعبت وقطعت الطرق الوعرة والجبال العالية والأنهار والبحار إلى جدي الخالد.
نينسون (مقاطعة) :
وها أنت قد عدت، وتطهرت.
جلجاميش :
ماذا قلت؟
نينسون :
أقول تطهرت يا ولدي. بكيت كثيرا وعرفت أنك بشر.
جلجاميش :
ولكن لم أتطهر بما يكفي.
نينسون :
وماذا تريد الآن يا ولدي؟ ألا تريد أن تدخل أوروك؟ أتترك هؤلاء ينتظرون؟
جلجاميش :
حتى أتطهر يا أمي، حتى أتطهر. (ينادي)
أيها الكهنة الأجلاء، يا كهان الرقى والتعاويذ، أنتم أيها السحرة والمعزمون والعرافون، تعالوا! تعالوا! (يقترب بعض الكهنة منه ويحنون رءوسهم أمامه)
إلي بروح حبيبي وصديقي وأخي.
الكهنة :
إنكيدو الطيب؟ وحش البرية؟ هل نستدعيها يا مولاي؟
نينسون :
تريد أن تستدعي روح إنكيدو؟ أهذا هو الوقت الملائم يا جلجاميش؟
جلجاميش :
نعم يا أمي، وقبل أن تطأ قدمي أرض أوروك الحبيبة لا بد أن أكلم روح حبيبي، لا بد أن أتأكد منه.
نينسون :
تكلمه وتتأكد منه؟ من ماذا يا ولدي؟
جلجاميش :
ربما أتطهر يا أمي، ربما أتطهر. هيا أيها الكهنة.
الكهنة :
لا بد من تقديم الأضاحي يا مولاي، لا بد من سكب السكائب على قبره.
جلجاميش :
وماذا تنتظرون؟ (ينصرف بعض الكهنة لإعداد مراسيم التضحية وشعائرها، بينما يتجه بعضهم الآخر إلى ركن على يسار المسرح ينحني عليه شبح لا نتبينه في الظلام.)
جلجاميش :
ما هذا؟ من هذه؟
أصوات :
إنه قبر إنكيدو، منذ أمرت بدفنه بجوار السور وهي تأتي لزيارته كل يوم.
جلجاميش :
من؟ (يتجه إلى القبر، يتبينها ويهتف)
شمخات!
شمخات (تجفف دموعها) :
جلجاميش! بطل الأبطال!
جلجاميش :
يعود بنفس طاهرة حرة.
ويجدد عهد الحب لصاحبه ويخلد ذكره.
شمخات :
جئت أخيرا لتجود عليه بنظرة؟ (تبكي.)
جلجاميش :
أنا أيضا يا شمخات
ذرفت عليه دموعي المرة.
شمخات :
انظر يا جلجاميش،
في هذا الركن ترى قبره.
أحضر كل صباح
كي أضع عليه زهرة.
أسكب من بحر الحزن عليه قطرة.
أورشنابي (يقترب منهما) :
عطشان، ولا أجد بهذا القفر الموحش قطرة.
جلجاميش :
أورشنابي؟ ملاح بحار الموت
وتشكو الظمأ.
أورشنابي :
لقطرة حب أو خمرة.
جلجاميش :
هذي شمخات.
أورشنابي :
كاهنة الحب؟
جلجاميش :
وسوف تقودك للنبع.
أورشنابي :
أعرفها من كلماتك، مما قلت.
شمخات :
تعرفني؟ كنت وكنت.
لم يبق لدي سوى الموت،
ولم يبق سوى الصمت.
أورشنابي :
مدي يدك! تعالي!
شمخات :
وإلى أين؟
أورشنابي :
أعبر بك بحر الموت،
وأمسح من عينيك الدمع.
جلجاميش :
سيري معه يا شمخات.
شمخات :
أمر مليكي، للمعبد أم للنبع؟
أورشنابي :
بل لك أنت؛
فأنت المعبد والنبع،
وأنت حياتي والموت.
