1 - نجيب الريحاني كما عرفته
2 - أول الطريق
3 - ثروة أضعتها
4 - في المسرح الكوميدي
5 - كشكش بك
6 - في خدمة الوطن
7 - كشكش تقليد
8 - في أمريكا الجنوبية
9 - عودة إلى: كشكش بك
10 - إلى الأقطار الشقيقة
صفحة غير معروفة
11 - بين المسرح والسينما
1 - نجيب الريحاني كما عرفته
2 - أول الطريق
3 - ثروة أضعتها
4 - في المسرح الكوميدي
5 - كشكش بك
6 - في خدمة الوطن
7 - كشكش تقليد
8 - في أمريكا الجنوبية
9 - عودة إلى: كشكش بك
صفحة غير معروفة
10 - إلى الأقطار الشقيقة
11 - بين المسرح والسينما
مذكرات نجيب الريحاني
مذكرات نجيب الريحاني
تأليف
نجيب الريحاني
مقدمة
صاحب المذكرات
بقلم نجيب الريحاني
قبل أن أسمح لنفسي بنشر مذكراتي، فكرت في الأمر كثيرا، لا لشيء إلا لأنني خلقت صريحا، لا أخشى اللوم في الحق، ولا أميل إلى المواربة والمداراة. فهل يا ترى أظل فيما أكتب متحليا بهذه الخليقة؟ أم يدفعني ما درج الناس عليه من مجاملة إلى المواجهة والتهرب؟
صفحة غير معروفة
ذلك هو موضع التفكير الذي لازمني قبل أن أخط في مذكراتي حرفا واحدا. أما وقد ارتضيت، فقد آليت على نفسي أن أملي الواقع مهما حاقت بي مرارته، وأسجل الحقائق مهما كان فيها من ألم ينالني قبل أن ينال غيري ممن جمعتني بهم أية جامعة، وربطتني بهم أقل رابطة.
ومضيت في مذكراتي على هذه الوتيرة، فإذا بي أشعر في دخيلة نفسي أنني أؤدي واجبا مفروضا، هو في الحقيقة تسجيل صحيح لناحية من نواحي تاريخ الفن في بلادنا العزيزة، وأصارح القراء الأفاضل بأنني كنت كلما سردت واقعة فيها ما يشعر بالإقلال من شأني، كنت أحس السعادة الحقة في هذه الآونة، سعادة الرجل الصادق المؤمن حين يقف أمام منصة القضاء فيدلي بشهادته الصحيحة، ويغادر المكان مستريح الضمير، ناعم البال، هادئ البلبال.
على أنني في مذكراتي هذه تناولت الكثيرين بما قد لا يرضيهم، ولكن أحدا لا يستطيع أن يناقضني في حرف واحد مما أثبت هنا، لأنه إن حاول أن يفعل، وقفت الحقائق حائلا بينه وبين ما يريد.
فهناك الزميل القديم علي يوسف مثلا ... لقد شرحت الكثير مما كان بيني وبينه من مواقع حربية في ميدان الغرام والهيام، وكذلك الحال مع السيدة (ص. ق) التي بلغ تنازعنا عليها حد شك المقالب، وتدبير الفصول الساخنة ... كل ما ذكرته عنهما حقائق صادقة.
ولعل بعض من تحدثت عنهن قد يسوءهن أن أكشف عن حقيقة رابطتهن الأولى بالمسرح بعد أن أصبحن في سمائه كواكب لامعة. وقد سبق لهن أن تحدثن إلى الصحف كثيرا، وشرحن تاريخ حياتهن كثيرا، ودبجن المقالات كثيرا، فشرحت كل منهن كيف كانت تمثل أمام المرآة، وكيف شغفت بالتمثيل منذ الصغر، وكيف عشقت الفن لذاته ... وكيف، وكيف مما لست أذكره، ولكن هل ذكرت في أحاديثها - ولو من باب تقرير الواقع (وبلاش المجاملة حتى) - شيئا عن كيف تقف على المسرح، وكيف تنطق أبجديته؟ أبدا ... وكأنه من العار عليها إذا اعترفت بأنها كانت ممثلة في فرقة الريحاني ... (وبلاش) مبتدئات يا سيدي!!
الفصل الأول
نجيب الريحاني كما عرفته
نجيب الريحاني بقلم الأستاذ بديع خيري
ليس غريبا أن تفكر دار الهلال - بمناسبة مرور عشر سنوات على وفاة نجيب الريحاني - في إصدار مذكراته التي خصها بها في حياته، وكتبها لها بقلمه، فشعارها كان دائما - ولا يزال - «لا يصح غير الصحيح، ولا يبقى إلا الأصلح». ونشر هذه المذكرات، وفي هذه المناسبة بالذات، تكريم للفن الأصيل في شخص كرس حياته لفنه.
وحينما دعتني دار الهلال أن أقدم لهذا الكتاب عن مذكرات أخي وصديقي الراحل نجيب الريحاني، غرقت في لجة من الذكريات، وعادت ذاكرتي إلى أيامنا الماضية، ومرت بخاطري صور الكفاح، وأدركت أنه ليس من السهل على المرء في بعض الأحيان أن يعبر عن نفسه، خصوصا حينما طالعت المذكرات، ووجدت أن الراحل الكريم قد وفى كل نقطة حقها، بصراحته المحبوبة وأسلوبه الشائق. ومن بين صفحات مذكراته برزت حياته الحافلة التي كرسها للمسرح وحده، وبرزت صور الكفاح حية نابضة بالحياة.
صفحة غير معروفة
هذه المقدمة إذا ليست إلا مجرد خواطر ... وذكريات ... وصور، جمعتها أشتاتا من ذاكرتي، صورة من هنا، وصورة من هناك ...
والصورة الأولى أن الريحاني لم يكن مجرد ممثل يكسب عيشه من مهنة التمثيل، بل كان فيلسوفا وفنانا ... فنانا أصيلا عاش لفنه فقط، ولقي الاضطهاد والحرمان وشظف العيش في سبيل مثله العليا.
كان الريحاني يمكن أن ينشأ موظفا ناجحا، وكان أهله يعملون لهذه الغاية. ولكن حب التمثيل كان يجري في دمه، فكان كل ما يكسبه من وظيفته ينفقه في إشباع هوايته، ثم دفعته هذه الهواية إلى هجر الوظيفة، مما أثار استياء أهله. وعانى في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان، وكان من فرط حبه لفنه يلجأ إلى الوظيفة كلما أعيته الحيل، ليجمع بعض المال الذي يتيح له العودة إلى التمثيل ... ولقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر.
وكثيرا ما كان تمثيله الرائع يسيطر على مشاعري، فإذا حاولت أن أبدي له إعجابي بتفوقه، نهاني عن ذلك، وشبه نفسه بالعابد القانت، الذي يسعى إلى التقرب إلى الله دون أن يراه. وكان من رأيه أن الممثل الأصيل لابد أن يسعى إلى الكمال المطلق، ويظل يسعى طوال حياته للوصول إلى هذا الكمال ... دون أن يراه أو يصل إليه!
ولقد كان نجيب يقدس فنه ويحترمه، وكان يكره الاتجاه الذي كان سائدا في تلك الأيام، والذي يدفع الممثل إلى تعاطي الخمر أو المكيفات قبل الصعود إلى خشبة المسرح، على زعم أن الخمر تشجع الممثل على مواجهة الجماهير وتقوي أداءه. ولم يحدث في حياة الريحاني أن شرب كأسا من الخمر قبل التمثيل ... وكان من فرط احترامه لفنه يعتكف في غرفته بالمسرح قبيل التمثيل بنصف ساعة على الأقل، ولا يسمح لإنسان - مهما كانت الظروف - أن يعكر عليه عزلته المقدسة. وفي عزلته هذه كان ينفرد بنفسه ليهيئها لمواجهة الجماهير، ويتقمص الشخصية التي سيمثلها، ويندمج في الدور الذي سيؤديه ... وكنت إذا رأيته وهو يغادر غرفته الخاصة في طريقه إلى المسرح لأداء دوره، خلته من فرط الانفعال شخصا آخر. والواقع أنه يكون في تلك اللحظة شخصا آخر فعلا: يكون الشخصية التي سيؤدي دورها في مسرحيته.
وقد بلغ من حب الريحاني لفنه أنه لم يطق اعتزال المسرح بناء على مشورة الأطباء عام 1942، وكان الدكتور روزات قد نصحه بالابتعاد عن المسرح ستة أشهر حرصا على صحته، فما كان من الريحاني إلا أن قال: «خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي»!
