كانت رواية «ولو» قد استغرقت في عرضها على الجمهور ثلاثة أشهر متوالية، لم ينقص الإيراد اليومي فيها عن الثمانين جنيها.
وكثيرا ما كان يزيد على ذلك، مما شجعنا على العناية بالرواية التالية، وقد اخترنا لها اسم «إش»، وهي أيضا من تلحين فقيد الموسيقا المرحوم الشيخ سيد درويش، كما أن واضع تلك الأزجال هو الزميل بديع خيري، الذي أضحى من ذلك الحين إلى اليوم وإلى غد وإلى أن نلقى الله، خلا وفيا وأخا عزيزا نتبادل الثقة ونتعاون في السراء وفي الضراء.
نالت رواية «إش» استحسانا مدهشا. وجاءت ألحانها بدعة من ناحيتي التأليف والتلحين. ويكفي أن أنبه الأذهان إلى اللحن الذي امتدت شهرته فتخللت الدور والقصور، وأنشده الكبير والصغير في عاصمة القطر وفي ريفه. ألا وهو «يا أبو الكشاكش كان جرى لك إيه يا هلترى. دقنك شابت في المسخرة وأمور الفنجرة».
وفي هذه الآونة كان الزعيم الراحل سعد «طيب الله ثراه» يؤلف الوفد المصري للقيام إلى مؤتمر الصلح في فرساي كي يدافع عن حق مصر في الاستقلال، ويعمل على استخلاص حقها ورفع الحماية الجائرة عن كاهلها. وكان رحمه الله ينادي بضرورة الاتحاد وجمع شمل الأمة تحت لواء واحد والتفاف عناصرها في كتلة واحدة مهما اختلفت النحل وتباينت الأديان والملل. ولقد انتهزت هذه الفرصة فضربت على تلك الوتيرة وضمنت رواية «إش» لحنا تلقيه طائفة من سياس الخيل، جاء في ختامه هذا المقطع: «لا تقول نصراني ولا يهودي ولا مسلم يا شيخ اتعلم. اللي أوطانهم تجمعهم. عمر الأديان ما تفرقهم».
وهكذا ظلت فرقتنا تؤدي واجبها الوطني على قدر ما تسمح به جهودنا المتواضعة. ولم أشأ أن أقف عند هذا الحد بل ساهمت في التبرع المادي، فدفعت لخزينة الوفد مبلغا شكرني من أجله المرحوم فتح الله بركات، وأولاني من عبارات التقدير ما لا أنساه.
فتحية وعبد الوهاب
وفي ذلك الحين - يعني في عز النغنغة والنجاح - كانت مطربة القطرين السيدة فتحية أحمد ضمن أعضاء الفرقة، وكانت إذ ذاك طفلة صغيرة تنال من إعجاب الجمهور واستحسانه قدرا وافرا، لأنها فضلا عن كونها مطربة جلية الصوت، ساحرة الغناء، كانت خفيفة الظل رشيقة الحركة دائمة الابتسام على المسرح.
وكثيرا ما كنا نعد لها قطعا تلحينية في صلب الرواية كانت تقوم بها على خير الوجوه، وفي إحدى الليالي زارني أحد الأصدقاء ومعه فتى صغير السن، لطيف المظهر، تبدو في عينيه دلائل النبوغ الذي لا يزال المستقبل يحجبه إلا على الخبير المتمكن وقد طلب مني الصديق أن الحق هذا الفتى بفرقتي، قائلا إن لديه موهبة قل أن توجد فيمن هم في سنه، وهي أنه يمتاز بحنجرة موسيقية نادرة، وصوت ساحر خلاب، وذاكرته فنية قوية.
لم أشك لحظة في أن الفتى يتمتع بهذه الأوصاف جميعا، فهل تدري من هو الفتى الصغير الذي نعنيه؟
هو الموسيقار الكبير الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولولا أن المجال لم يكن يسمح بضمه إلى الفرقة لانتظم في سلكها إذ ذاك.
صفحة غير معروفة