جلجاميش (همسا في أذنه) :
وحلم الزوجة والبيت. (يضحكان وينصرفان يدا في يد. جلجاميش يتابعهما بعينيه حتى يغيبا عن بصره، ينكفئ على قبر إنكيدو ويناجيه):
جلجاميش :
إنكيدو! يا حبيبي وأخي إنكيدو! (يحيط به الكهنة والمعزمون وفي أيديهم المباخر والأضاحي وأوعية السكائب.)
صرت الكهنة :
لن يرد عليك.
جلجاميش :
أريد أن أراه وأسمعه.
صوت الكهنة :
لن ترى شبحه، ولن تسمع صوته، حتى تتطهر.
جلجاميش :
حتى ماذا؟ قولوا أيها الكهنة.
صوت الكهنة :
حتى تتطهر يا جلجاميش.
جلجاميش :
عدت إلى الأرض، إلى الناس، ألا يكفي هذا؟
صوت الكهنة :
لا. لا يكفي. إذا أردت أن تهبط لعالمه السفلي أو تصعد روحه إليك.
جلجاميش :
أريد أن أسأله عن مصيره ومصيري.
الصوت :
لا بد أن تخلع ثوبك النظيف.
جلجاميش :
ثوبي خلق من طين الأرض.
الصوت :
لا تتطيب بالزيت أو العطر.
جلجاميش :
هل تصعد مني إلا رائحة العرق من الجسد المتعب؟
الصوت :
لا تمسك في يدك هراوة، لا تأخذ معك الطبلة والتاج.
جلجاميش :
ها أنا صفر الكفين.
الصوت :
لا تضع حذاء في قدمك. لا تثر الضوضاء هناك.
لا تقبل المرأة التي أحببتها ولا الطفل الذي أحببت.
لا تضرب المرأة التي أغضبتك ولا الطفل الذي غضبت عليه.
جلجاميش :
لن أفعل شيئا من هذا.
الصوت :
حتى لا تطبق عليك صرخة الأرض، كما أطبقت عليها صرختك.
جلجاميش :
أقسم بالآلهة جميعا، لن ترتعش أمامي روح من أرواح الموتى.
الصوت :
حان الوقت لكي ترتعش أمامها.
جلجاميش :
ها أنا أرتعش وأنفض عني الذنب.
الصوت :
ردد معنا: يا ربة مملكة الموتى،
يا نرجال الجبار،
يا حراس الأبواب السبعة،
حلوا شبح الطيب إنكيدو!
فكوا عنه الأغلال!
دعوه يكلم جلجاميش!
ملك أوروك وسيد كلاب وبطل الأبطال.
جلجاميش :
بل صاحبه ورفيق الدرب.
الصوت :
بحق الآلهة جميعا،
آنو، إنليل، وشمش العادل،
وبحق آيا الطيب
راعي البشر
ورب الحكمة والماء العذب.
جلجاميش :
وبحقك يا نرجال،
خلص شبح صديقي
من أرض الرعب.
الصوت :
وافتح في الأرض الثقب
لتخرج.
جلجاميش :
وتطهر مني القلب. (يظهر الشبح. تدمدم الرياح والأصوات والأصداء. يتراجع الكهنة ويتقدم إليه جلجاميش ويعانقه.)
تكلم يا صديقي! كلمني عن قانون الأرض التي رأيتها.
الشبح :
لو أردت أن أكلمك عنه فلا بد أن تجلس وتبكي.
جلجاميش :
سأجلس أمامك وأبكي، كما فعلت دائما يا إنكيدو.
الشبح :
هل تذكر جسدي الذي كنت تلمسه فيفرح قلبك.
جلجاميش :
وبكيته ستة أيام وسبع ليال. لم أوافق على دفنه في التراب، ظننت أن بكائي عليه سيوقظك من نومك.