ولعل «نجيب» هو الممثل الوحيد - بل رئيس الفرقة الوحيد - الذي كانت تسره إجادة أفراد فرقته. وكان بعد أن يفرغ من أداء دوره يقف بين الكواليس، ويظل يشجع أفراد فرقته بالإشارات والإيماءات، بل يقدم هدايا شخصية للمجيدين. وكانت الصحف تتهمه بالكسل، ولكنه لا يعبأ بالاتهام ويقول: «خير لي أن أواجه الجمهور بمسرحية واحدة كاملة، من أن أقدم له عشر مسرحيات ضعيفة، أو فيها مواضع ضعف». ولهذا السبب كان يهتم جدا بالبروفات، وكثيرا ما كان يقضي شهرا كاملا في إجراء التدريبات على فصل واحد من فصول مسرحياته.
ولم يكن الريحاني الفنان يعبأ بالمادة في سبيل الإتقان، وكثيرا ما أنفق، وأغرق في الإنفاق، وركبته الديون، في سبيل إخراج مسرحية يريد أن يبلغ بها حد الكمال. كان لا يبخل على فنه أبدا، بل لقد كان يتبرم من امتلاء المسرح في الليالي المزدحمة، فقد كان يرى أن هذا الازدحام يحرمه من الجو الهادئ الذي يتيح له الإجادة. كان يفرح للجمهور المحدود، وكانت مواهبه بالفعل تبرز وتتجلى وسط المتفرج الهادئ، مع ما في ذلك من الفوارق المادية بالنسبة إليه كصاحب فرقة. وكان يشترط - لدى تعاقده مع المتعهدين والجمعيات الخيرية - ألا تباع تذاكر أعلى التياترو في الأوبرا بمصر، والهمبرا بالإسكندرية، على أن تقتطع قيمة ما تدره هذه الأماكن من الأجر الذي يتقاضاه شخصيا. •••
لقد كان فنانا أصيلا، مؤمنا بفنه ورسالته، وقد كوفئ على جهوده الصادقة وصبره وإيمانه، فقد انتزع تقدير الجميع واحترامهم واعترافهم بفنه. ولكن أكبر مكافأة وأعزها بالنسبة للريحاني كانت من أمه التي حاربت فنه واحتقرته، فقد أثمرت جهوده زهوا وفخارا من الأم بعمل ابنها، لذلك لم يكن يمل من رواية القصة التالية، في فخر وإعزاز وسعادة: «كانت والدتي تأنف من مهنة التمثيل، وتكره أن يعرف عني أنني ممثل. وحدث أن كانت رحمها الله في عربة «المترو» عائدة إلى المنزل في مصر الجديدة، فسمعت رهطا من الركاب يتذاكرون شئونا فنية ورد أثناءها اسمى، فأرهفت أذنها لسماع الحديث، وأصغت إليه بكل انتباه دون أن تشعرهم. وما كان أشد دهشتها حين سمعتهم مجمعين على الثناء علي، وامتداح عملي، والإشادة بمجهودي ... أتدري ماذا كان من هذه الوالدة العزيزة، التي تحتقر التمثيل وتنكره؟ لقد وقفت وسط عربة «المترو»، واتجهت إلى أولئك المتحدثين، وقالت بأعلى صوتها: «الراجل اللي بتتكلموا عنه ده يبقى ابني، أنا والدة نجيب الريحاني الممثل»! ... وخللي بالك من «الممثل» دي، وهي الكلمة التي كانت أمي تأنف أن «أوصم» بها، قد أضحت موضع زهوها وفخارها! وفي هذا اليوم، يوم المترو الذي لا أنساه، تفضلت والدتي رحمها الله، فشرفتني بالحضور إلى تياترو الأجيبسيانة خصيصا لمشاهدة ابنها الذي يقدره الناس دونها ويمتدحونه، فكان هذا اليوم من أسعد، إن لم أقل أسعد، أيام حياتي»!
ولقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة جومون الفرنسية عددا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم ياقوت، بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات!
صفحة غير معروفة
وفي حفلة أقامها نادي الضباط المصري قدم الريحاني مسرحية «حكم قراقوش» فهرع إلى تهنئته والإعجاب به سير سايمور هيكس، عميد المسرح الإنجليزي إذ ذاك، وقرر أنه إنما يشهد ممثلا في الصف الأول من الممثلين العالميين.
ولقد لقي الريحاني تكريم عظماء عصره، وكان من بين المعجبين به طلعت حرب، وسعد زغلول، وهدى شعراوي، وتوفيق نسيم، وغيرهم.
ولقد كانت للريحاني مبادئ في التمثيل ينفرد بها، فقد كان رحمه الله يعتنق مبدأ في «الميزانسين» - أي ترتيب حركة وأوضاع الممثلين - تخالف المألوف ... كان يترك للممثل الحرية في تغيير ما يشاء منها كل ليلة حسبما يقتضيه تكييف الممثل لميله واتجاهاته، ولكنه مع ذلك كان يتمسك بحرفية ألفاظ المسرحية دون تغيير أو تبديل! •••
والصورة الثانية هي صورة الريحاني الممثل الكوميدي، الذي أجبره جمهوره إجبارا على المسير في الاتجاه الكوميدي. ولقد كان الريحاني يحب الدراما، وربما كان ذلك بسبب الظروف القاسية التي مرت به. وكان على قدر مرحه وفكاهته، يعاوده الحزن في فترات متقطعة لمأساة أصغر إخوته «جورج الريحاني» الذي اختفى قبل موته بسنوات طويلة لغير ما سبب. وقد ظل سبب اختفائه حتى مات نجيب الريحاني - ولا يزال - لغزا غامضا تكتنفه الإشاعات، فمن قائل إنه أسلم وانضم إلى جماعات الصوفية، ومن قائل إنه ترهب واعتكف في أحد الأديرة!
وكان الريحاني يحن من وقت إلى آخر للدراما، ولكنه كان لا يلقى تجاوبا من الجمهور، ويقول الريحاني نفسه عن ذلك: «بلغ ما اقترضته عندما تحولت للدراما أربعة آلاف جنيه، وكان عدد الدائنين ثمانية وعشرين، فتصور مقدار ما كانت تسببه لي هذه الديون من ارتباكات متوالية، ثم تصور حالتي النفسية إزاء ذلك، ثم أعرني انتباهك لأقص عليك أن نكبتي لم تقف عند هذا الحد، إذ أصبحت هدفا لسخرية القوم، وشماتة الغير، وتهكم صاحبة الجلالة الصحافة ... كل هذه الحملات التي انصبت على رأسي متتابعة، كانت لأنني تجاسرت على «قدس» الدراما من غير «إحم» ولا «دستور!».
نعم ... أجبره جمهوره على ترك الدرامة، فقد كان الجمهور يراه فكها بالسليقة، أو كما عبر عنه أحدهم: «لا تتمالك أن تراه حتى تضحك، ولو من تكشيرته ووجهه المكفهر»! والواقع أنه حتى في تعبيراته وإيماءاته وحركاته كان فكها غير متكلف. كانت الفكاهة في دمه، وكان الممثل المفضل عنده هو شارلي شابلن، الذي كان يعتبره فيلسوف الفن، ولك أيها القارئ أن تقارن بين المعجب والمعجب به. لقد كان كلاهما فيلسوفا، وكانت فلسفة الضحك على نقائص المجتمع الذي يعيش فيه، فلسفة إصلاح تهدف إلى علاج هذه العيوب بإبرازها في شكل يجعلنا نضحك منها ونسخر!
ومع ذلك فقد كان لا يفتأ يعاوده الحنين إلى الدراما، فلما كتب عليه ألا يمارسها، كان يرضي ميله هذا بتغذية مسرحياته الفكاهية بالكثير من الدراما، ولولا محاولاتي الدائمة للحد من هذا الاتجاه، تمشيا مع رغبات الجمهور الذي كان يرى أنه خلق للفكاهة، لتمادى فيه! •••
والصورة الثالثة ... هي صورة الريحاني الوطني الثائر، الذي جعل من المسرح منبرا للوطنية ... الرجل الذي عالج السياسة بالفكاهة، وفتح عيون الجماهير إلى سوء حالها، وهاجم الإنجليز وأعوانهم في مسرحياته وتهكم عليهم، فلقي من عنت الاستعمار، واضطهاد السراي، الشيء الكثير. ويقول نجيب الريحاني في مذكراته: «حين رأيت من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب هذا الإقبال المنقطع النظير، رأيت أن أستغله استغلالا صالحا، وأن أوجهه التوجيه النافع، فرحت أنقب عن العيوب الشعبية، وأبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم أضمن ألحان الروايات ما يجب من علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعيت في كثير من هذه الألحان أن تكون أداة لإيقاظ شعور الجمهور، وتعويده حب الوطن، وإعلاء شأنه، والمحافظة على كرامته، والتغني بمجده الخالد، وعزه الطريف التالد. وكان من آثار هذا الإقبال، وذلك النجاح، أن تضاعف الخصوم والحساد، واختلفت أسلحة كل منهم في حربي: فمنهم من كان يطعن من الخلف بخسة ودناءة، ومنهم من كان يغازلني جهارا على صفحات الجرائد اليومية»!
