ولكن راح المستر بكوك يلعن ذلك الحصان، وقد لبث يحدق في ذلك الحيوان الكريم بعينه، بين لحظة وأخرى، ويحدجه بنظرات حقد وجدة، وكان قد حسب في خاطره أكثر من مرة مبلغ الخسارة التي سوف يتكبدها إذا هو قطع رقبته، ولكن فكرة إيراده موارد التلف، أو إطلاق سراحه في هذا العالم الفسيح يصنع فيه ما يشاء، عادت الآن تستبد بخاطره عشرة أضعاف رغبته الأولى، وإذا هو ينتبه من التفكير في هذه التصورات ونحوها، على ظهور شبحين فجأة، عند منعطف زقاق، وما لبث أن تبين أنهما المستر «واردل»، وتابعه الأمين ... الغلام البدين.
وابتدره الشيخ المضياف الكريم قائلا: «ماذا أرى؟ أين كنتم؟ لقد ظللت طيلة النهار أرتقبكم ... يا عجبا! ما بالي أراكم مجهدين حقا؟ ... وما هذا؟ ... أخدوشا أرى؟ ... أرجو ألا تكون جروحا ... إنه ليسعدني أن أسمع أن لا أذى ولا ضير ... يسعدني كل السعادة أن أسمع ذلك ...
أكذا انكسرت بكم العجلة؟ لا بأس ... ذلكم حادث مألوف في هذه الأنحاء ... يا جو ... أراه قد عاد إلى النوم ... جو ... خذ هذا الحصان من السيد، وقده إلى الإسطبل.»
ومضى الغلام البدين يمشي متثاقل الخطى خلفهم، وهو يجر الحصان، وأما السيد الكبير، فقد راح يواسي أضيافه بكلام رقيق، فيما رأوا من اللباقة أن يحدثوه به من أحداث يومهم هذا، وانطلق بهم إلى المطهى وهو يقول: «لا بد من إصلاح ما أفسده الحادث من ثيابكم هنا، ثم أتقدم بكم للتعارف بالقوم المجتمعين في قاعة الاستقبال ... يا «أما» هاتي نقيع الكرز الآن ... وأنت يا «جان» هاتي إبرة وخيطا في الحال، وأنت يا «ماري» فوطا وماء ... هيا يا بنات أسرعن.»
وتفرقت ثلاث فتيات بضات أو أربع سراعا لإحضار الأشياء التي طلبها السيد الكريم، بينما نهض خادمان ذو رأسين ضخمتين، ووجهين مستديرين، من مقعديهما في ركن المطبخ عند المدخنة، فقد كانا يجلسان بجوار النار المشبوبة كأنهما يصطليان في متعة محببة يوم عيد الميلاد، وإن كان الوقت مساء أحد الأيام في شهر مايو، والموسم الربيع، وانطلقا يغوصان في بعض الزوايا المظلمة، وما لبثا أن أطلعا منه «حقا» من الطلاء الأسود، وبضع فرش لمسح الأحذية ...
وعاد الشيخ الكبير ينادي: «قليلا من السرعة ... هيا ... تحركوا!» ولكن هذه النصيحة لم تكن ضرورية إطلاقا، فقد جاءت إحدى البنات فملأت الأقداح شرابا، وأقبلت أخرى بالفوط والمناشف، وتناول أحد الخادمين فجأة قدم المستر بكوك؛ حتى لقد خيف على الرجل أن يفقد توازنه، وانطلق الخادم ينفض الغبار عن حذائه، حتى أحس بأن أصابع قدمه قد التهبت نارا، بينما عكف الآخر على مسح ثوب المستر ونكل بفرشاة كثيفة من قماش، وهو لا يفتأ خلال ذلك يرسل ذلك الصوت المخيف الذي اعتاد سائقوا الخيل أن يرسلوه، وهم عاكفون على تطميرها.
وأما المستر سنودجراس، فما إن فرغ من الغسل والتنظيف والتجميل حتى ألقى نظرة عامة على المكان، وهو يولي ظهره إلى النار، ورشف شراب «الكرز» في ارتياح ومتعة، وقد وصف المكان في كناشته بقوله: إنه حجرة رحيبة الجنبات، رصفت أرضها بالآجر الأحمر، وازدان سقفها بأفخاذ الخنازير وأجنابها، وتدلت منها حبال من البصل وعقود، بينما تجملت جدرانها بعدة سياط مما يستخدم في الصيد والقنص، وبرذعتين أو ثلاث براذع، وسرج ، وبندقية قديمة صدئة كتب تحتها ما يفهم منه أنها محشوة ... كما كانت - والعهدة على الراوي - منذ نصف قرن على أقل تقدير، وساعة جدار قديمة، تبدو موحشة الصورة رزينة الشكل، لا تقل قدما عن تلك البندقية، وهي تتدلى من أحد الخطاطيف الكثيرة التي تزين خزانة أدوات المائدة.
وقال الشيخ الكريم: «على استعداد؟» حين فرغ أضيافه من الاغتسال، وإصلاح الهندام، وتنفيض الثياب، والتطمير، فأجاب المستر بكوك قائلا: «على أتم الاستعداد.»
قال: «هلموا بنا إذن!»
وبعد أن اجتاز الجمع عدة دهاليز مظلمة، ووافاهم المستر طبمن، وكان قد تخلف قليلا لينتزع قبلة من خد الجارية «أما»، وكان جزاؤه عليها ما يستحق من لكمات وخدشات - وصلوا إلى باب القاعة، فانثنى مضيفهم الكريم يقول وهو يفتح الباب، ويتقدم لإعلان قدومهم: «مرحبا بكم أيها السادة في ضيعة مانور.»
صفحة غير معروفة