الشبح :
جسدي الآن تنهشه الحشرات كأنه ثوب بال. يشوهه العفن ويملؤه التراب.
جلجاميش :
يا ويلي! ها أنا أجلس وأبكي كما فعلت يوم موتك. ها أنا أمرغ رأسي في التراب حزنا عليك.
الشبح :
لم أقل لك هذا لتحزن ولا لتمرغ رأسك في التراب.
جلجاميش :
ولماذا تقوله؟
الشبح :
لكيلا تخاف الموت.
جلجاميش :
وماذا أخاف غيره؟ لما هجم الدود على وجهك وسقط من أنفك أصابني الرعب. اشتد علي الخوف من الموت فهمت في البرية. قطعت الطرق الوعرة والغابات وقدرك يرزح فوق الصدر. وصديقي، من أحببت كثيرا، صار ترابا.
الشبح :
ماذا في ذلك يا جلجاميش؟
جلجاميش :
قلت لنفسي: ألن أرقد مثله في التراب فلا أنهض أبدا؟ هل سيكون مصيري مثل مصيره ؟
الشبح :
ومضيت تبحث عن الخلود لنفسك.
جلجاميش :
لي ولك ولكل إنسان. صدقني يا إنكيدو.
الشبح :
ولم تذكر ما قلته لك؟
جلجاميش :
ماذا قلت يا إنكيدو؟ ومتى قلته؟
الشبح :
قبل دخول الغابة، حذرتك من قتل خمبابا وقلت:
أعطاك الرب القوة يا جلجاميش وحباك الملك.
أعطاك النصر الرائع في الحرب
لتحل أمور الناس وتعقدها،
وتكون ظلام العالم أو نوره،
لكن لم يعطك ما أعطاه الآلهة وحسب.
جلجاميش :
كنت أعرف هذا. قلته بنفسي مرارا.
الشبح :
ولم يمنعك من البحث عن الخلود.
جلجاميش :
حتى ضيعت النبتة ففهمت.
الشبح :
ليتك كنت تطهرت!
جلجاميش :
ماذا تقصد يا إنكيدو؟
الشبح :
تصورت أن القتل هو الخلود، أن قتل المارد خمبابا
وثور السماء يمكن أن يخلد اسمك فوق الحجر.
جلجاميش :
ألم يكن القضاء على الشر نوعا من الخلود؟ ألم تتحسر على نفسك لأنك مت في فراشك ولم تمت على أرض المعركة؟
الشبح :
نعم يا جلجاميش، لكنني عرفت وتطهرت.
جلجاميش :
كيف يا صديقي؟ تكلم يا أخي.
إنكيدو :
آه! أوشك الديك أن يصيح، ضاق الوقت عن الكلام عن الخلود.
جلجاميش :
أرجوك تكلم! إني أبحث عنه.
إنكيدو :
الخلود تصنعه أنت.
جلجاميش :
ويلي! أتكرر ما قالوه؛ سيدوري، زوجة أوتنابشتيم الخالد، أورشنابي.
إنكيدو :
أجل يا جلجاميش. الخلود تصنعه بيديك. (يتلاشى الشبح بالتدريج.)
جلجاميش :
انتظر. أريد حل اللغز الحائر. لا أريد أن أخرج من ليل حياة بلا خلود، إلى سجن خلود بلا حياة!
إنكيدو :
أجل. أجل. تصنعه أنت بعقلك ويديك.
جلجاميش :
أصنعه بيدي؟ ماذا أصنع؟ ومتى؟ كيف؟
إنكيدو :
في اللحظة يا جلجاميش.
جلجاميش :
أوضح. أوضح.
إنكيدو :
آه! انظر تحت القدمين وفي قلب الشعب. انظر تحت القدمين وفي قلب الشعب. (يتلاشى الشبح تماما ويغيب صوته. يبقى في جلسته مطرقا برأسه، وفجأة ينثر عليها حفنة من تراب الأرض، ثم ينهض فاتحا ذراعيه لكل المحيطين به وينادي بصوت هادئ مطمئن) :
الآن عرفت.