وأشهد أن الريحاني لم يأبه بهذه الحملات على شخصه، وظل سادرا في حملاته التهكمية اللاذعة، فالريحاني إذن قد مهد بفنه للثورة الحديثة التي حررت مصر من الأدواء التي ضحك منها وتهكم عليها، وعلى رأسها الاستعمار والاستبداد والطغيان والاستغلال. واستمع إلى أغاني سيد درويش التي ضمنها الريحاني مسرحياته، تستمع إلى ثورة متأججة في سبيل العزة والكرامة والحرية. لقد كان الريحاني هو الفنان الوحيد الذي وقف في وجه السراي، وتهكم على الجالس على العرش، وأبرز مساوئ محترفي السياسة وأضحك الناس عليهم جميعا، مما أثار حقدهم وغضبهم. •••
والصورة الرابعة هي صورة الريحاني الإنسان الوفي لأصدقائه وأبناء مهنته. كان الريحاني يفر من الحفلات العامة، ولكنه لا يتردد في حضور حفل يقيمه أصدقاؤه، وكثيرا ما كان يقيم لهم الحفلات، وكان مبالغة في التكريم يطهي لهم لونا من ألوان الطعام، وإن لم يتسع له الوقت كان يصنع السلطات. ووفاؤه وحبه لخادمه النوبي «حسن صالح» - الذي اشتهر فيما بعد «بحسن كشكش» - يعد مضرب المثل. فقد كان نجيب يعتبره «قدم سعد»، إذ اقترن عصره الذهبي في المسرح بالتحاق حسن بخدمته. ومن بين النساء كانت صديقته «لوسي دي فرناي» هي التميمة السعيدة التي صحبت عشرته لها السعادة في الحب والمال. ويقول نجيب: «كانت لوسي صديقة لي، وكانت عونا في الشدة، ومساعدا يشد أزري، ويشدد عزمي، ولئن ذكرت في حياتي شيئا طيبا، فأنا أذكر أيام زمالتها، وعهد صداقتها».
صفحة غير معروفة
وكان الريحاني يؤمن بالحظ والفأل والأحلام. استمع إليه يقول حين اختلف مع صديقته لوسي وفارقته: «في أواخر عام 1920 كان الخلاف قد دب بين الصديقة لوسي وبيني، فافترقنا إلى غير عودة، ويقيني أن هذا الفراق كان أولى النكبات التي صبها القدر فوق رأسي، وساقها إلي حلقات متتالية، يأخذ بعضها برقاب بعض. ذلك لأن ما كان يغمرني من خير جارف، أضحى بعد ذلك البحر جفافا من كل ناحية، بل وشرا مستطيرا حتى لقد اقتنعت تماما أن هذه الفتاة كانت هي مصدر الأرزاق، وأنها إنما حملت في جعبتها بسمات الدهر، وحظ العمر»!
ولعل إنسانية الريحاني تبرز وتتجلى في أبرز صورها في جهوده التي بذلها في أواخر أيامه، لحث الحكومة على إقامة ملجأ للممثلين المتقاعدين، وحين شيد بيته الذي مات قبل أن يسكنه، كان يريد أن يخصصه بعد وفاته لهذا الغرض النبيل، ولولا أن المنية عاجلته، لكان قد أتم الإجراءات الرسمية، وتم له تحقيق أمنيته. •••
هذا هو الريحاني الذي تقرءون مذكراته اليوم ... الريحاني الفنان الأصيل، الذي كرس حياته لفنه الذي أحبه، وضحى بكل شيء في سبيله، ولقي الاضطهاد والحرمان والجوع في سبيله.
وإن لهذا الكتاب لمعنى جليلا ... معناه أن الريحاني الفنان لم يمت، ولكنه خالد في قلوب محبيه ... معناه أن الفنان الصادق لا يموت.
الفصل الثاني
أول الطريق
لست في حاجة إلى أن أرجع بالذاكرة إلى التاريخ الذي تلقفتني فيه كف العالم، فأقول مثلا إنني ولدت لخمس خلون من شهر كذا عام كذا ... أو أن ولادتي اقترنت بظهور كوكب دري في الأفق اعتبره أهلي طالع يمن وإقبال ... أو ... أو مما لا أرى فيه للقراء من فائدة، ويكفي أن أقفز بهم إلى سن السادسة عشرة، حين غادرت مدرسة الفرير بالخرنفش، بعد أن تزودت بالمئونة الكافية من تعليم وخبرة.
كنت في عهدي هذا أميل إلى دراسة آداب اللغة العربية، وأتوسع في الحصول على أكبر قسط من فنونها ولاسيما الشعر وتاريخ الشعراء.
لم أكتف إذ ذاك بما كنت أتلقى في المدرسة فجيء لي بمدرس خاص اسمه الشيخ بحر، كان يسر كثيرا حين كنت ألقي بعض المحفوظات بصوت جهوري، ونبرات تمثيلية، وإشارات تفسيرية، وما إلى ذلك مما كان يعتبره الشيخ بحر نبوغا وعبقرية.
أما كيف تولدت عندي هواية التمثيل فقد نشأ ذلك من إعجاب أستاذي الشيخ بحر بي وبإلقائي، كذلك كانت المدرسة تكلف طلبتها بين وقت وآخر بتمثيل بعض الروايات على مسرحها، وكثيرا ما كنت أندب لتمثيل الأدوار الهامة في هذه الروايات. وحين هجرت المدرسة اندمجت في سلك موظفي البنك الزراعي بالقاهرة. وتشاء المصادفات الغريبة أن يكون بين موظفي البنك في ذلك العهد الأستاذ عزيز عيد الذي لم يكن عمله هذا يمنعه عن موالاة التمثيل.
صفحة غير معروفة
أول غرام
وهنا أرى أن أشير إلى أول رواية اشتركت في تمثيلها وهي رواية (الملك يلهو) وكان قد ترجمها أديب اسمه أحمد كمال رياض (بك).
وإذا كنت قد أشرت إلى أول رواية فليسمح لي القارئ العزيز أن أعرج على أول غرام علق به قلبي.
كنا نجلس في قهوة إسكندر فرح المجاورة لمسرحه بشارع عبد العزيز (موضع سينما أولمبيا الآن) وكان بين الممثلين من زبائن هذه القهوة الممثل القديم علي أفندي يوسف الذي أصبح بعد ذلك من عتاة متعهدي الحفلات. وكان لعلي «قطقوطة» من بين الممثلات ما تزال إلى اليوم في عنفوان ... «الشيخوخة» تحتل أحد أركان قهوة الفن، كما كانت في الماضي تأوي إلى مثل هذا الموضع من قهوة إسكندر فرح، وتلك «القطقوطة» هي السيدة (ص. ق). كان علي يوسف يعتز بصداقة هذه الفتاة «باعتبار ما كان»، فلما كنت أذهب لأشاركهما في الحديث، كانت نظرة فابتسامة فمش عارف إيه ... فشبكان!!
وظلت أواصر الصداقة تنمو بيني وبين فتاة علي يوسف هذه، بينما كانت تتراخى بينها وبين صديقها، دون أن يعلم الرجل من أمرنا شيئا!!
وأخيرا «لعب الفار في عبه» ... وقاتل الله الفيران كلها من أجل خاطر هذا الذي لعب في عب أبي يوسف. أقول إن الشك بدأ يساوره، لكنه كان علي جانب كبير من اللؤم، فلم يبد لنا شيئا مما في نفسه، وعمل على مراقبتنا من حيث لا نشعر!!
