وظهر في تلك المسألة كمظهره في غيرها الرجل الثبت القوي، لكنه لم يسلم من لسان الجرائد الاشتراكية رغما عن انتصاره في مجلس النواب.
كانت جارتي العجوز متحمسة لبرين إلى حد مضحك، نزلت للغداء ولأجل أن أتكلم سألت عما إذا كان الاعتصام لا يزال كما هو، فلم تكد تسمع كلمتي حتى بدأت حديثا دفاعيا استغرق كل مدة الطعام.
في المساء كانت ساكتة ودار الحديث بين الإنكليزيتين والكندية، هذه السيدة زوج كندي إنكليزي، ولهما ابن كان موضع كلامها هذه الليلة، قالت: يطلب أبوه أن أكسوه وأربيه على النظام الإنكليزي، أنا لا أكره البساطة في لباس الأطفال ولا أكره أن أعوده الرجولية والإقدام من طفولته، ولكن مهما طالبني به أبوه فإني أربي نفسه على أن تكون كندية لا إنكليزية على أن يكون ابن كندا وصاحبها لا ابن مستعمرة إنجليزية خاضعة. عجبت أنا لهذا الحديث بعد أن أخبرتني في العام الماضي كندية إنكليزية أنهم لا يهتمون بأمر استقلالهم لأنهم الآن حكام البلد وذلك يكفيهم، خصوصا وأن كندا بلاد واسعة موحشة قليلة السكان كما أن الإنكليز لا يضايقونهم في شيء ما.
انتهت هذه السيدة من طعامها وقامت، ولما أخبرت الإنجليزيتين بشديد عجبي أخبراني أن لا عجب أنهم في إنكلترا يفرقون بين الكنديين الإنجليز والكنديين الفرنساويين في الاعتبار والمعاملة، ويأخذون الحيطة من هؤلاء الآخرين في حين هما الأولون إخوة، أي أثر يكون لهذا الاختلاف على مصير كندا؛ لا أدري. •••
مضى علي إلى ذلك اليوم أكثر من عام في باريس، ومع ذلك لم أذهب مرة إلى جهة مونمارتر مهما تكن جهة الأتوال جهة الأغنياء وذات نظام وجمال؛ فإن كل شاب اعتاد الحي اللاتيني حيث الشبيبة وحيث سرورها يفيض في كل مكان وفي كل مظهر من مظاهر هذه الجهة العلمية من البلد يجد من نفسه دافعا يدفعها تجاه ذلك الحي، والواقع أن العربات الجميلة والملابس المترفة والشوارع المتسعة المنظمة وأبهة المباني الفاخرة وبهاء المنظر الذي يقابل العين حين تقف عند قوس الأتوال وتنظر إلى أي جهة من جهات الدائرة الكبيرة المحيطة به، الواقع أن ذلك كله لا ينسى، حديقة اللكسمبور ولا البانتيون ولا الشبيبة الناضرة التي تروح وتجيء في كل نواحي تلك الجهات؛ لذلك كنت كثيرا ما أترك مستقري وأخذ المترو لأنزل في محطة الأديون مركز الدائرة من الحي اللاتيني ... ذات ليلة وقد كنت في (تافرن البانتيون) جلس إلى جانبي شاب أحمر الوجه أصفر الشعر لا يتكلم الفرنساوية إلا قليلا، فسألته إن كان إنكليزيا.
أخبرني أنه نرويجي ولكنه يتكلم الإنكليزية أحسن من الفرنساوية لأنهم يتعلمون هاته اللغة في بلادهم من الصغر، ولا يكاد يوجد واحد من أهل بلده إلا يعرفها إلى درجة ما، وذهب بنا الحديث مذاهبه وعلمت أن له أسبوعا في باريس وأنه كان بالأمس في (كباريه جرلوت) بمونمارتر، وامتدحها أمامي.
من النفوس ما يبقى زمنا مقفلا أمام الواقع وحوادث الوجود مكتفيا بعيشه في عالم الخيال والمضاربات النظرية والمسائل العلمية، فإذا جاء عليها يوم تطلعت فيه لترى العالم كما هو ثم لتأخذ مما فيه بنصيب ظهر عليها التورط وجاهدت بكل وسعها لإخفاء ما تنويه، تريد أن تأخذ حظا من كل شيء وحدها؛ لأنها تحسب كل شيء كالكتاب يفيدك أكثر كلما أفرغت إليه نفسك، كما أن الخجل الذي يحيط دائما بالذين عاشوا عيش الوحدة يبعدهم عن مشاركة غيرهم في كل ما يخيل لهم أن عمله يجر إلى شيء من الريبة فيهم.
وإن أقدموا أخيرا على هذا العمل أقدموا خائفين وجلين، لذلك هم لا يرون من الحقيقة لأول الأمر شيئا.
كان ذلك شأني في أمر مونمارتر، أردت بعد تلك الليلة أن أذهب إليها واكتفيت من كل الاستعلامات عنها بأن عرفت اسم جرلو، وبعد تخبط طويل في البحث عنها وصلتها الساعة العاشرة ونصف مساء فإذ اني مبدر أكثر من اللزوم.
في مثل هذه الساعة يوجد في تلك الجهة من باريس، كما يوجد في غيرها، عائلات تريد أن تفرج الكرب عن نفسها، فإذا ما انتصف الليل وخلا الجو لأصحاب السهر ابتدأ يحل محل هؤلاء من الشبان وبنات مونمارتر ويدخل السرور على المكان بشكل فظيع، سرور غير مرتب ويملأ وجه كل إنسان، فتدور البنات بين الترابيزات ويلبسن برنيطة هذا ويرتدين رداء ذاك ويصحن ويدخن ويجذبهن الشبان نحوهن، والموسيقى تدق بنغمات شديدة ويتتابع المغنون والملحنون أشكالا وألوانا، ومن لحظة لأخرى ترن في المكان ضحكة من بعض النواحي التي أخذها جماعة معا من الشبان، وكأن في ذلك الجو - المملوء بالدخان حتى ليختنق - مخدرات تذهل كل من فيه عن همومهم ولا تدع مكانا إلا للضحك والسرور ... وسط هذه الضجة الفرحة بقيت أنا وحدي ساكتا حتى الساعة الثالثة بعد نصف الليل.
صفحة غير معروفة