وتطهر مني العقل مع القلب.
يا شعب أوروك الطيب،
هيا نبتدئ السير على هذا الدرب.
اللحظة تهتف
والأرض تنادي
فيجيب الحاكم والشعب.
نينسون :
ولدي! يا ولدي المضطرب القلب! (يشير جلجاميش للجميع فيتحركون في اتجاه البوابة المفتوحة. تنضم إليهم نينسون الحكيمة ويغيبون وراء السور. يتخلف الراوية وجوقة الشيوخ.)
الراوية والشيوخ (منادين على جلجاميش وهو على وشك الدخول من البوابة الضخمة) :
قف يا جلجاميش! مهلا!
لا تتركنا في ليل الحيرة ،
كالمارد فر إلى القمقم
لم نعرف سره،
أو كالفخار أدار العجلة والدولاب
ولكن كسر الجرة.
أتراك رجعت لتجد الموت أمامك
يقضى في بلدك أمره،
كرجوع اليائس يحفر بيديه قبره؟
وضللت طريقك في التيه،
وضيعت المعنى والفكرة؟
أم أنك عدت لتتطهر
من كل ذنوبك
تبني أوروك العادلة الحرة؟
جلجاميش :
أنا جلجاميش
عدت ومن أعمق أعماق الماضي،
مثلت الدور أمامك
مع أصحابي،
فكن الشاهد وكن القاضي.
أنا جلجاميش من بابل،
لكن رغم ركام السنوات،
ومر المحن عليكم والنكبات،
فما زلت أعيش وأتنفس فيكم،
ناري تتأجج تحت ثراكم،
يمكن أن تحرق حاضركم، مستقبلكم،
والأمر يعود إليكم أنتم؛
أن أرجع كي أحكم بدوي الطبل،
وأجعل منكم جيش السخرة والذل،
أو أزرع زهرة أمل معكم
ونقيم سويا بيت الحرية والعدل.
الراوية والشيوخ :
الأمر يعود إلينا نحن؟
جلجاميش (يتردد صوته المضخم أثناء دخوله من البوابة) :
يعود إليكم أنتم؛
أن أحكم بدوي الطبل،
وأجعل منكم
جيش السخرة والذل،
أو أزرع معكم زهرة أمل،
ونقيم سويا
بيت الحرية والعدل. (تتردد السطور السابقة بينما يدخل أورشنابي وشمخات مسرعين.)
شمخات :
جلجاميش،
لا تتركنا.
لا تتركنا في الظل.
جلجاميش،
خذنا معك
ولا تتركنا في الظل.
أورشنابي :
نحن بنينا للحظة عشا
أدفأناه بأنفاس الحب،
والتف عجوز بعجوز
وتعانق قلب مع قلب،
والأمر يعود إليكم. (ثم متجها إلى الجمهور)
أنت وأنت وأنت!
لتحيا الأبدية مثلي
أنا وعجوزي شمخت،
في العمل وفي الحب
وفي ظل الصمت.
وبذلك نحيا
ونقلم أظفار الموت (يلف ذراعيه حول شمخات، ويدخلان من البوابة بينما تتردد أصوات متداخلة).
صوت :
الأمر يعود إليكم أنتم.
صوت :
الأمر يعود إلينا نحن؟
صوت :
أن نحكم بدوي الطبل،
ونصبح جيش السخرة والذل.
صوت :
أو نزرع زهرة أمل،
ونقيم سويا
وطن الحرية والعدل. (ينصرف الجميع. إظلام وستار.) (تمت بحمد الله.)
القاهرة، يناير 1991م.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
وكذلك مع أورشنابي ملاح مياه الموت
الفصل
الفصل
صفحة غير معروفة