يا مولاي
كنت في ذلك الوقت «ظبيا» في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، ومع عدم المساس بفضيلة التواضع أرى ألا مانع من الاعتراف أن «خلقتي» لم تكن لتقارن ب ... أستغفر الله العظيم، خلقة الصديق اللطيف علي يوسف، زد علي ذلك أنني كنت موظفا مضمون الإيراد، في حين كان منافسي (يا مولاي كما خلقتني).
كل هذه العوامل شدت أزري وقوت سببي فاتفقت مع الغزال النافر، على تمضية نهاية الأسبوع في الإسكندرية بعيدا عن علي يوسف ورقابته القاسية.
ومعروف أن يوم الأحد هو موعد العطلة الأسبوعية في البنوك، فحصل الرضا والاتفاق بيني وبين ... محبوبي!! على أن نغادر القاهرة ظهر السبت إلى الثغر، ثم نعود منه صباح الاثنين ولكن اسمع ماذا حدث ....
صفحة غير معروفة
قبل موعد الخروج من البنك زارني في مكتبي الصديق علي يوسف وألح علي في أن أقرضه شيئا من المال لأنه دعا بعض زملائه إلى نزهة خلوية، ولذلك يحتاج إلى كذا من»الفلوس»!! فأعطيته ما طلب ... وأنا أحمد الله على «زحلقته» وأدعو بطول العمر لأصدقائه أولئك الذين شغلوه عني في هذا الظرف السعيد. وودعت أبا يوسف إلى الباب وعدت إلى مكتبي مطمئنا. وفي الموعد المحدد قصدت إلى محطة سكة الحديد فوجدت «الكتكوتة» على أحر من الجمر في انتظاري على رصيف القطار الذي امتطيناه وقلوبنا ترقص فرحا.
وسار القطار بنا ينهب الأرض نهبا ونحن نحلم بالسعادة التي سترفرف علينا بأجنحتها في الثغر الباسم!
ووصل بنا القطار إلى الإسكندرية فنزلنا نسير وخلفنا «الشيال» يحمل حقيبتنا «المشتركة» وما كدت أسير خطوات متأبطا ذراع المحبوبة، حتى برز أمامي عزرائيل! في ثياب الصديق الملعون ... علي يوسف!! لقد اقترض اللعين مالي ... واشترى منه تذكرة السفر وجاء معنا في عربة أخرى بالقطار نفسه، وراح يستقبلنا هاشا باشا مرحبا، وهو يمد يده لي بالتحية شاكرا إياي على قيامي بدفع نفقات السفر، لحضرته ولحضرة بسلامتها «الست المصونة والجوهرة المكنونة» ... التي استلبها مني وتركاني أعض بنان الندم ... ولات ساعة مندم!!
أصارحك أيها القارئ الحبيب بأن الدنيا أظلمت في عيني في تلك اللحظة. وأحمد الله إذ كنت خلوا من السلاح. ولم أكن أحمل حتى ولا سكينة البصل، فأغسل بها الشرف الرفيع من الأذى!! وذهب العاشقان بينما ظللت واقفا في مكاني، حتى دنت ساعة القطار العائد إلى مصر فامتطيته وجئت أضرب أخماسا في أسداس!!
أحببت الدرام
ولنعد إلى غرامي بالتمثيل.
لم أكن في هذا الوقت أميل للكوميدي، بل كانت كل هوايتي منصبة على الدرام وحده. وكم كنت أستظهر قصائد هيجو وأشعار المتنبي ولزوميات أبي العلاء المعري، ثم أخلو بنفسي في المنزل، وهات يا إلقاء، وخذ يا تمثيل، حتى ضجت والدتي وكاد «يهج» من البيت إخوتي. ومع ذلك فإنني لم أكن أعبأ بمثل هذه العراقيل، وما دمت أرضي هوايتي، فبعدها الطوفان. وفي سنة 1908 استقال الأستاذ عزيز عيد من عمله في البنك وألف فرقته التمثيلية الأولى، مشتركا مع الممثل القديم سليمان الحداد. وقد احتلت هذه الفرقة مسرح إسكندر فرح بشارع عبد العزيز. وكانت رواياتها تترجم عن الفرنسية وكلها من نوع الفودفيل، ولعل القراء الأفاضل لم ينسوا بعد روايات «ضربة مقرعة» و«الابن الخارق للطبيعة» و«عندك حاجة تبلغ عنها» و«ليلة زفاف». وهذه الأخيرة ترجمها الأديب الكبير إلياس فياض.
وقد كنت بحكم ارتباطي برابطة الزمالة مع الأستاذ عزيز في البنك عضوا في الفرقة، وكانت تسند لي في هذه الروايات أدوار ثانوية صغيرة. ولم يكن هذا ليضيرني لأني - كما قلت - لم أكن أميل لهذا النوع إطلاقا.
وهنا كان إهمالي لعملي في البنك قد بلغ حدا لا يحتمله أحد والشهادة لله. فكم من ساعات بل أيام كنت أتغيبها وكم من ممثلة كانت تقتحم علي مكتبي في البنك - وخصوصا منية القلب الست «ص!».
ولم تجد إدارة البنك إزاء هذه الحالات الصارخة إلا أن تستغني عن عملي. وأي عمل يا حسرة؟ هو أنا كنت باشتغل؟!
صفحة غير معروفة
السنافور مفتوح!
لم يكن لي مثوى بعد هذا «الرفت» القاطع إلا «قهوة الفن» - أمام تياترو إسكندر فرح - أو منزل (حبيبة الفؤاد) في غيبة «صديق الطرفين» الأخ علي يوسف!
وما دام الحديث قد جرنا إلى هذين الصديقين فلنعرج عليهما بحادثة أخرى كاد يغمى علي بعدها. ذلك أن الفتاة - باعتبار ما كان - اتفقت وإياي على إشارة معينة هي أنها إذا وضعت نورا في النافذة، كان معنى ذلك أن علي بن يوسف غائب عن البيت، وأن في وسعي أن أزورها، والعكس بالعكس.
وفي إحدى الليالي تراءى لي أن نورا يشع من النافذة، فعرفت أن الطريق خال وأن السنافور مفتوح، فخلعت حذائي وتأبطته ثم صعدت درجات السلم بلا حركة، وطرقت الباب طرقا خفيفا جدا. وإذا الفاتح!! الفاتح هو غريمي العزيز علي يوسف!!! الذي تناول الحذاء من يدي، وتركني أعدو، إلى الشارع ببذلتي حافي القدمين!!!
4 جنيهات شهريا
أعود إلى قهوة الفن إياها. فأقول إنني اتخذت منها - بعد فصلي من البنك - محلا مختارا. وبعد أيام صادفني فيها الأستاذ أمين عطا الله فعرض علي أن أسافر معه إلى الإسكندرية بدال اللطعة اللي أنا ملطوعها، لأن أخاه الأكبر المرحوم سليم عطا الله ألف فرقة هناك هي محل عطف البلدية التي تساعدها بإعانة مالية. وقبلت بالطبع هذا العرض ولاسيما أن المرتب كان مغريا جدا ... أربعة جنيهات مصرية في الشهر! وهو أول مرتب ذي قيمة تناولته من التمثيل.
كانت فرقة المرحوم سليم عطا الله معتزمة تمثيل رواية (شارلمان الأكبر)، ولما كان العرف يقضي إذ ذاك بأن يسند دور البطولة إلى مدير الفرقة - وهو سليم عطا الله - فقد كان نصيبي هو الدور الثاني وهو دور شارلمان نفسه!
وتهيأت لي الفرصة التي كنت أرقبها من زمن، وهي أن يسند إلي دور في إحدى الدرامات. وفي نهاية الفصل الثالث من الرواية مشهد رائع وحوار بديع، بين (شارلمان) وبين بطل الرواية (سليم عطا الله) وقد أجهدت نفسي في أداء هذا المشهد وبذلت قصارى جهدي. فكان لي ما ابتغيت. إذ حالفني النجاح بشكل لم أكن أنتظره، حتى لقد أفهمني الكثيرون أنني طغيت على البطل نفسه وأغرقته في لجة الإعجاب التي سبحت فيها ظافرا.
وحين أسدل ستار هذا الفصل، هالني أن جمهرة من الفضلاء والأدباء - وأغلبهم من أصدقاء مدير الفرقة - صعدوا إلى المسرح وقابلوا المدير في غرفته، وطلبوا استدعائي حيث أجزلوا تهنئتي، ونصحوا للمدير بالاحتفاظ بي، لأنني سأكون - على حد قولهم - ممثلا لا يشق لي غبار.
وفرحت، لا بل «ظقططت» بعد هذا المديح الذي انهال علي من حيث لا أحتسب. وفي صباح اليوم التالي استدعاني الأستاذ سليم مديرنا (رحمه الله) فقلت يا واد جاك الفرج! وظللت أخمن وأحذر مقدار العلاوة التي سيتحفني بها وإن كنت أنا شخصيا قانعا بالجنيهات الأربعة التي ربطت لي.
صفحة غير معروفة
وحبكت أزرار جاكتتي، ودخلت على مديري باسما متهللا معللا نفسي بالآمال قائلا في سري ... إنه يكفيني أن تكون العلاوة جنيها واحدا و«خليني» لطيف، لأن (الطمع يقل ما جمع). وبعد هذا الحوار الظريف بيني أنا نجيب الريحاني وبين نفسي التي هي أمارة بالسوء، ابتدرني المدير قائلا بتلك الجملة المأثورة التي لا يزال صداها يرن في أذني: - أنا متأسف جدا يا نجيب أفندي لأن الفرقة استغنت عنك ...!
يا نهار زي الحبر يا أولاد!! استغنت عني!! وهل يعتبر النجاح جرما يعاقب عليه الممثل؟ وإذا كان الأمر كذلك فلم لم تصدر لي الأوامر قبل التمثيل حتى كنت ألجأ إلى السقوط التام والفشل الزؤام؟!
نهايته. لم أجد فائدة من الأخذ والرد فأخذتها من قصيرها وعدت أدراجي إلى القاهرة، وفي قهوة الفن متسع للجميع!! ومن فات قديمه تاه!!!
عود إلى الوظيفة
طال بي عهد الخلو من العمل، فحفيت قدماي سعيا، حتى كانت سنة 1910، حيث عثرت على وظيفة في شركة السكر بنجع حمادي فسارعت إلى تسلم عملي هناك، مبتعدا عن العاصمة وما فيها من شقاء، تاركا خلفي ذلك الوسط الخبيث، وسط التمثيل الذي أعشقه وأتمناه !!
وأظهرت نشاطا في العمل بشركة السكر كان موضع ثناء رؤسائي وإعجابهم. وبسم لي الدهر بعد عبوس وحالفني بعد خصام، وظللت أشق طريق المستقبل راضيا مطمئنا.
ودام الحال على ذلك سبعة أشهر فإذا المثل الخالد: «عند صفو الليالي يحدث الكدر». أقول إن هذا المثل تراءى لي شبحه بعد هذه الأشهر السبعة فقوض ما بنيت للمستقبل من قصور الآمال، وحملني توا من حال إلى حال. هذا «الكدر» سببته واقعة ... قاتل الله الشيطان ... واقعة أذكرها هنا من باب التسجيل فقط، وإن كان الخجل يكسوني كلما طوح بي الفكر إلى تلك الذكرى البعيدة، ولكن ما باليد حيلة!!
كان باشكاتب الشركة رجلا مسنا اسمه (عم. ت) وكان رحمه الله على نياته وإذا ضربه أحد على خده الأيمن أدار له الأيسر، وكان كل همه أن يتلو الإنجيل ويستوعب معانيه. وكان مسكني مواجها لمسكنه وقد ولدت هذه الجيرة بيننا اتصالا وثيقا.
كانت السيدة حرم (العم ت) على جانب كبير من الجمال. وكانت في سن تسمح لها بأن تكون ابنة (للعم ت) لا زوجة له. كذلك كان الحال معي. وإلى هنا تسير المسألة في مجراها الذي ترسمه طبيعة كل شيء.
وفي أحد أيام الشهر السابع، اضطرت الأعمال حضرة الباشكاتب إلى السفر لمصر في مهمة مصلحية، وإذ ذاك خلا الجو للشباب. وحلا له أن يمرح، فحدث أن اتفقنا على ألا تغلق السيدة بابها الخارجي، حتى أستطيع المرور في منتصف الليل! وتم الترتيب كما اتفقنا، وذهبت السيدة إلى مخدعها بعد أن تظاهرت أمام خادمتها أنها أقفلت الأبواب. ولكنني لا أدري أي شيطان دفع بهذه الخادمة اللعينة إلى القيام بعد ذلك وإحكام القفل من الداخل. وحان موعد اللقيا فتسللت، وما أشد دهشتي حين وجدت الباب موصدا دون غرامي وأحلامي. واستشرت الشيطان فيما أفعل فدلني - قاتله الله - إلى منفذ في السقف (منور) تدليت منه ولكن الخادمة استيقظت في نفس اللحظة، وظنتني لصا يسطو على المتاع، فصرخت بصوتها المنكر، وصحا الجيران، ووفد الخفراء وألقي القبض علي. وكانت فضيحة اكتفوا عقبها بفصلي من عملي فعدت إلى محلي المختار في قهوة الفن بشارع عبد العزيز.
صفحة غير معروفة
48 ساعة جوع!
لم يعد لي مجال في البيت بعد فصلي من شركة السكر، لأن والدتي كانت قد ضاقت بي، فأقفلت بابها دوني. وأنا رجل لم أعتد أن أطأطئ هامتي أمام أي خطب. فما العمل؟ وماذا أفعل لأحصل على القوت الضروري؟
أقسم أيها القراء الأعزاء أنني قضيت ثماني وأربعين ساعة لم أذق خلالها للأكل طعما. لا زهدا مني، ولا أسفا على شيء، ولكن لأنني لم أجد وسيلة أكتسب بها ثمن «لقمة العيش بلا أدام». ومع ذلك لم أحن رأسي ولم تذل نفسي، وبقيت أنا كما أنا ويفعل الله ما يشاء.
ولو كان أمري قاصرا على الجوع وحده لهان، ولكنني لم أجد كذلك مكانا آوي إليه كلما أدركني الليل، وذهب كل حي في المدينة يلتمس الراحة في فراشه. لذلك كنت أقضي الليالي وحيدا، أمكث في (قهوة الفن) إلى موعد التشطيب في الساعة الثانية من كل صباح، ثم أغادرها إلى كوبري قصر النيل، فأجوب تجاه الجزيرة سائرا على قدمي، حتى إذا أعياني الكد والنصب، استلقيت على الإفريز جانبا وتوسدت حجرا من أحجار الطريق مستريحا، إلى أن ترسل الغازلة أشعتها، فأستيقظ من نومي «الهنيء» وأعود أدراجي إلى المقر الرسمي (قهوة الفن).
كنز ثمين!
وإن نسيت فلن أنسى يوما قمت فيه من النوم، وتلفت فإذا تحت وسادتي «كنز»!! كنز ثمين يا سادتي لا يعرف قيمته إلا المفلسون!! هذا الكنز هو ... أتعرفون ما هو؟ «قرش تعريفة»!! وافرحتاه! خمسة مليمات ... حتة واحدة!! ما هذا الفتوح؟ وما هذه البشرى؟ حقا يا سادتي إذا كان المثل يقول «الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى» ... إذا كان المثل يقول ذلك فإنني أخالفه، وأقول: القرش التعريفة كنز في جيوب الأغنياء لا يحس به إلا المفلسون.
وعنها وسعت على نفسي في الإفطار، وإن شا الله ما حد حوش ...! فقد أكلت طعاما دسما عماده الفول المدمس والسلطة والطعمية، والعيش كمان، لأن أيامها كانت الدنيا مبحبحة و«القرش التعريفة» ثروة!!
نقولا كارتر!
وفي إحدى الليالي، وبينما كنت أقطع الجزيرة كعادتي كل مساء بعد تشطيب قهوة الفن، كان الظلام حالكا وكنت أتلمس مكانا أستريح فيه، فتعثرت قدمي بشيء تحسسته فإذا هو إنسان!! وحين استيقظ، وجدت فيه صديقي العزيز الكاتب المعروف الأستاذ محمود صادق سيف!! يا للداهية ما الذي جاء بك إلى هنا يا محمود؟ فأجابني بصوته الأجش إياه: «هو الذي جاء بك أنت يا نجيب!!».
قلت: إذن كلانا يسكن «فندقا واحدا»، وانطلقت منا ضحكة عالية هتكت أسرار الليل! وقمنا نسير سويا، وكل منا يشكو حاله لزميله. فاتفقنا على أن نتلاقى معا بعد منتصف كل ليلة لنتسامر، ونقتل الوقت في الحديث قبل أن يقتلنا جوعا. وسارت الأيام معنا سيرها العادي، إلى أن جاءني الزميل صادق سيف يوما وهو مبتهج متهلل، وقال: «اسمع يا نجيب ... فيه فكره عال! يمكن ينصلح معها الحال». إيه هيه؟ أجاب صادق: «إن صاحب مكتبة المعارف كلفني أن أعرب عن الفرنسية أجزاء بوليسية من رواية اسمها «نقولا كارتر»، واتفق معي على أن أتناول منه نظير ذلك مائة وعشرين قرشا عن كل جزء، وبما أن هذه الأجزاء ستصدر أسبوعية، فسيكون هذا القسط من حقنا كل أسبوع ... وبما أنك تجيد الفرنسية كما أجيد أنا العربية فهيا بنا نشترك في العمل ونقتسم الثمن مناصفة!».
صفحة غير معروفة
وفي الحال نفذنا الفكرة وظللنا نتقاضى الأجر فرحين مغتبطين. ولعل مما يجدر ذكره في هذه المناسبة، أن أقول إن صاحب مكتبة المعارف كان يدير فندقا في أعلى المكتبة، فاتفق وإيانا على أن نستأجر إحدى غرف الفندق نظير مبلغ خمسة قروش عن الليلة، وكان يخصمها من الأجر الذي نتقاضاه منه عن تعريب أجزاء روايات نقولا كارتر!! والطريف أن الحجرة كانت تحتوي على سرير، وكنبة مفروشة، فكان السرير بالطبع موضع نزاع دائم بيني وبينه على أن نتناوب احتلاله ليلة بعد أخرى، بحيث ينام أحدنا فيه ليلة، بينما يكون زميله نائما فوق الكنبة!!!
معرب وممثل
وبعد فترة من الوقت قابلني الأستاذ مصطفى سامي، وأبلغني أن فرقة شقيقه الشيخ أحمد الشامي تحتاج إلى مترجم ينقل إلى العربية روايات الفودفيل الفرنسية من نفس النوع الذي كان يعربه الأستاذ عزيز عيد وتمثله فرقته، واتفقت أنا على الانضمام إلى فرقة الشيخ أحمد الشامي، كمعرب وممثل بماهية قدرها أربعة جنيهات في الشهر.
والفرقة كانت جوالة تجوب مدن القطر من أقصاه إلى أقصاه، وكانت بطبيعة الحال إذا نزلت في بلدة اضطرت إلى البقاء فيها أسابيع، وربما أشهرا. فنزول أفرادها في فنادق كان من المتعذر جدا لأن هذا يكلف الفرقة مصاريف باهظة. ومن ثم كانت الإدارة تعمد إلى استئجار بيت من (بابه) ينزل فيه الجميع ويطلق عليه اسم «بيت الإدارة».
ولما كانت هذه البيوت غير مفروشة، فقد كانت تصدر إلينا التعليمات من إدارة الفرقة، قبل مغادرتنا القاهرة، كي يستعد كل منا بما يحتاجه من «مراتب» ومخدات و«ألحفة»، وكم كان منظرنا باعثا على الضحك حين كنا نلف المرتبة والمخدة واللحاف في «بقجة» ونقصد إلى محطة السكة الحديد.
نزلنا أولا في بني سويف، وصحبت «بقجتي» إلى البيت الذي قادونا إليه «بيت الإدارة». وبعد بني يوسف انتقلنا إلى غيرها، وظللنا كالمستكشفين بلد «تشيلنا» وبلد «تحطنا» حتى أتينا على آخر حدود مصر في أقصى الصعيد. وقد كان الناظر إلى بيت الإدارة في أي بلد من البلاد، يتراءى له فريق من المهاجرين لفظتهم أوطانهم وراحوا يبتغون العيش في بلاد الله ... لخلق الله!
مكوجي أرضي
ولما كنت من صغري أحب (أتعايق وأتهندز)، فقد كان يضايقني أن تقصر يدي دون الحصول على أجر مكوى ملابسي. ولكن كانت الحاجة تفتق الحيلة. وما دامت هناك «مراتب» أرضية فقد أغناني الله عن المكوى، وتعسف المكوجية، ذلك أنني كنت أرتب «البنطلون» ترتيبا منظما كما يفعل «المكوجي»، وأضعه بهذه الكيفية تحت «المرتبة»، فإذا نمت فوقها فعلت بالبنطلون نفس ما تفعله المكواة. وفوق كل ذي علم عليم! أما المشاجب، أو بالعربي الذي نفهمه نحن وأنتم «الشماعات»، فلم تكن لنا بها حاجة. ففي الحبال التي كنا نمدها في الغرف متسع للجميع، إذ كنا نعلق ملابسنا، أو بمعنى أصح ننشرها فوق هذه الحبال كما يفعل العرب الرحل إلى وقتنا هذا. وأعود إلى العمل فأقول إنني ترجمت للفرقة رواية «الابن الخارق للطبيعة» ورواية «عشرين يوما في السجن».
وبعد أن «شطبنا» على الوجه القبلي عدنا أدراجنا إلى القاهرة، لا لنحط بها الرحال ولكن لنستعد إلى غزو «الوجه البحري» وقد كان، إذ قمنا من فورنا «وفتحنا» طنطا!!
في (بيت الإدارة) بطنطا، وفي الساعة العاشرة من صباح أحد الأيام، بينما كنت أقوم بعملية «التمرغ» فوق المرتبة إتماما لكي بنطلوني، إذ طرق الباب طارق، وفتح أحد زملائي، فإذا الطارق والدتي بعينها!!
صفحة غير معروفة
وا كسوفاه! وا خجلاه! لقد كنت والله أتمنى أن تشق الأرض في تلك اللحظة وتبتلعني حتى لا تراني «أمي» على الحال التي كنت بها، خصوصا وأنني كنت (عامل أبو علي) طالع فيها، ومتظاهر بأنني في غير حاجة إلى أهلي ما داموا ينكرونني، ويرون في التمثيل رأيا لا أقرهم عليه. وقد سبق أن قلت بأنني كنت مطرودا من بيتي، لأن والدتي ساءها أن أكون ممثلا ....
تصور يا سيدي القارئ حالي في اللحظة التي اقتحمت فيها والدتي (بيت الإدارة)، وشاهدت ما يحوي من (موبيليا فخمة) وأثاث فاخر، وأنا الذي لم أحن رأسي في الماضي لإرادتها، ولم أطأطئ قامتي، لأدخل في روعها أنني على أحسن حال في عملي، ولست محتاجا لخير يأتيني على يد أهلي! أقول تصور هذا، ثم احكم بعد ذلك على الظرف القاسي الذي كنت فيه حين وصولها، لاسيما وأنها لم تدبر جهدا في إظهار نوع من العتاب هو أقرب إلى الشماتة منه إلى أي شيء آخر!
والآن دعني أشرح لك سبب مفاجأة والدتي في هذا الحضور الذي لم أكن أتوقعه.
وصل خطاب لي بعنوان المنزل (في القاهرة) من شركة السكر (بنجع حمادي) تدعوني فيه للعودة إلى استئناف عملي بها، ورأت والدتي أن تحمل الخطاب بنفسها إلي، إذ دار بخلدها أنني ربما رفضت أن أجيب الشركة إلى طلبها، وإذ ذاك تعمل هي (الوالدة) على ضرورة إقناعي بهجر التمثيل ... اللي صفته كيت وكيت ... من مأثور الكلمات التي كانت تخلعها الوالدة على هذا الفن ... الغلبان!
حيلة ...!
أما كيف طلبتني الشركة بعد استغنائها عني على أثر الحادث إياه، فقد كان هذا موضع دهشتي إلى أن وقفت على سر الأمر أخيرا. وإليك البيان:
حدث بين بعض موظفي الشركة وبين العم (ت) خلاف استحكمت حلقاته، ولكنهم لم يتمكنوا منه، ولم يجدوا سببا مبررا لفصله من عمله، فهداهم تفكيرهم إلى استعمال الحيلة كي يحملوه على الاستقالة.
والحيلة هي أن يعيدوني إلى عملي بالشركة، وإذ ذاك لا يجد غريمي العم (ت) مناصا من هجر الشركة، لا بل من هجر البلدة بما فيها. إن لم يكن اتقاء للفضيحة، فخشية تجدد الماضي بين روميو (الذي هو أنا)، وبين جولييت (وهي الحرم المصون).
قلت إن والدتي حملت إلي خطاب الشركة، وذلك بعد أن أضناها البحث عن مقر الفرقة التي أعمل بها. فكم وجهت السؤال إلى هنا وهناك، وكم نقبت عن أسر الممثلين تسائلهم عن أخبار أبنائهم، وأين يحطون الرحال. وأخيرا اهتدت إلى أننا نقيم إذ ذاك في طنطا، فجاءت على عجل.
عودة إلى الوظيفة
صفحة غير معروفة
لم أتوان بعد الاطلاع على خطاب الشركة في جمع عزالي، وهي عبارة عن المرتبة واللحاف والمخدة والكام هدمة، والعودة سريعا إلى القاهرة، تاركا الجمل بما حمل ومنها إلى نجع حمادي حيث استلمت عملي، وأنا أقسم جهد أيماني أنني لن أعود إلى التمثيل مهما حدث، ومهما كانت الأسباب!! فهل بررت بقسمي هذا أم حنثت!!
قدمت أن السبب في استدعاء الشركة لي هو تطهيق العم (ت) ليأخذها من «قصيرها» ويولي الأدبار!! ولذلك رأى الرؤساء من باب النكاية فيه، أن يجعلوه تحت رياستي، وأن يكون من اختصاصي أن أراقب أعماله!!
ومع ذلك لم ييأس العم (ت)، ولم يتبرم بهذه التصرفات، بل لم يحرك ساكنا ... وأخوك تقيل! وقد رأيت أن «أتلم» شوية وألايمها، فعاملته أحسن معاملة، وصرنا من هذا الحين أصدقاء أعزاء.
واتجهت بكليتي إلى إتقان عملي ومراعاة الواجب فارتفعت بأخلاقي إلى مستوى لا بأس به. وفضلت فيما يختص بعلاقاتي بالجنس اللطيف أن أترك ما لقيصر لقيصر، وأن أخليني لطيف، وبلاش «المسخرة» بتاعة زمان. وقد كان! ولم يمض وقت طويل حتى حزت ثقة مدير الشركة وغيره من الرؤساء، فارتفع بذلك مرتبي إلى أربعة عشر جنيها في الشهر.
إغراء
وظللت قرابة العامين هانئا بعيشي راضيا بما كتب لي في سجل الحياة. ونظرت فإذا بي أقتصد من هذا المرتب في تلك المدة مبلغا يزيد على مائتي جنيه. ولما كان عام 1912 تسلمت - وأنا في نجع حمادي - خطابا من الأستاذ عزيز عيد (وكان في القاهرة طبعا) يخبرني فيه أن التمثيل قد ارتفع شأنه، وأن الأستاذ جورج أبيض عاد من أوربا، وهو ينوي تأليف فرقة بعد أن تلقى الفن في الخارج على نفقة صاحب السمو الخديو وأن ... وأن ....
وبعد تلاوة الخطاب أقول لك الحق، (زقزق) عقلي. وازنت بين ما يحويه هذا الخطاب من مزخرفات ومشوقات، وبين ما أنا فيه من نعمة شاملة وراحة كاملة. وأخيرا فضلت البقاء في نجع حمادي، ولتفعل فرقة جورج أبيض بالممثلين ما تشاء.
ومر بعد ذلك وقت بدأت أرى فيه الصحافة تهتم بالتمثيل، والجرائد اليومية تكتب عن فلان وفلان من زملائي، وتأتي على ملخصات للروايات التي تعرض، وكيف أن فلانا أجاد دوره، وأن السيدة (فلانة) بلغت في دورها حدا بعيدا من الإتقان.
أقول كنت أقرأ هذه الأشياء وأنا قابع في نجع حمادي، فخارت قوة المقاومة في نفسي، ولم أعد أحتمل البقاء في أقاصي الصعيد، تاركا هذا العالم الجديد يفتح ذراعيه لزملائي الأقدمين فعولت على الحصول على إجازة أقضيها في القاهرة لأرى عن كثب هذا الفن الذي أزهرت أيامه، وارتفعت أعلامه.
وجئت إلى القاهرة بإجازة شهرين، وكنت أحمل في جيوبي إذ ذاك مائتين من الجنيهات الذهبية الصفراء، كانت كل ما ادخرته من مرتبي في السنوات الماضية. ورحت أشاهد تمثيل جورج أبيض، وأتوسع في الإنفاق هنا وهناك، كمن ينتقم من أيام «الجفاف» التي أمضيتها في الصعيد.
صفحة غير معروفة
ولم تأت نهاية الإجازة إلا بعد أن أتت على آخر قرش أبيض من قروشي المدخرة للأيام السوداء. وأخيرا اقترضت أجرة القطار إلى نجع حمادي في الدرجة الثالثة يعني «ترسو». وكان الله بالسر عليما.
حنين إلى الفن
وهناك ساءت أحوالي، وعادت (غية) التمثيل تتراءى لي في الغدو والرواح، فلم يهنأ لي بال ولم يرتح لي فؤاد. وأذكر أن صديقا لي هو الدكتور جودة (طبيب الأسنان المعروف الآن) كان معي في نجمع حمادي، فكنت أجبره على الإنصات لي، حين كنت أقف أمامه لألقي قطعة تمثيلية مما رأيته أثناء زيارتي الأخيرة للعاصمة، فأقلد تارة جورج أبيض وتارة أخرى عزيز عيد أو أحمد فهيم، أو غيرهم من كبار الممثلين!!
وكم ضاق بي الدكتور جودة ذرعا، وعمل على التهرب مني حين كنت أجبره على سهر الليالي، لا في طلب المعالي، بل في وجع دماغه بأقوال لويس الحادي عشر، وصرخات القائد المغربي عطيل، وتأوهات الملك أوديب وغيرهم من بقية الشلة المحترمة التي يتزعمها أستاذنا الكبير جورج أبيض.
جمهوري الأول
وهكذا كان صديقي الدكتور جودة بمثابة (الجمهور)، الذي ألقي عليه ما اقتبسته من قطع تمثيلية، علقت بذهني حين كنت أشاهد روايات فرقة الأستاذ جورج أبيض الأولى.
لم يكن حظ «جمهوري» المسكين، (وهو الدكتور جودة) مقصورا على سماع مقتطفاتي «الأبيضية»، بل كنت أعمد أيضا إلى تأليف منولوجات وأزجال مثل معي فيها، وأغان ومنثورات فنية كنت أحمله «بالعافية» على سماعها، فإذا «زعل» فإن نهر النيل يمر بنجع حمادي، وماؤه ولله الحمد غزير فليشرب منه من يشاء ...!
وشاء الله بعد فترة من الزمن أن يزداد «جمهوري»، وأن يجد الدكتور من يحمل العبء عنه والصعب دونه، إذ وفد على نجع حمادي المهندس الظريف الأستاذ محمد عبد القدوس منقولا إلى مدرسة الصنايع هناك.
ائتلفنا إذ ذاك ائتلافا تاما، وتسلينا بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وتباحثنا كثيرا في فنون «الدردحة». ولست أدري أكنت أتلقى هذه الفنون على يد كندس، أم كنت ألقنه إياها. ولكنني أعترف على كل حال أنه كان «مدردرح جاهز» قبل أن ينزل ركابه في بلدة نجع حمادي.
كان عبد القدوس من هواة التمثيل، وكان حاله كحالي في جنون الفن. ولذلك كانت كل اجتماعاتنا جنانا في جنان!
صفحة غير معروفة
فهو يلقي علي منولوجا مثلا، بينما كنت أنا أجلس منه في مكان «الشعب» من الممثل، ثم يأتي دوري فألقي قطعة تمثيلية يحتل هو في أثناء إلقائي مكاني ... بصفة «متفرج» وهكذا، إلى أن يأذن الليل بالرحيل. وكم من سهرات لطيفة ونزه ظريفة ليس من حقي (وحدي) أن أغامر بوصفها، وإن كنت من ناحيتي أسمح للصديق عبد القدوس أن يتولى عني هذا الوصف!؟
ولم يطل مقام كندس في نجع حمادي، بل غادرها منقولا أو مرفوتا لست أدري، وإنما الذي أدريه أنه ترك وحشة وفراغا لم أكن أتوقعهما.
منوم مغناطيسي
وتدافعت الأيام متشابهة، إلى أن وصل لنجع حمادي رجل أجنبي ومعه زوجه (وهي فرنسية) وكان الرجل منوما مغناطيسيا، أتى يحيي بعض حفلات في «البندر». كنا نشاهده فيها يقوم ويؤدي بعض تجارب مستغربة من النوم الذي نراه من «الحواة» وأمثالهم.
على أن موضع الدهشة من الأمر هو تمكن زوجه من علم الكف، إذ كانت حين تتفرس في كف إنسان، تقرأ ما فيها وكأنها تتلو من كتاب بين يديها. وكم تمنيت أن أريها كفي، ولكن المبلغ المحدد لذلك كان مبالغا فيه. ولذلك فضلت التريث عسى أن يبعث الله بالفرج!؟
وفي إحدى الليالي ذهبت في «شلة» كبيرة من الأصدقاء إلى حضور حفلة لذلك «المنوم»، وبعد انتهائها تقدم الزوج يعلن أنه سيوزع تذاكر «لوتريه» ثمن الواحدة عشرون مليما بينها تذكرة واحدة تكسب؟
وما هو المكسب ...!
هو أن يزور صاحبها بمصر اليوم التالي مقر هذا الزائر كي تقرأ المدام كفه، وتطلعه على ما خفي من أمره.
واشتريت كغيري تذكرة، وأنا أدعو الله أن أكون الفائز، لأنني كنت - كما قدمت - في شوق زائد إلى هذه «العملية»؟
ولما انتهى توزيع التذاكر، وتدافع الأصدقاء وغيرهم لحضور عملية السحب، بقيت في مكاني مشفقا.
صفحة غير معروفة
وظهرت النتيجة فإذا الفائز زميل لي في الشركة اسمه عبد الكريم أفندي صدقي.
وبعد أن قمت بعملية «لعن سنسفيل» أبو الدهر القاسي والحظ العاثر، لم أجد بدا من الذهاب إلى عملي في الشركة كالمعتاد. فلقيني زميلي عبد الكريم صدقي ينعى حظه الذي (مش ولابد).
وأخيرا فرجت ...!
الله إزاي يا سي عبد الكريم؟ أنت إمبارح كسبان «لوتريه» تسوى الشيء الفلاني، والنهارده العصر عندك «رنديفو». الله أكبر ناقصك إيه يا خوي؟
وأجابني الصديق قائلا: «ما هو ده اللي مجنني. لأنه صدر لي أمر بالسفر دلوقت حالا لمأمورية لا تنتهي إلا بعد أسبوع، والرجل وامرأته يغادران نجع حمادي غدا. ولم يبق على القطار الذي أستقله غير دقائق معدودات!!؟
وما إن سمعت هذه «البشرى»، حتى قلت في نفسي جاك الفرج يا أبو النجب!!
وقبل أن أنبس ببنت شفة. واصل الصديق حديثه قائلا: «وبما أنني مش رايح أستفيد من التذكرة دي فخذها أنت وروح شوف بختك عند الوليه وجوزها»!!
الفصل الثالث
ثروة أضعتها
عند العرافة
صفحة غير معروفة
تناولت التذكرة التي «عليها العين»، وقبل الموعد المحدد كنت بين يدي الرجل وجلست المدام تقرأ كفي. ويا للغرابة والدهشة!
إنني لم أتعود في حياتي أن ألقي القول جزافا، كما أنني لست ممن يصورون من الحبة قبة، بل ولا أميل إلى التهويل والمبالغة في الوصف ... فهل تصدقني - أيها القارئ - إذا قلت لك: إن هذه السيدة أخبرتني بأشياء حدثت لي في الماضي، كما لو كانت معي، وأنها قصت علي ظروفا خاصة اجتزتها بنفس النمط الذي ذكرته؟ حقا لقد خبلت عقلي بما ألقت إلي من تاريخ حياتي الماضية، وتركتني ذاهلا أفكر كيف يمكن لامرئ مهما بلغ عمله أن يقف على مثل هذه التفاصيل الدقيقة المدهشة؟!!
وبعد ذلك تنبأت لي بما سيكون عليه مستقبلي!
كان ذلك عام 1913، وأقسم بالله غير حانث أنني ما زلت طيلة هذه الأعوام التالية حتى الآن أجتاز من أدوار حياتي مراحل سبق أن تنبأت لي بها هذه السيدة!
كنت أيامها موظفا بسيطا في شركة السكر أتقاضى مرتبا لا يزيد على أربعة عشر جنيها، ولم يكن أمامي ما يبشر بصلاح الأحوال أو تبدل الأيام، ومع ذلك فقد قالت لي إن حياتي عبارة عن ضجة صاخبة، وأن أموالا كثيرة ستتداولها يدي، وأنني سأنتقل من فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر، ثم يعود الغنى، ثم ... وهنا خانتني الذاكرة بكل أسف، إذ لست أعي تماما ما انتهى إليه تنبؤها، وهل أوصلتني في أخرياتي إلى هضاب الفقر المدقع، أم إلى وديان الثراء الممتع؟!
على أنني رحت أجول بالذاكرة في تأويل هذه التنبؤات فأما الفقر ... فهذا شيء متوفر والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. وأما الغنى، فمن أين يأتيني يا ترى؟
فتشت عن قريب لي من ذوي الثراء، ورحت أبحث عن شجرة العائلة، وأدرس أصولها وفروعها، لعلي أعثر على واحد بينهم لا وريث له قائلا: «يمكن يا واد يشوفك في وصيته بحسبة كام ألف مصري يبحبحوك» ... أمال بس منين رايح يجيني الغنى يا اخواتي إن ما جاش بالطريقة دي، هل يأتي من التمثيل؟ اسم الله ... ده اخوانا باسم الله ما شاء الله مكانش يلف الشهر إلا والجعيص فيهم يستلف قد ماهيته مرتين!!
نهايته لم يفدني التفكير شيئا، ولم يسعفني قاموس الأسرة ولا شجرتها المباركة، بما يروي غليلي، فتركت الأمور تجري في أعنتها ونمت بعد ذلك خالي البال هادئ البلبال!
طيب البال عرفناه، ولكن البلبال إيه كمان؟ والله ما أنا عارف. لم يقتصر ما أفضت به إلي هذه العرافة على موضوع الفقر والغنى، بل باحت لي بأشياء سرية في حياتي الخاصة. وأصارحكم يا سادتي أن هذه الأشياء وقعت بحذافيرها بعد سنوات منذ ذلك التاريخ!
أخاف السيارات
صفحة غير معروفة
هذا ولعل أحدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة.
السبب أن هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة أكون فيها! ومع أنها ذكرت لي. أن «ربنا إن شاء الله، حايجيب العواقب «سليمة»، إلا أنني خشيت من ذلك اليوم، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي. كما أنني إذا دعيت لركوب إحدى سيارات الغير، أو حتى سيارة «تاكسي»، أتوسل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله، وأن يسير على أقل من مهله، لأني مش مستعجل أبدا ...!
ومش مستعجل هذه ... أقولها دائما كلما ركبت سيارة، حتى ولو كان باقي على القطار الذي سأسافر فيه دقيقة واحدة. وكلمة في أذنك أيها القارئ الحبيب لم أقلها لغيرك والله إلى اليوم. تلك هي أنني أفضل دائما ركوب عربات الخيل، لا رفقا بالعربجية بل حرصا على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل!
خطاب مستعجل
وغادرتنا العرافة. ثم مضت بعد ذلك فترة زاد فيها اعتقادي بصحة نبوءاتها لأن الكثير منها كان قد تحقق في خلال تلك الفترة.
وفي صباح أحد الأيام - وكنا في عام 1914 - تسلمت وأنا في مكتبي بإدارة شركة السكر في نجع حمادي إشعارا بوصول خطاب مسجل (مسوكر) باسمي، فوقعت بإمضائي هذا الإشعار وقلبي يرقص فرحا، لأنني ذكرت ما قالته لي قارئة الكف من أنه سيأتي علي وقت ألعب فيه «بالفلوس» لعب. وهنا أتعبت فكري في البحث عن مصدر هذا الخطاب «المسوكر» وإذا كانت فيه أموال فمن أين أتت يا ترى؟
أقول إن أفكارا كثيرة دارت في رأسي دون أن أهتدي إلى حل هذا اللغز. وأخيرا قلت في نفسي، اصبر يا واد حبتين. ويكون الجواب في إيدك، ويا خبر بفلوس بكره يبقى بلاش!
وصبرت على نار إلى أن أشرقت أنوار ساعي البريد، فخطفت منه الخطاب خطفا وفضضته استعدادا لإخراج الشيكات التي احتواها المظروف!! ولكن ... آه ... قاتل الله «لكن» هذه التي تقلب الأوضاع وتعكس القصد على القاصد!
أتدرون يا سادتي ... من أين صدر هذا الخطاب المسجل؟
من المكتب المجاور لمكتبي!! من مدير الشركة! وهل تعلمون ماذا جرى؟
صفحة غير معروفة